تأمين انخراط سوريا: المعوّقات والفرص

في ما يلي “الملخص التنفيذي” لدراسة عن العلاقات السورية – الاميركية وضعته “مجموعة الازمات الدولية” (ICG) وهي مؤسسة بحثية اميركية مستقلة مركزها بروكسيل. (الترجمة لنسرين ناضر).
تعهّد المرشح أوباما بأن سياسته في الشرق الأوسط قد تشمل الانخراط من جديد مع سوريا، لكن الرئيس أوباما سيجد أنه لا يمكن تجاوز الماضي بسهولة. تبقى الأسباب التي تقف خلف تعهّده قائمة. فسوريا تملك أوراقاً مهمّة في لبنان والعراق وفلسطين، وهي الحليف العربي الأهم لإيران، وتمارس تأثيراً كبيراً على “حماس” و”حزب الله”. هناك مؤشّرات عن أرضية مشتركة محتملة يمكن الاستناد إليها، من استئناف المفاوضات الإسرائيلية – السورية مروراً بترسيخ التقدّم في العراق وصولاً إلى كبح صعود القتالية الجهادية والمذهبية. لكن تبقى هناك عوائق مهمة أمام قيام علاقات صحية ومفيدة للجانبَين، إلى جانب إرث من النفور وعدم الثقة. وهذه العوائق تفرض الحاجة إلى مقاربة حذرة تسعى أولاً إلى إعادة بناء الروابط واستعادة الثقة. من الضروري أن نطمئن دمشق بأن الولايات المتحدة مهتمّة بتحسين العلاقات وتسوية النزاع الإسرائيلي – العربي، وليس بتغيير النظام. ومن الضروري أيضاً عدم المساومة على المبادئ الجوهرية مثل سيادة لبنان أو نزاهة المحكمة الدولية التي تحقّق في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
لقد قامت سياسة الرئيس بوش على الاعتقاد بأنه من شأن العزلة والضغوط أن تقود إلى تغييرات مهمة في السلوك السوري. لكنها فشلت في المقاربتين معاً. انهارت السياسة، ولم تتحقّق قط التغييرات المتوخّاة في السلوك. وقد شكّل التنبّه لهذه النتيجة، إلى جانب اقتناع السناتور أوباما بأن الإشراك – وبعيداً من أن يكون مؤشّر ضعف – هو علامة قوة ديبلوماسية، والخلفية للتعهّد الذي أطلقه في حملته، وعلى الأرجح أنه سوف يطبع سياسته الرئاسية. لم يعد السؤال المطروح، هل نُشرِك سوريا بل كيف؟
هنا تكمن الصعوبة، فالكلام أسهل من التنفيذ في موضوع الإشراك. فعلى الرغم من أن العداوة العلنية التي شهدناها في ظل إدارة بوش كانت أمراً شاذاً في العلاقات الأميركية -السورية، إلا أنه نادراً ما كان العكس هو المسار العادي للأمور. فحتى قبل رئاسة بوش، سواء في ظل الرئيس كلينتون أو أسلافه، كانت العلاقة مثيرة للإشكالية ويطبعها الخلاف بقدر ما يطبعها الحوار. من وجهة نظر واشنطن، استمرت سوريا في دعم المجموعات المقاتلة الفلسطينية واللبنانية؛ ومن وجهة نظر دمشق، استمرت الولايات المتحدة في الاحتفاظ بأجندة إقليمية لا تتناسب مع التطلّعات والمصالح السورية. باختصار، وفي حين أن الابتعاد عن إرث بوش هو جزء من الحل، فإن العودة بكل بساطة إلى ما سبقه ليست حلاً.
كما أنه لا يمكن العودة بالزمن إلى الوراء وكأنّ شيئاً لم يكن، حتى ولو كان أمراً محبَّذاً. لقد تركت الأعوام الثمانية الماضية بصمتها بطرق عدّة بحيث يتعذّر محوها أحياناً. والإرث الذي خلّفته هذه الأعوام ثلاثي. أولاً هناك شبكة الإجراءات القانونية أو الإدارية التي تستهدف سوريا. وتشمل مجموعة من القرارات الملزمة الصادرة عن مجلس الأمن الدولي والمتعلّقة بدور دمشق في لبنان، وإنشاء المحكمة الدولية للنظر في اغتيال الحريري، ومجموعة من العقوبات الاقتصادية الأميركية. ولا شك في أن هذه الإجراءات سوف تستمر في صوغ العلاقات الأميركية-السورية؛ وتلطيفها، في حال حدوثه، سيكون في الجزء الأكبر منه نتيجة غير مباشرة لتحسّن العلاقات وليس وسيلة لتحسين هذه العلاقات.
ثانياً، عمّقت السياسة الأميركية النفور بين البلدين. فعندما استدعت واشنطن سفيرها وخفّضت مستوى تمثيلها في دمشق وتجنّبت اللقاءات الروتينية مع المندوبين السوريين، ردّت دمشق بمقاطعة ما تبقّى من السفارة الأميركية. لقد عرفت سوريا تغييراً مهماً منذ آخر تفاعل طويل الأمد أقامته معها الولايات المتحدة. وسوف يستغرق صانعو السياسات وقتاً لفهم التحوّلات في أسلوب الحكم الذي ينتهجه النظام، وفي هيكلية السلطة والنظرة إلى التهديدات، والتموضع الإقليمي والمعوّقات الاقتصادية والاجتماعية. وما يزيد من صعوبة إجراء تحوّل في السياسة الأميركية هو أن الأعوام الأخيرة تزامنت مع تصلّب في مواقف الرأي العام والكونغرس من سوريا سوف يؤثّر حتماً في الفريق الجديد. لقد شهد معظم مستشاري الرئيس، وعلى الرغم من أنهم يؤيّدون سياسة الانخراط، على التدخّل السوري في العراق ولبنان، ويشكّكون في طبيعة النظام، ويتساءلون عن إمكانات حدوث تحوّل حقيقي في وضعيته الإقليمية، ويشعرون أن دمشق تبدي ميلاً أكبر للتحرّك عند تجاهلها وليس عند التودّد إليها.
