الإنتخابات الإسرائيلية: مزيد من مزيج الرهاب والهمجية
صبحي حديدي
المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي، أحد أفراد قلّة قليلة من أصحاب الضمير الحيّ، وأحد أشرس ناقدي سياسات الدولة العبرية، المدافعين عن الحقّ والحقيقة في آن معاً ـ لا يتكهن بأنّ بنيامين نتنياهو سوف يكون رئيس وزراء الدولة العبرية القادم فحسب، بل يعتبر الأمر علامة مشجعة: ‘انتخاب نتنياهو سوف يحرّر إسرائيل من عبء الخديعة، لأنه إذا نجح في تشكيل حكومة يمينية، فإنّ الحجاب سوف يسقط وينكشف وجه الأمّة الحقيقي أمام مواطنيها وسائر العالم، بما في ذلك العالم العربي.
ونحن، ومعنا العالم، سوف نرى إلى أيّ اتجاه نسير، ومَن نحن حقاً. وبذلك فإنّ الحفلة التنكرية، التي تجري منذ سنوات عديدة، سوف تبلغ نهايتها’، يكتب الرجل في صحيفة ‘هآرتس’ الإسرائيلية، يوم أمس.
ويمضي ليفي للحديث عن سقوط الستارة وانفضاح الزيف الأكبر، أي ‘أكذوبة’ المفاوضات وعملية السلام، حين كانت إسرائيل تقول شيئاً، وتفعل نقائضه على الأرض، وهو ما سيتواصل ويشتدّ إذا فازت زعيمة حزب ‘كاديما’ تسيبي ليفني، أو زعيم حزب ‘العمل’ إيهود باراك، على حساب زعيم حزب ‘ليكود’.
نتنياهو سوف يعرض شيئاً مختلفاً، يكتب ليفي، لأنه ‘أوّلاً، ممثّل مخلص لنظرة إسرائيلية أصلية، تنطوي على انعدام مطلق للثقة في العرب وفرصة التوصل إلى سلام معهم، ممتزجة بنزوع إلى الحطّ من قيمتهم وتجريدهم من إنسانيتهم’. لكنه، ثانياً، سوف ‘يثير سخط العالم تجاهنا، بما في ذلك الإدارة الأمريكية الجديدة. ومن المحزن أنّ هذا قد يكون الفرصة الوحيدة لذلك النوع من التغيير الدراماتيكي المطلوب’! والأرجح أنّ ليفي يفكّر في أنّ الحكومة الإسرائيلية القادمة قد تتألف، أساساً، من ائتلاف أحزاب ‘ليكود’ و’شاس’ و’إسرائيل بيتنا’، وهو الاحتمال الذي يدفعه إلى انتظار معارضة هزيلة من الخاسرين، ومساندة مستقرة من ذلك الشارع الشعبي الذي يعتنق تلك ‘النظرة الإسرائيلية الأصلية’. وإذا كانت قيادة ‘شاس’ لا تحلم بعودة مظفرة، على غرار المقاعد الـ 17 التي أحرزها الحزب في انتخابات 199 (بالرغم من الفضائح المالية التي عصفت بزعيمه أرييه درعي!)؛ فإنّ زعيم ‘إسرائيل بيتنا’، أفيغادور ليبرمان، يبدو وكأنه سوف يتكفّل بتحقيق المفاجأة وانتزاع رقم في المقاعد يداني ما سيحصل عليه حزب ‘العمل’ أو يزيد عنه ربما. أرقام استطلاعات الرأي سوف تتراقص كثيراً، صعوداً أو هبوطاً، بصدد نتائج هذا الحزب، لكنها اليوم تمنحه 19 مقعداً مقابل الـ 13 التي قد يحصل عليها ‘العمل’، و26 لـ ‘ليكود’ و23 لـ ‘كاديما’. فهل من عجب، والحال هذه، أنّ لا يستبعد باراك المشاركة في حكومة تضمّ ليبرمان وحزبه، متسائلاً ببساطة: ‘إذا شكّلت حكومة مع جميع أصدقائنا وأراد الإنضمام إلينا، فلِمَ لا’؟
ولعلّ تفكيك المشهد الإنتخابي الإسرائيلي الراهن، غير المعقد مع ذلك، تقتضي إدراج واقعة استقالة نتنياهو من حكومة أرييل شارون، صيف 2005، احتجاجاً على الإنسحاب من قطاع غزّة، وهو التفصيل الذي جعله الزعيم الأوفر حظاً لقيادة ‘ليكود’ بعد قرار شارون الخروج من الحزب العتيق وتشكيل ‘كاديما’. آنذاك، كما في الراهن، كان المشهد يرتد إلى أواخر آذار (مارس) 1993، حين انتُخب نتنياهو زعيماً لحزب ‘ليكود’ ومرشحه لانتخابات رئاسة الوزراء… هو ذاته الرجل الذي حلّت عليه نقمة الناخب في سنة 1999 ومُني بهزيمة ساحقة مهينة أمام إيهود باراك، أجبرته على الإستقالة الفورية، وهو ذاته التي ينتظر اليوم أن تعيده صناديق الإقتراع من حيث أجبرته على المغادرة. وإذا كانت هذه الحلقة التعاقبية، الأشبه بالباب الدوّار، هي بعض قواعد اللعبة الديمقراطية في تبادل السلطة؛ فإنها، من جانب آخر، تعكس الكثير من ذلك المزاج الخاصّ المركزي الذي يتحكّم بالناخب الإسرائيلي وبصندوق الإقتراع تحديداً: مزاج الخوف من السلام، الذي يبلغ درجة الرهاب، والإنكفاء إلى الشرنقة الأمنية كلما لاحت تباشير تسوية ملموسة تتضمّن، أوّل ما تتضمّن بالطبع، هذه أو تلك من الإنسحابات الإسرائيلية.
الإسرائيليون أحرار في ديمقراطيتهم، بالطبع، غير أنّ للتاريخ دروسه التي يجب أن تمسّ معظم الحاضر والكثير من المستقبل في ما يخصّ مآلات ما تبقى من ‘عملية سلام’، لكي لا نتحدّث عمّا تبقى من سياسة سلام بالمعنى العريض المفتوح للمفردتين معاً. وللمرء أن يذهب، في صدد كهذا، إلى أشهر ‘اتفاق’ سلام تضمّن أيضاً ‘انسحاباً’ عسكرياً في عهد حكومة نتنياهو، أي ‘اتفاق الخليل’ الشهير الذي وقعه الأخير مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، مطلع 1997. آنذاك، وبعد شدّ وجذب وأخذ وردّ مواجهات مسلحة، في عملية تفاوض كانت تسير ‘على سكّة أفعوانية من تقلبات العقل والعاطفة’ حسب تعبير الوسيط الأمريكي الشهير دنيس روس، صار من المشروع لكلّ من قرأ بنود الإتفاق أن يتساءل ببساطة: علام كان الخُلف والخلاف؟
ورغم ما قد يلوح من سذاجة فطرية في مثل هذا السؤال، فإنّ مسوّغ طرحه لم يكن البتة ساذجاً: هل كانوا يختلفون حول عدد أفراد الشرطة الفلسطينية (600 بدل 400 مثلاً)؟ أو حول أعداد أخرى تزيد عن 20 عربة و200 مسدس و100 بندقية هي كامل التجهيزات المسموح للشرطة الفلسطينية باقتنائها؟ أيكون بعض النقاش قد دار حول القسمة غير الطبيعية بين 200 مسدس مخصصة لـ 400 شرطي، وكيف سيتاح لكلّ شرطيَيْن فلسطينيين أن يستخدما نصف مسدس، أو يتناوبا على المسدس ذاته؟ أم ‘العقدة’ كانت حول حكاية رشاشات ‘إنغرام’ الصغيرة للفلسطينيين، وبنادق M-16 للإسرائيليين؟ وفي شكوى نتنياهو من ‘المعضلات الأمنية العويصة التي تكتنف إعادة إنتشار الجيش الإسرائيلي’، هل كانت ‘جغرافية الحدود’ بين المنطقتينH1 وH2 هي جوهر التأجيل والتطويل، والذهاب إلى واشنطن، واستضافة دنيس روس، والإستجارة بالملك حسين؟
أولى حقائق ‘اتفاق الخليل’ أنه لم يكن حول الخليل، لأنّ المفاوضات الشاقة الطويلة لم تكن في الأصل تدور حول الخليل. والتفاهم الذي رضي به نتنياهو، بعد لأيٍ، كان بنود تفاهم عرفات ـ شمعون بيريس وقد طرأت عليها تعديلات لغوية وتقنية صرفة لا تمسّ جوهرها السابق. تلك كانت صيغة إجرائية حول تنفيذ ما تبقى من فصول أوسلو الأمّ، أي أوسلو الكبرى التي لا يمكن أن تكون محصلة حسابية بسيطة لمجموع الـ ‘أوسلوات’ 1 و2 أو حتى 3، ولكنها في الآن ذاته لا تستطيع اختزال محتواها بمعزل عن تراث الإتفاقات الصغيرة. ولهذا كانت الروابط وثيقة بين إعادة الإنتشار في الخليل (أو ‘تسليم المفتاح’ كما كان يحلو لبعض الضباط الإسرائيليين القول)، وبين مفاوضات الوضع النهائي، ثم مفاوضات ‘القضايا الكبرى’ أو القضايا العالقة، وفي رأسها مسألة تحديد وتعريف السيادة الفلسطينية (دولة، حكم ذاتي بمثابة دولة غير مستقلة، حكم ذاتي يتمتع بحقوق الدولة، بانتوستان، الخ…)، وقضايا فنية مثل ميناء ومطار غزّة، والمعبر الآمن الذي يصل غزّة بالضفة، وقضايا أخرى غير فنية مثل عودة اللاجئين الفلسطينيين ووضع مدينة القدس.
كانت الروابط وثيقة، لكنّ الإرتباط لم يقع أبداً، وغاب آنذاك مثلما غاب بعدئذ عن صيغة الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة وتفكيك المستوطنات. الديمقراطية الإسرائيلية (كما عكستها صحيفة ‘معاريف’ واسعة الإنتشار، مثلاً) كانت قد عالجت هذا الإختلال حين كتب معلّقها المخضرم تامي شيلو مقالة باتت شهيرة منذئذ، اعتبر فيها أنّ نتنياهو رئيس حكومة ‘غامض’، بل هو أخذ يزداد غموضاً منذ تاريخ انتخابه بدل أن تتضح تدريجياً بعض ملامح شخصيته. وكتب شيلو: ‘في أحد الأيام تراه معتدلاً، وفي اليوم الآخر يصبح متطرفاً. تراه اليوم ينشد السلام حتى النخاع، وتراه غداً يزمع التهام العرب على مائدة الإفطار. يوماً ترى الدولة تُدار بهدوء وبرودة أعصاب وفطنة، وفي اليوم الآخر تبدو الدولة مثل مستشفى مجانين بلا إشراف ولا رقابة’.
في أيّ يوم من أيّام/أطوار نتنياهو تلك سوف تكون إسرائيل ـ ويكون الفلسطينيون، بل العالم بأسره ـ في ساعة السَحر المبكرة من يوم 11/2/2009، حين سيقول الشارع الإسرائيلي كلمته الفصل في تركيبة الكنيست القادمة؟ هل سيكون الرجل في حال السلام حتى النخاع (وليس هذا مزاج معظم الإسرائيليين، ممّن رقصوا احتفالاً بهمجية جيشهم قي غزّة)، أم في حال المتضوّر جوعاً إلى التهام العرب (وأيّ عرب هؤلاء، في الأساس: ‘عرب الممانعة’ الذين ينتظرون التفاوض والسلام/الإستسلام، أم ‘عرب الإعتدال’ الذين فاوضوا وسالموا/استسلموا؟)؟ وإسرائيل، المؤسسات والفيالق العسكرية والقنابل الفوسفورية والأحزاب وصناديق الإقتراع، هل ستكون دولة، أم مستشفى مجانين؟
لا بأس في العودة إلى الوراء، أبعد قليلاً، إلى مطبوعة مخضرمة عريقة تعكس عادة رأياً دولياً لا يُستهان به، لانه ببساطة رأي المال والأعمال من جهة أولى، ولأنه من جهة ثانية لم يعوّدنا على هذا النقد القاسي للدولة العبرية. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 1997، بعد أقلّ من عام على فوز نتنياهو، شنّت أسبوعية الـ’إيكونوميست’ البريطانية هجوماً كاسحاً ماحقاً، بل ومقذعاً في الروحية العامة والعديد من المفردات، ضدّ رئيس وزراء إسرائيل. عنوان الإفتتاحية وصف نتنياهو بـ ‘الأخرق على حلقات’، أو على نحو مسلسل بدأت فصوله الأولى منذ أيار (مايو) 1996حين انتخبه الإسرائيليون، فأدخلوا بذلك انعطافة نوعية على تقليدهم العتيق في الموازنة الإنتخابية بين اليمين ووسط اليسار، الأمر الذي لم يكن يشكل أي فارق كبير، ولكنه مع انتخاب نتنياهو صنع ويصنع الفارق كل الفارق. الفصول الأخرى لم تكن تبرهن على شيء قدر برهنتها على ‘موهبة نتنياهو الإستثنائية في الخروج بقرارات سيئة التدبير، إستفزازية، وفي التوقيت الخاطىء’: شقّ النفق الأركيولوجي في قلب الشطر الشرقي المحتلّ من مدينة القدس، والشروع في بناء ضاحية استيطانية على أراض محتلة، وإبقاء إنسحابات جيش الإحتلال في حدود نسبة 2′ ليس أكثر.
مسمار إفتتاحية الـ’إيكونوميست’ يأتي الخاتمة: ‘صحيح أنّ شركاءه في التحالف الديني القومي الحاكم مصممون على عدم التنازل للفلسطينيين عن بوصة واحدة من أراضي الضفة الغربية، وأنهم لو خيّروا لاختاروا الأرض على السلام. ولكن هل في وسعهم أيضاً أن يزوّدوا رئيس وزرائهم بالذريعة التي يحتاجها للقيام بما يريد القيام به أصلاً؟ في الماضي تمتّع نتنياهو بفضيلة الشكّ، فهل تتواصل هذه الحال إلى ما لا نهاية؟ كلا بالتأكيد. إن إسرائيل، إذْ تدخل نصف قرن من عمرها، لا تستحقّ رئيس الوزراء الذي يحكمها الآن. وينبغي عليه أن يرحل’.
ولقد رحل بالفعل، لصالح الجنرال المتقاعد إيهود باراك، الذي اندحر سريعاً بيد جنرال متقاعد آخر هو أرييل شارون، وننتظر أن يسفر باب الشارع الإسرائيلي الدوّار عن عودة نتنياهو، وكأنّ ما يسمّيه جدعون ليفي ‘النظرة الإسرائيلية الأصلية’ لم تتغيّر قيد إنملة… إلا في مقدار اتكائها على مزيد من مزيج الرهاب والهمجية!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –