صفحات العالمقضية فلسطين

النكبة ولغة الجلّاد

الياس خوري
اصدر قسطنطين زريق كتابه “معنى النكبة”، عام 1948، اي انه لم ينتظر نهاية حرب فلسطين كي يصوغ رؤيته للكارثة وسبل الخروج منها. المؤرخ القومي، ومؤلف ما اطلق عليه اوائل القوميين العرب اسم “الكتاب الأحمر”، رأى شبح الكارثة المقبلة بعقله ووجدانه، وصكَّ العبارة التي ستلخّصها مسميا اياها “النكبة”.
غير ان “لسان العرب” يقدّم معنى آخر للكلمة.”النكبة هي المصيبة من مصائب الدهر”.
اضطر قسطنطين زريق بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، الى اصدار كتاب جديد بعنوان: “معنى النكبة مجددا”، مؤكدا لا الصفة النكبوية للكارثة الفلسطينية فحسب، بل ضرورة الخروج منها بموقف وسياسة عقلانيتين.
من جهة اخرى، اطلق الرئيس المصري جمال عبدالناصر اسم “النكسة”، على هزيمة الخامس من حزيران 1967. لكن كلمة “نكسة”، التي يُعتقد ان الصحافي والكاتب المصري محمد حسنين هيكل صاغها، لم تصمد طويلا. اذ سرعان ما بددها كتاب المفكر السوري صادق جلال العظم، “النقد الذاتي بعد الهزيمة”. فحلت كلمة هزيمة مكان كلمة نكسة. وبذا وُضعت الأمور في نصابها اللغوي.
خضعت كلمة نكبة لنقاشات عديدة، واتهمها الكثيرون بعدم الدقة، لأنها تحرر الأنظمة السياسية العربية من مسؤوليتها عن الهزيمة النكراء التي تعرضت لها الجيوش العربية في حرب فلسطين. وقيل ان استخدام هذا التعبير يجسّد قدرية العرب وعدم استعدادهم لمحاسبة انفسهم.
اذا اخذنا المعنى اللغوي الصرف للكلمة فإن منتقديها على حق. فنكبة الفلسطينيين ليست من عمل الدهر او الطبيعة، بل هي نتاج تطبيق المشروع الكولونيالي الصهيوني من جهة، وعجز العرب عن مواجهته، بل وتآمر بعض انظمتهم، من اجل تحويل التقسيم، التي ادعت رفضه واقعا، من جهة ثانية.
غير ان ما فات منتقدي زريق هو ان معاني الكلمات ليست ثابتة. امين الريحاني في “كتاب النكبات” قدّم مثالا على استخدام كلمة نكبة في وصفها كارثة تاريخية، من دون ان يتوقف عند معناها القاموسي.
لا ادري اذا كانت سابقة الريحاني هي النموذج الذي احتذاه زريق، لكن من المؤكد ان الكلمة تحررت من معانيها السابقة، وصارت تعني شيئاً واحداً اليوم، هو الكارثة الفلسطينية.
دخلت الكلمة في مبنى الكلمات التي لا تترجم الى لغات اخرى، بل تبقى كما هي، وحين تُستخدم فهذا يعني اننا نتكلم عن فلسطين. اغتسلت الكلمة بالتاريخ وولدت من جديد، وصارت مرادفة لفلسطين في جميع لغات العالم.
لا اعتقد ان زريق اولى الجانب اللغوي المفهومي عناية خاصة. فهو كغيره من مثقفي المرحلة القومية، كان يعتقد ان النكبة يمكن التغلب عليها بالوعي والعمل، ولم يخطر في باله ديمومة الواقع النكبوي ما يزيد على الستين عاما. لكن الكلمة صنعت مسارها الخاص، وتحولت الى جزء من وطن الكلمات الذي بناه الفلسطينيون في طريقهم الى الوطن.
وهذا ما يجعل منها عنوان المعركة التي يخوضها وزير التربية والتعليم الاسرائيلي من اجل اجتثاث اللغة والذاكرة الفلسطينيتين، عبر قراره محو كلمة نكبة من كتب التدريس.
اصيب الصهاينة بالدهشة من قدرة الفلسطينيين على خوض معركة الكلمات، الى جانب مقاومتهم السياسية والنضالية المستمرة. فالحركة الصهيونية ورثت المنطق الاستشراقي المضلل الذي يقول بأن العرب فقدوا قدرتهم على الإبداع الفكري والثقافي، وان التعامل مع الثقافة العربية في فلسطين ليس سوى تعامل مع جثة لا حياة فيها.