ينبع عائق ثالث من التغييرات في المشهد الإقليمي. لقد زاد اجتياح العراق من حدّة التشنّجات المذهبية وعزّز النفوذ الإيراني؛ وأدّى إهمال النزاع العربي – الإسرائيلي وسوء إدارته إلى مدّ الرفضيين الفلسطينيين وسواهم من الرفضيين بالزخم؛ وعزّز الاستقطاب في لبنان وحرب 2006 نفوذ “حزب الله”؛ ورسّخت محاولات عزل سوريا روابطها مع إيران؛ والقتالية الجهادية في صعود؛ والعالم العربي منقسم أكثر من أي وقت آخر. سوف يؤدّي ذلك في نهاية الأمر إلى تعقيد أي عملية إعادة تموضع استراتيجية مفترَضة تقوم بها سوريا.
لكن هناك مؤشّرات مشجّعة أيضاً. فلأسباب عدة – ليست لمعظمها علاقة كبيرة أو أي علاقة على الإطلاق بالولايات المتحدة – يبدو أن دمشق تليّن موقفها حول العراق ولبنان، فتقوم على الأقل ببعض المجهود لضبط حدودها مع الأول بينما ترسي علاقات ديبلوماسية مع الثاني. وعلى الرغم من توقّف المحادثات مع إسرائيل بسبب الحرب في غزة والانتخابات في إسرائيل، إلا أنها قد تُستأنف بمشاركة أميركية. كما أن العلاقات مع تركيا أصبحت عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية السورية، مما يرسي توازناً مع التأثير الحصري لإيران ويمنح أنقرة نفوذاً حقيقياً. نستطيع أن نستشفّ مؤشرات عدم الارتياح في العلاقات السورية-الإيرانية؛ فمع قليل من الصبر والإدارة الماهرة، يمكن إحداث تحوّل جوهري فيها.  ستكون الخطوة الأولى التي يقوم بها الجانبان لتحقيق الانخراط بينهما، أساسية؛ فمن شأن الأخطاء أو الحسابات الخاطئة أو التوقّعات غير المتجانسة، أن تسبّب ضرراً كبيراً. في هذا التقرير، وهو الثاني من أصل ثلاثة تقارير حول الموضوع، تنظر مجموعة الأزمات الدولية بتعمّق أكبر في إرث الأعوام الثمانية الماضية، وتستخلص دروساً عن السياسة التي يجب أن تتّبعها الإدارة الجديدة حيال سوريا. وتستنتج أنه في سبيل تمهيد الطريق لعلاقة أكثر تحقيقاً للنتائج المثمرة، ينبغي على الولايات المتحدة أن تتّخذ باكراً الخطوات الآتية:
التحديد الواضح لمجموعة من المبادئ الجوهرية الموجِّهة، ومنها:
دعم تجدّد مفاوضات السلام على المسارات كافة والمشاركة فيها؛
انسجاماً مع المفاوضات الإسرائيلية – السورية السابقة، يجب أن ينص أي اتفاق نهائي على انسحاب إسرائيلي كامل من مرتفعات الجولان، وتطبيق تدابير أمنية صارمة وإقامة علاقات ثنائية طبيعية وسلمية؛
لا ترتيبيات أو تسويات حول المحكمة الدولية أو سيادة لبنان؛
يجب ألا يُقرأ احترام هذه المعايير الدولية بأنه يعبّر عن رغبة في زعزعة استقرار النظام السوري أو تغييره؛
الإقرار العلني بالإجراءات السورية الإيجابية.
إرساء قنوات اتصال فاعلة من خلال:
تعيين سفير؛
الطلب من سوريا معاملة الديبلوماسيين الأميركيين باحترام، ومعاملة الديبلوماسيين السوريين في الولايات المتحدة بالمثل؛
إنشاء قناة شخصية ومباشرة وذات امتياز بين الرئيسَين أوباما والأسد، ربما من خلال مبعوث السلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل؛
قيام مسؤول عسكري أميركي رفيع المستوى بزيارة سوريا في مرحلة باكرة نسبياً من أجل إرساء تعاون أمني بين الولايات المتحدة وسوريا والعراق. إعادة نظر متأنّية في العقوبات انسجاماً مع أهداف السياسات الواضحة، وترشيد إجراءات الترخيص وتخفيف القيود انطلاقاً من أسس إنسانية أو مرتبطة بالسلامة العامة، مثل القيود على المواد الطبية أو المعدّات المتعلقة بالطيران المدني للمساعدة على استبدال أسطول وطني قديم ومحفوف بالمخاطر.
تحدّث التقرير الأول في هذه السلسلة عن الدروس المستمدّة من التجربة الفرنسية في إعادة الانخراط مع سوريا. أما التقرير الثالث والأخير فسينظر في التطورات التي شهدها الجانب السوري ويقترح توصيات أوسع نطاقاً حول السياسات التي يجب أن تنتهجها واشنطن ودمشق.
مجموعة الأزمات الدولية