ثقافة الحرب الأهلية ومثقفوها
ياسين الحاج صالح
«إن هؤلاء سفراء إسرائيل لدى العالم العربي، وأفضل من يوصل وجهة النظر الإسرائيلية إلى الشارع العربي بشأن حركة حماس». يفترض أن تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية، هي من قالت هذا الكلام، موصية بنشر كتابات عدد من الإعلاميين العرب على موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية. هناك بالفعل مقالات لعدد من الصحافيين العرب على موقع الخارجية الإسرائيلية، يوحدها نقد سياسات وتفكير أعداء إسرائيل النشطين من العرب، بالخصوص حماس وحزب الله. والأرجح أن الخبر لُفِّق بعد ملاحظة هذه المقالات التي نشرت في الأصل في صحف ومنابر عربية (بعضها أقدم من ليفني وزيرةً للخارجية الإسرائيلية). سوية المقالات متفاوتة، وبعضها رديء فعلا بصرف النظر عما تعبر عنه من مواقف (وبعض هذه موتور ومثير للاشمئزاز لتعنته وسفاهته). لكن لنشرها في موقع إسرائيلي متعدد اللغات غرض واضح: إن هناك عربا ينحون باللائمة على أعدائنا، ولسنا وحدنا في ذلك.
والحال إن هذا صحيح فعلا. وهو من حيث المبدأ برهان على تعددية فكرية وسياسية في الثقافة العربية ينبغي أن تكون موضع ترحيب حتى ممن لا يوافقون على ما يعبر عنه الكتاب المعنيون من آراء. مثل ذلك نجده بين الكتاب والصحافيين الإسرائيليين، ونسجله للبعض النقدي منهم علامة على الشجاعة الأخلاقية. ما ليس صحيحا في الحالين هو القفز من نقد عرب لعرب إلى اعتبارهم سفراء لإسرائيل. ومن باب القياس، هل آفي شلايم وميشال فارشافسكي ويوآف بار وكثيرون غيرهم من ناقدي إسرائيل الإسرائيليين سفراء للعرب؟
يبدو أن القائمة التي عمّمتها رسالة إلكترونية من موقع قومي عربي كانت موسعة عن الأصل الذي نشر في موقع يبدو مطلعا على كل الأسرار نسبه إلى مراسلته المفترضة في إسرائيل. وإلى قائمة «سفراء إسرائيل» الأصلية هذه (مكونة من إعلاميين خليجيين ومصريين أساسا) ضمت القائمة الموسعة أسماء كتاب وصحافيين سوريين ولبنانيين. ويبدو أن هناك قائمة ثالثة متوسطة الطول، ضمت إلى القائمة القصيرة أسماء لبنانية فحسب. الظاهر أنه تسنى لغير طرف أن يضيف إلى القائمة الأصلية سجل ضغائنه، فكان أن تعددت القوائم.
بيد أنها تنبع جميعا من مشكاة واحدة: ذهنية توتاليتارية، تضع قوائم بالخصوم، لأنها ترفض الخصومة الفكرية والسياسية. هناك خصومة ومشكلات وقلاقل لأن هناك خصوما ومثيري مشاكل يتعين استئصالهم. والغرض هو التطهير التام باستئصال جراثيم الانشقاق أو التعدد. المجتمع الطاهر والثقافة الطاهرة هما اللذان يقول الناس فيهما الشيء نفسه كما يقرره لهم مفتشون عامون على العقول والضمائر.
القائمة والتطهير متلازمتان. والتوتاليتارية هي الحاضنة الفكرية والسياسية لهما. (دولة القانون، بالمقابل، تضع قواعد تضبط الحقوق والواجبات وحيز المباح والمحظور، وليس قوائم بالأشرار. ثمة مقام مستقل ومقرر للخصومة، ما يلغي فكرة القوائم من أساسها).
****
التنافس على صنع قوائم لـ«سفراء إسرائيل» المزعومين وجه واحد من وجوه نكوص ثقافي وسياسي وأخلاقي عربي، يأخذ أكثر وأكثر طابعا هجوميا. يمكن ضرب أمثلة كثيرة على رفض نضالي وفي أوساط الكتاب وأهل الإعلام بالذات للتعددية الفكرية والسياسية. ويجري مجددا تعويم إيديولوجيات وذهنيات، إن لم تكن فاشية فهي سليلة أصيلة للموروث التوتاليتاري. وتواكب ذلك حملات تحريض وتشويه سمعة وتخوين لخصومهم، كان يفترض المرء أنها صارت نسيا منسيا. وبعد أن كان الفصام بين القول والعمل، بين نمط الحياة والمواقف المعلنة، آفة أصيلة عند عموم «الصوتيين» العرب، ينضاف إليه اليوم السلوك الهستيري الذي يلقى رواجا مدهشا، ويُحتفى بتعبيراته الكتابية والكلامية كأنها آخر أرفع فتوح الثقافة والمعرفة.
والقليل من القبول بالتعددية والتسامح وحرية الرأي والاعتقاد الذي كانت حازته الثقافية العربية في العقود الأخيرة ذهب ضحية الهجمات الثأرية والمتحمسة على الليبرالية. وتنبش من الماضي أعتدة فكرية وسياسية متعفنة، دون الاهتمام حتى بنفض العفن عنها. دون محاولة حتى تغيير طفيف في القاموس والأسلوب والنبرة.
ثمة شيء ظلامي بعمق ومضاد للثقافة في كل ذلك. حال أصحابه مثل مقالهم لا يكاد يخفي ذلك. لا يعرف عن أحد من أعلاهم صوتا إسهام ذو قيمة في الثقافة العربية المعاصرة، أو حتى إشارة إيجابية إلى أحد من المثقفين العرب الأبرز (تجد بالمقابل تقييمات لمحمود درويش تفضل «سجل أنا عربي» على «جدارية»، ويؤاخذ على أن «رينيه شار أو جاك دريدا، أو جيل دولوز، أو أوكتافيو باث…، أقرب إلى قلبه من الشيخ القرضاوي أو محمد عاكف أو راشد الغنوشي…»، كما تجد إدانات لإدوارد سعيد أو تسامح على مضض معه)، دع عنك الاهتمام بشيء من الثقافة الغربية أو أية ثقافة أخرى. وتجد السخرية من المثقفين والتعبير الصريح عن احتقارهم، على ما هو دأب الشعبويين في كل مكان. كل شيء هنا نضال وتعبئة وتحريض. فما الذي جرى للثقافة العربية حتى أمكن للعفن أن يكون هجوميا إلى هذا الحد؟
يصعب في هذه العجالة تقصي أصول ذلك، لكن لا ريب أن لحروب البوشية ومضاعفاتها ولحروب إسرائيل الدائمة دوراً في تقويض العناصر الليبرالية الهشة أصلا في الوعي العام. وتفاعل تلك الحروب مع هشاشة البنى والثقافات الوطنية في دولنا المشرقية (العراق، لبنان، فلسطين، سورية…) أثار مخاوف وهواجس وانفعالات حادة، وفجر أزمات ثقة وشكوكا متبادلة، وخلق مناخات موتورة هي ما تصدر عنها قوائم الأعداء ومنابر نشر الكراهية المزدهرة.
في المقام الثاني ثمة تأثير ثورة الاتصالات، الفضائيات وشبكة الانترنت بخاصة، في مجتمعات لا تزال الأمية تفتك بما بين ربع ونصف سكانها. هذا يضعف الثقافة العليا ويقزّم أبعادها الإنسانية والأخلاقية والجمالية، حتى عند المثقفين المكرسين، فوق أنه يؤهل كتابا وصحافيين وإعلاميين وناشطين متحررين التحرر كله من تلك الأبعاد. وإذ تشحن الفرجةُ الدائمة على الفظاعة النفوسَ بالانفعال والسخط والألم، دون وجود ما يتيح تحويل هذه الانفعالات إلى فن وأدب وإبداع فكري وثقافي (بفعل تآكل الثقافة العليا)، تغدو النفوس شاشات للفظاعة والقبح، تنقلهما حيثما انتقلت.
إلى ذلك ثمة أطراف قوية ونافذة، دول ومنظمات ومجموعات، لها مصلحة في إشاعة مناخ ملوث، يسهل لها حرق خصومها وتشويه سمعتهم والتحريض عليهم، بما في ذلك اعتماد البروباغندا السوداء وتلفيق الاتهامات الشائنة واختراع الأكاذيب.
المحصلة ماذا؟ ليس أبدا تعزيز البنية الوطنية لكل من الدولة والسياسة والثقافة في مجتمعاتنا، بل بالعكس تقوية كل ما هو انقسامي وعصبوي ومعاد للثقافة والوطنية فيها. إنها حرب أهلية تخاض بكل ما يتيسر. وبالعنف عند القدرة.
خاص – صفحات سورية –