ل نعيش خارج هذا العالم؟
ه
عبد الله الجسمي
من يملك الحد الأدنى من الوعي النقدي للواقع في عالمنا العربي، سيجد أن العالم ككل يسير في طريقين: الأول الذي يسير به العالم والثاني الذي نسير نحن فيه. فمن الواضح بأن الأمور في معظم دول العالم تسير محصلتها النهائية للتغير والتطور والإلمام بالمعرفة العلمية والتقنية والفكرية والتوجه نحو الصناعة والإنتاج. وهذا لا يقتصر على الدول الغربية وغيرها، بل حتى على باقي الدول الإسلامية مثل ماليزيا وأندونيسيا.
لكن في المقابل تسيرالأمور عندنا بطريقة عكسية، إذ حتى التطورات والمكاسب التي حدثت خلال بدايات منتصف القرن العشرين تمت تصفيتها تدريجياً من خلال الحروب والصراعات العرقية والطائفية والقبلية، وبروز قوى التخلف وهيمنة بعض الأطراف على مقدرات الشعب العربي في جميع أقطاره.. علاوة على مظاهر التسلط والقمع وغيرها. وهذا يقود للتساؤل عما إذا كنا نعيش عالم اليوم الذي ارتقت به المعرفة العلمية والإنسانية أم نعيش خارجه؟ سنجد بكل المقاييس بأننا نعيش خارج العالم.
هنالك عدد من الشواهد التي تدل على ذلك سنشير إلى بعض منها، أولها هو النزوع إلى الماضي ومحاولة إعادته.. وبذلك نكون عكس العالم الذي يسعى للتطلع للمستقبل. فهناك الكثير الذين يريدون العيش في الماضي من جديد ونبذ الحاضر بما فيه. فهذه النظرة تعكس الموقف من الحضارة المعاصرة وما وصلت إليه وتعني خلق عالم بديل غير الذي نعيشه، مثلما هو الحال مع دولة طالبان التي أعادت أفغانستان إلى زمن العصور الوسطى وقطعت صلتها بالحاضر.
كما أن طرق التفكير السائدة في مجتمعاتنا تلعب الدور الأساس في قطع صلتنا الفكرية والثقافية مع ما يجري في عالمنا المعاصر. فطريقة تفكير أي شعب، هي المفتاح الذي يعبر عن تقدمه وتأخره. ففي عصر العلم والتكنولوجيا تتفشى في مجتمعاتنا طرق التفكير الخرافية والأسطورية والغائية والمفرطة بالغيبيات.. وتسود مظاهر إلغاء العقل والتفكير العقلاني عبر التعصب والتزمت والتفكير الانفعالي، فأصبحنا ننظر للواقع ونفسر مشكلاته بطرق ليس لها علاقة بما هو سائد في عصرنا، بحيث أصبحنا في واد، والعالم في واد آخر في التعامل مع المشكلات والقضايا التي نعيشها، والتي هي القضايا نفسها المنتشرة في العالم.
وبالنسبة إلى النظرة للمعرفة والتعامل مع المستجدات، فهناك طرح سائد يأخذ به الكثيرون من الذين يرون بأن لدينا معرفة بديلة للمعرفة السائدة في العالم.. تقارعها، بل وتتفوق عليها. ففي مقابل الحضارة المادية ومنجزاتها العلمية، يقوم البعض بتقديم تفسيرات ذاتية الطابع للعالم، وما يجري فيه بطرق غائية لا علمية وينظر للعالم الغربي، بل والعالم كله نظرة تقلل من شأنه، ومن شأن منجزاته، خصوصاً أولئك الذي ينطلقون من منطلقات أصولية ويرون بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.
أما في الجانب الثقافي، فنجد بأن ثقافتنا الدارجة التي تسود فيها مظاهر التعصب الطائفي والقبلي والعائلي العرقي وغيرها من مظاهر سلبية، لاتعبر عن الواقع المعاصر، فهي نتيجة لواقع سابق عندما كان الإنسان يعتمد على الطبيعة، أي قبل الانتقال للحياة المدنية والثقافة التي جاءت معها. فلو نظرنا للقضايا التي تهيمن على التفكير العام نجدها تتعلق بالفرد والعائلة والنسب والقرابة والانتماء الاجتماعي والانتماء الطائفي والقبلي والبيئة الاجتماعية التي يأتي منها الفرد، وتسود فيها حقائق يقينية حول الفرد لا يمكن التشكيك فيها، أو دحضها، على الرغم من افتقارها لأية أدلة أوبراهين مادية. فالأسس التي تقوم عليها الثقافة اجتماعية صرفة ولا علاقة لها بالعقل، أو العلم، أو المنطق، أو المعرفة الحديثة.. وهذه بين أبرز الجوانب التي تقوم عليها الثقافة في عالمنا المعاصر.
ومع اتجاه العالم للعولمة، أصبحت هناك مشاركة من مختلف دول العالم في بناء العالم الجديد. فهناك مساهمات وأدوار مختلفة تقوم بها معظم دول العالم، خصوصاً في الصناعة والإنتاج والتسويق وغيرها. ولو تساءلنا عن مساهمتنا في بناء العالم الجديد سنجد الإجابة لا شيء تقريباً. فأبرز ما نقدمه هو بيع المواد الخام الطبيعية لدول العالم ونصرف المردود المالي في أمور استهلاكية وغير منتجة في أغلب الأحيان. فلا مساهمة علمية أو فكرية أو ثقافية تذكر يمكن أن يكون لها تأثيرها على أي فرع من فروع المعرفة الإنسانية، فالغالبية الساحقة من المبدعين والمهنيين المتميزين العرب تبدع في المهجر. أما في الداخل، فهي إما محبطة أو محاربة. هذه الأوضاع جعلتنا نعيش على هامش الحضارة الإنسانية والعالم الذي لا يحسب لنا أي حساب، فكل ما يريده الآخرون منا، هو كف شرنا عنهم بعد موجة التطرف والإرهاب التي يقوم بها نفر من الإرهابيين الذين أساءوا للعرب والمسلمين وأسهموا في زيادة عزلتنا عن العالم.
المشكلة أن التقدم في عالم اليوم يسير بخطوات سريعة جداً نتيجة للتطورات الهائلة في العلم والتكنولوجيا، فالهوة بيننا وبين الآخرين آخذة في الاتساع، وفي حال استمرار الأمور على مثل هذه الحال، فلربما نصل إلى مرحلة القطيعة المعرفية والثقافية مع العالم.. وهذه المسألة خطيرة للغاية، لأنها ستجعلنا نعيش خارج التاريخ، أو خارج منطقة التغطية!
عن جريدة الجريدة