فوجئ الاسرائيليون بالكلمات، لذا نشهد فصولا مستمرة من الحرب على الثقافة الفلسطينية، من جنون رئيس الوزراء الليكودي الأسبق اسحق شامير، وهو يلوّح بقصيدة محمود درويش “عابرون في كلام عابر”، في الكنيست، مهددا ومتوعدا، الى غيرة ارييل شارون من الفلسطينيين لأنهم يملكون شاعرهم الوطني. والحملة الاسرائيلية ضد رموز الثقافة الفلسطينية تستمر حتى بعد الموت، وهذا ما يشير اليه تعاظم الحملة من اجل محو اثر ادوارد سعيد في الاكاديميا الاميركية، وفي الثقافة الغربية.
الهوس العصابي ضد كلمة نكبة يأتي من شعور اليمين الاسرائيلي بأن لغة الضحية تتفوق على لغة الجلاد. فهو يريد ان يمتلك اللغتين في آن معا. يتمترس خلف ذاكرة المحرقة النازية، وينفي صفة الضحية عن ضحيته. القاموس الثقافي الاسرائيلي يستند الى الذاكرة، ويقدسها. لكنه لا يريد لضحيته ان تمتلك ذاكرتها، لذا يقوم بتغيير اسماء المدن، كي يمحو ذاكرة الأرض، ويعمم كذبته عن تعمير الصحراء!
الكذبة انتهت اليوم، يكفي ان يرى العالم مشاهد الجريمة في غزة والضفة والقدس، كي تتفكك الادعاءات الصهيونية وتتلاشى. لذا قرر الاسرائيليون ان يخوضوا معركة دونكيشوتية مع كلمة واحدة، كتبها قسطنطين زريق منذ واحد وستين عاما، ونمت وكبرت كي تعلن ان الكارثة الفلسطينية تتحدى ضمير العالم بأسره.
نعم كانت نكبة، ونحن لا نشبهها بالمحرقة النازية، لكننا نعلن ألمنا على طريقتنا. لم نطلق على النكبة اسم الكارثة، رغم انها كانت كارثة لم يكن الشعب الفلسطيني يمتلك مقومات صدّها لحظة وقوعها. اسميناها بلغتنا، ولا نية لنا في تشبيهها بأي كارثة اخرى. قلنا انها النكبة، وجاء الاسم من تراكم المآسي، وصارت اسما آخر للشعب الفلسطيني، في انتظار ان تزول اسبابها وآثارها.
الوزير الاسرائيلي قرر منع الكلمة في المدارس العربية في اسرائيل، معتقدا بذلك انه يحقق انتصارا جديدا على لغة ضحيته. لكنه لا يعلم ربما، ان المصير الأخلاقي لناكري النكبة لن يكون افضل حالا من مصير ناكري المحرقة. لا لتشابه الحدثين، بل لتشابه الناكرين في عنصريتهم، وطريقتهم في استخدام الكلمات للتشفي من جثث ضحاياهم.
قال جدعون ساعر ان ما جرى عام 1948 لم يكن نكبة او كارثة بل كان مأساة. انظروا الى الفصاحة. لم يكن ينقص الوزير الحصيف سوى الاستناد الى ارسطو من اجل تحديد التراجيديا الفلسطينية!
لكنه نسي ان يخبرنا ماذا نسمي المآسي المتتابعة التي حدثت في كل القرى، والطرد الجماعي، ومذابح اللد والطنطورة وعين الزيتون ودير ياسين والى آخره… كيف نجمع الف مأساة في كلمة واحدة؟ كما تناسى واقع ان النكبة مستمرة اليوم في كل ارض فلسطين، وانها ليست مجرد ذاكرة.
قرر الفلسطينيون ان يكون لكارثتهم الوطنية اسمها، وهم لا ينتظرون وزارة التعليم الاسرائيلية كي تكتب حكايتهم. حكايتهم مكتوبة على اجسادهم، وفي مقابرهم المهدمة، وفي الألم الذي يرثونه عن آبائهم واجدادهم.
عندما تصل المعركة الى الكلمات، فهذا يعني ان اسرائيل بدأت تدخل في مرحلة العجز عن الكلام. لكنه عجز مخيف لأنه مدجج بالسلاح والعطش الى الدم. القاتل الأخرس فقد تفوقه الأخلاقي، وهو يتحول وحشا يغطي عجزه عن الكلام بالقنابل الفوسفورية التي اشعلت ليل غزة.
الحرب على كلمة نكبة، تؤكد الحدس الشعري لمحمود درويش حين شبّه المحتلين بـ “العابرين في كلام عابر”.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى