غزة تقتحم السماء وتعري المتهافتين
الافتتاحية
مع انتهاء التهدئة بين فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة وفي مقدمتها حماس وبين الكيان الصهيوني، وهي التهدئة التي لم يلتزم بها العدو الصهيوني فعلياً، ولا سيما حين أبقت الشعب الفلسطيني تحت حصار وحشي لأشهر طويلة، فحرمته من الطعام والدواء والوقود وسائر ضرورات الحياة، قررت فصائل المقاومة رفض الاستمرار بتلك التهدئة (من جانب واحد) وعادت إلى قصف المستوطنات في جنوب الأراضي المحتلة عام 1948 مطالبةً بالعمل على تهدئة جديدة أساسها وقف إطلاق النار ولكن بشرط رئيسي هو فتح المعابر فعلياً،
وبصرف النظر عن تفاصيل كيفية فتحها، إلا أن حكومة الكيان الصهيوني وجدت في قصف المستوطنات من جديد ذريعة تخدمها في تنفيذ مخطط اجتياح غزة الذي كانت قوات الاحتلال قد خرجت منه صيف عام 2005، وانطلاقاً من هذه الذريعة توجهت حكومة العدو لتنفيذ المخطط الذي أعدت له جيداً منذ شهور طويلة، مستغلة فترة التهدئة للتحضير والإعداد.
ويأتي توقيت هذا الاجتياح الهمجي في موعد يخدم الطموحات الانتخابية للمجموعة الحاكمة (كاديما ـ العمل) ويستبق تسلم إدارة أوباما لسلطاتها فعلياً، كذلك يأتي هذا العدوان متزامناً مع مناخ استمرار الانقسام والصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني، بين الأخوة الأعداء، فتح وحماس.
حددت وزيرة خارجية كيان العدو أهداف الحملة العسكرية على القطاع بشعار (تغيير المعادلة في غزة وإعادة السلطة الفلسطينية إليها)، بالإضافة إلى مايلي:
1ـ استعادة صورة الجيش الذي لا يقهر بعد هزيمة عدوان لبنان في صيف عام 2006، من خلال إبعاد صواريخ المقاومة عن المستوطنات الصهيونية، إن لم يتمكن الجيش من القضاء عليها نهائياً.
2ـ تعزيز الحضور الانتخابي لأحزاب الحكومة الصهيونية (كاديما، العمل) في مواجهة اليمين الصهيوني (الليكود، وأحزاب أخرى) على حساب الدم الفلسطيني الغزّي، الذي يسيل أنهاراً.
3ـ استئصال قوة معادية للكيان الصهيوني (حماس والأذرع العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية)، وتسليم السلطة في غزة إلى حلفاء الحل التفاوضي مع الكيان.
وخلال الأيام الأولى من بدء الحملة العسكرية على غزة، ورغم السيطرة الجوية المطلقة، والتفوق الساحق في قوة النيران، فقد بينت عمليات القصف الجوي التي قام بها جيش الاحتلال الصهيوني أنه لا وجود لأهداف عسكرية في قطاع غزة، وأن كل ما هو موجود ليس إلا أهدافاً مدنية، لأنه في الأساس لا وجود لجيش نظامي في غزة، وما هو كائن لا يعدو كونه شرطة مدنية تابعة لحكومة حماس وبعض فصائل المقاومة.
ورغم كثافة نيران جيش الاحتلال من خلال القصف الجوي غير المسبوق، والقوة التدميرية الهائلة التي لم تميز بين البشر والشجر والحجر فإن صواريخ المقاومة الفلسطينية تستمر في الوصول إلى المستوطنات الصهيونية في الجنوب وشمال قطاع غزة، وبالعكس من هدف الحملة التدميرية العسكرية المعلن؛ فقد استمر انطلاق الصواريخ ضاربة مدىً أبعد في عمق أراضي دولة الكيان الصهيوني؛ حتى وصلت بعد “أسدود” إلى مناطق تعتبر عمقاً استراتيجياً ومواقعاً غاية في الحساسية الأمنية، كما هو الحال في استهداف قاعدة “بلماخيم” العسكرية التي لا تبعد عن تل أبيب عاصمة الكيان سوى 17 كم، وهي قاعدة رئيسية ومقر لسلاح الصواريخ الباليستية الصهيونية، وقاعدة “حتساريم” الجوية بالقرب من بئر السبع، التي يعتقد الخبراء العسكريون أن بجوارها تماماً أهم مستودعات الأسلحة الاستراتيجية النووية، وغيرهما من القواعد العسكرية الهامة، إضافة إلى مناطق ومستوطنات مأهولة أخرى، مما يؤشر بوضوح على تزايد احتمالات فشل الحملة العسكرية الصهيونية على القطاع من حيث الأهداف العسكرية.
وبعد 18 يوماً من العدوان/ الحرب، و11 يوماً من الاجتياح البري، ورغم التقدم المحدود والبطيء في المناطق الزراعية المكشوفة وغير المأهولة إلا أن المواجهات الشديدة التي حصلت على كافة محاور الاجتياح البري والمناطق الواقعة عليها (حي الزيتون، حي التفاح، الشجاعية بيت لاهيا …. وغيرها) تؤكد تماسك المقاومة وقوة موقفها الدفاعي عن الراضي الفلسطينية في مواجهة أعتى جيوش المنطقة.
ومنذ بداية الحملة يعمل جيش الاحتلال على قصف المناطق السكنية لتحقيق دمار كبير بالمساكن ومرافق الخدمات في قطاع غزة، لتأليب سائر الغزيين على حركة حماس وفصائل المقاومة، بزعم أن الحركة والفصائل المقاومة الأخرى هي السبب في دمار قطاع غزة وقتل وتشريد أهله، وقد زادت ضربات العدو عنفاً وحقداً في الأيام الأخيرة لدرجة استخدام قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً لإيقاع أكبر عدد من الخسائر البشرية في صفوف الغزّيّين أملاً بنجاح حملاته التحريضية على المقاومة، دون أن يكسب من ذلك إلا المزيد من الغضب على السلوك الهمجي والمزيد من الالتفاف حول المقاومة.
وبقدر ما يؤكد هذا الأسلوب تسليم القيادة الصهيونية بفشلها في تحقيق أهدافها العسكرية؛ فإنه يؤكد الطبيعة الوحشية للمشروع الصهيوني التي لا تلقي بالاً على الإطلاق إلى أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية أو قانونية ـ مواثيق جنيف لحماية المدنيين في حالة الحرب ـ حين تتعارض هذه المواثيق مع مصالحها.
مساعي وقف العدوان .. وسقوط الأقنعة
لقد أثبتت المحاولات المترددة والمتعثرة والفاشلة من الأنظمة العربية مدى تورط البعض وعمق أزمة البعض الآخر، (رفض عقد قمة عربية عاجلة والاكتفاء بلقاء وزراء الخارجية الذي نتج عنه إحالة الموضوع إلى مجلس الأمن، ثم محاولات إجهاض عقد مؤتمر قمة طارئ في الدوحة، بعد إصرار قطر على الدعوة لها).
كما أثبتت المحاولات الدولية فشلها هي الأخرى في وقف سفك الدم الفلسطيني، فذهبت المحاولات الدبلوماسية الدولية المشلولة المدعومة باستجداء وفد الوزراء العرب “المحرجين أمام شعوبهم” أبعد ما قدر لها حد إصدار قرار مجلس الأمن رقم 1860 المنزوع الأظافر، وحتى اللسان، وبدا هذا القرار وكأنه جائزة ترضية لوزراء دول “الاعتدال العربي” الذين صعقهم نبض شارعهم، فحرك فيهم حس الاستجداء فقط!!
وظهر جلياً مدى إفلاس وخضوع النظامين الرسمي العربي والدولي للهيمنة الأمريكية ـ الصهيونية، حتى أن مسؤولين صهاينة صرحوا علناً أن (إسرائيل تتمتع بتطابق مصالح نادر مع بعض الأنظمة العربية).
وبقدر ما عزز تطابق المصالح هذا وحشية وعزيمة العدو الصهيوني لسحق حماس وشعب غزة ومبدأ المقاومة عموماً، فإن دور النظام المصري و”سلطة أوسلو” يستحقان تنويهاً خاصاً، حيث لعب نظام كامب ديفيد دوراً فاعلاً ومباشراً في حصار غزة وشعبها مع كيان العدو، ولعبت “سلطة أوسلو” دوراً بالغ الأهمية في اعتقال كوادر ومناضلي حماس في الضفة وشل فعاليتها هناك، ومصادرة إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني الخاضع لهذه السلطة، (لنتخيل فقط” أية مصاعب هائلة ستنفجر في وجه الكيان الصهيوني لو أن إرادة المقاومة وقواها في الضفة تتمتع بحرية الحركة والفعل كما هي في غزة ؟؟!!)
ما بعد الحرب على غزة/وضع تاريخي جديد
إن معركة غزة تحتل موقعاً مفصلياً في الصراع بين مبدأ المقاومة والقوى التي ترفع لواءه، وبين مبدأ الاستسلام لقوى المشروع الأمريكي والصهيوني (ومنها عربياً: مصر كامب ديفيد، الأردن، السعودية، سلطة أوسلو….إلخ) بما يعنيه من وجوب إلقاء السلاح بحجة عبثية المقاومة ولا جدواها، والركون إلى قبول ما يمكن أن يعرضه العدو الصهيوني، والتكيّف التام مع المشروع الأمريكي، فإذا:
1ـ عجزت إسرائيل عن تحقيق أهدافها بإخضاع حماس وشطبها من المعادلة الفلسطينية السياسية، فإن هذا سيدشن وضعاً تاريخياً جديداً، يتميز بسقوط قدرة الردع الصهيونية (ولاسيما بعد فشلها الكبير في تموز 2006) وإثبات أن شعباً محاصراً ومجوعاً يستطيع فرض إرادته على عدوه العاتي المدجج بالسلاح، إذا توفرت له القيادة والتنظيم السياسي الكفء الذي يرفض الركوع، ولو كان الثمن باهظاً جداً، بشرياً ومادياً، إذ أن (مستقبل الشعب وحريته أغلى من كل ثمن) وسيجر هذا الوضع التاريخي الجديد نتائج كبرى على أوضاع أنظمة الاستسلام واستقرارها، ولا سيما على “سلطة عباس” و”نظام مبارك”، ونتائج بالغة الأهمية على مستقبل الكيان الصهيوني نفسه.
2ـ إذا ما تم للعدو الصهيوني سحق حماس وإخضاعها، (وهذا ما لم يحصل، ويبدو حصوله صعباً جداً) فإن قوى المقاومة والممانعة هي التي سيحيق بها الضعف، ليس في فلسطين وحدها، بل على مستوى الإقليم ككل، وستجد الإدارة الأمريكية والصهيونية كل المبررات لنقلة لاحقة في الصراع ضد الأطراف الأخرى المقاومة والممانعة، لاستكمال إخضاع المنطقة تماماً، وفرض الحلول المناسبة لصالحها.
ولأن المعركة بهذه الأهمية التاريخية، فإننا نرى مدى استشراس الكيان الصهيوني واستنفاره كل طاقاته السياسية والعسكرية، وضربه عرض الحائط بكل الاتفاقات والمواثيق الدولية الخاصة بحماية السكان المدنيين وحقوقهم، واتفاقات حقوق الإنسان وغيرها، (يرتكب العدو في غزة أفعالاً تتطابق تماماً مع ما يوصف قانونياً وحقوقياً بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية…إلخ) في مسعى وحشياً منه لتحقيق أهدافه بأي ثمن.
كما نرى في الأمر نفسه الثبات والبسالة الهائلة لشعب ظهره إلى الحائط، وقد تعلم من دروس تجربته المريرة ما يجب أن يتعلمه، كما نرى الشجاعة والكفاحية الرائعة لمقاتلي جميع فصائل المقاومة، بأسلحتهم البسيطة وإصرارهم على تسجيل النصر لشعبهم وقضيتهم، لا لسواه.
كما نرى في الآن ذاته مدى وقاحة وعناد قوى العمالة والارتهان العربية الرسمية في تورطها الخياني مع الكيان الصهيوني، لا سيما نظام كامب ديفيد، والنظام السعودي، ومن بعدهما سلطة أبو مازن، وبقية الجوقة الرسمية العربية.
وضوح الحقائق كما هي:
اليوم، وبعد أكثر من ثمانية عشر يوماً من العدوان، فإن إنجازاً بالغ الأهمية قد تحقق، وهو انكشاف الأنظمة العربية المتواطئة وافتضاح حقيقة مواقفها من كفاح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، لا أمام شعوبنا العربية فحسب؛ وإنما أمام شعوب العالم كله أيضاً.
وبالقدر نفسه، فقد أضيف تأكيد جديد صارخ على كذب ادعاءات الأنظمة الامبريالية الغربية عن التزامها بمواثيق حقوق الإنسان ومعاهدات جنيف، وكل ما يرتبط بها من قيم ومعايير حضارية وثقافية إنسانية، (رفضت أغلب الدول الغربية التصويت في مجلس حقوق الإنسان لصالح قرار بإرسال بعثة تحقيق في جرائم العدو في غزة) حيث يتأكد مرة أخرى أن تلك الأنظمة لا تهتم بتلك المواثيق إلا حين تتفق مع مصالحها، ولا تعيرها أي اهتمام، بل تخرقها بكل وقاحة حين تتطلب مصالحها ذلك.
ويضاف إلى ذلك اتساع وشمول التحرك الشعبي العالمي لنصرة الشعب الفلسطيني ضد وحشية وعدوانية الكيان الصهيوني (مظاهرات وحركة احتجاجات ضخمة للغاية خرجت في فرنسا وانكلترا وألمانيا وإسبانيا والنروج واليونان وغيرها من الدول الأوروبية، وفي اليابان وكوريا وماليزيا واندونيسيا وصولاً إلى أمريكا اللاتينية والشمالية).
حدثت كل هذه المظاهر الاحتجاجية الضخمة في الوقت الذي بذلت فيه أموال ضخمة وجندت قوى هائلة وظفت أمريكياً وصهيونياً (لضبط) الرأي العام العالمي وتضليله وتخديره، وهذه الحقيقة تؤكد أنه لا يمكن أبدأ الكذب على كل الناس كل الوقت، وأن الإنسان قادر بطريقته على استشفاف الحقائق والانحياز لما يتفق مع قيم ومعايير الحق، ولو بعد حين، ورغم كل محاولات التضليل والتخدير الهائلة والدؤوبة.
وفي حين يبادر النظام التركي لتحرك سياسي وإعلامي نشيط؛ مدعوماً بتحرك شعبي هائل لدعم الشعب الفلسطيني في غزة؛ محققاً حضوراً إقليمياً متزايداً، فإن ضعف ومحدودية فعالية النظامين الإيراني والسوري سياسياً تكشف مأزقهما السياسي الناجم عن حرصهما على حفظ خطوط المساومة مفتوحة مع الغرب (الأمريكان خصوصاً) وهو ما يكبلهما ويضعهما في موقع الممانعة، لا المقاومة، مجبراً كلاً منهما على إبقاء دعمه لحماس والمقاومة ضمن حدود معينة، سرية وغير معلنة غالباً، ويمنع كلاً منهما عن الإقدام على خطوات عملية رادعة توقف العدوان، أو تجعل العدو الصهيوني يدرك بوضوح أن عدواناً وحشياً كهذا إما أن يتوقف أو أنه سيضطره لدفع أثمان باهظة مع حلفائه (إجراءات قوية في المجالات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية).
أما أولئك المتأمركين المعادين لمبدأ المقاومة وحق الشعوب في مقاومة محتليها تحت ألف حجة وحجة؛ الذين كانوا يحاولون بالمس التعبئة ضد حزب الله مستخدمين الشحن الطائفي المنحط؛ فإنهم اليوم يهاجمون حماس لأنها (حركة دينية أصولية) ويرحبون صراحة أو مراوغة بالكوارث التي تحل بالشعب الفلسطيني بحجة أنها “تدمر حماس”، بعد أن سقطت من يدهم ورقة الشحن الطائفي هذه المرة، وحقيقة المر أنهم ضد حماس وضد حزب الله لأنهما يتبنيان مبدأ المقاومة؛ وليس لسبب آخر، بدليل أنهم لا يعادون ولا يهاجمون أياً من القوى الدينية الظلامية الرجعية جداً؛ طالما أنها لا تمارس فعل المقاومة ولا تتبناه، (انظر مثلاً الحكم السعودي المتخلف عن التخلف، كما وصفه المرحوم بومدين، وانظر جهاز الإفتاء والقضاء لديه، ومدى الظلامية الفظيعة التي يغرق فيها!!!)
ويبقى أخيراً أن نضع فوق كل هذا، وقبله، وبعده، الشعب الفلسطيني العظيم في غزة أولاً، وفي سائر أماكن تواجده ثانياً،” هذا الشعب الذي يثبت المرة تلو المرة مقدرة خارقة على الدفاع عن حقوقه وكرامته، ويثبت أنه لا يتورع أبداً عن محاولة “اقتحام السماء” بلحمه العاري، وبإبداع أبنائه وبطولاتهم، مكرساً بسلوكه مدرسة نضالية تاريخية متميزة، تضع المتهافتين من أزلام أوسلو في المكان والمستوى اللائق بهم وبأمثالهم، ومعهم كل أصحاب النفوس المهترئة والمهزومة والمستسلمة للأمريكان ومشروعهم، وللصهاينة وأطماعهم، تحت ألف حجة ساقطة… وحجة.
ــــــــــــ
المكتب السياسي
لحزب العمل الشيوعي في سوريا
خاص – صفحات سورية –