الثقافة العربية وكتابة التاريخ
د. رشيد الحاج صالح
المتجول في أسواق الكتب العربية، سواءً مكتبات الأرصفة أم معارض الكتب الدولية، سرعان ما يلاحظ كثرة الكتب التاريخية والدينية، التي تتحدث، إما عن سيرة لشخصيات تاريخية (صحابة، خلفاء، قادة، صالحين،.. ) أو عن أحداث تاريخية مشهورة ( موقعة بدر، معركة اليرموك..). ناهيك عن الكتب المفعمة بالمعاني الأخلاقية والخيال العاطفي لتصرفات وأحداث فريدة حصلت هنا وهناك.
ونحن في هذا المقال نريد أن نتوقف بشكل أساسي عند مدى جدوى الكتب التاريخية التي تتناول تاريخ المسلمين بكل أحداثه وشخصياته، لما تلعبه هذه الكتب من دور متزايد في تكوين الوعي التاريخي لدى الناس تجاه حضارتنا الإسلامية في فترتي نشأتها وازدهارها.
إذ نجد أنه من الضروري إخضاع مثل تلك الكتب لتدقيق علمي جدّي وتحليل تاريخي صارم يبين ما لهذه الكتب وما عليها، ويساعد في تكوين وعي تاريخي موضوعي بحضارتنا الإسلامية بعيداً عن التوجه اللاواقعي الذي يضخم الأحداث، ويمزج بين الواقع والأيديولوجيا، ويدخل العواطف في نسيج الأحداث. ونحن في هذا السياق نريد أن نسوق الملاحظات التالية : أولاً – ضرورة التخلص من النزعة «القصصية» و«الحكاياتية» البسيطة على تلك الكتب: فمؤلفو تلك الكتب يهتمون بالبنية القصصية للأحداث بدل التحليل العميق الذي يبين المعنى البعيد للأحداث، ويدقق في الوقائع وتشابكاتها، ويتأكد من الخلفيات الأيديولوجية للمصادر، ويقارن بين الاحتمالات بطريقة منطقية وتاريخية. وهذا عيب يبدو أنه لا يقتصر على كتب التاريخ الإسلامي، بل إنه يشمل كل الكتابات التاريخية للشعوب كما يبين بيتر بيرك في كتابه: «علم الاجتماع والتاريخ».
ثانياً – ضرورة تشذيب النزعة الأخلاقية للأحداث: ذلك أن المتصفح لتلك الكتب سرعان ما يلاحظ غياب البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للأحداث، وطغيان البعد الأخلاقي والوجداني. فالأشخاص الذين تتناولهم تلك الكتب كلهم على درجة عالية من : الأخلاق والشجاعة والغيّرية والتضحية.. الخ، بحيث يظهرون وكأنهم من عالم طوباوي ملائكي بعيد كل البعد عن عالمنا الذي نعيش فيه. وقد تصل قوة التفسير الأخلاقي لدرجة أن القاتل والمقتول يدخلان الجنة معاً. بل إن النقد التاريخي الموضوعي لشخصيات سياسية عادية يعد نوعاً من المس بالمقدسات، أو التنكر لحضارتنا الإسلامية. ومن هنا تكمن خطورة هذه الكتب، فهي ترفض الرؤية النقدية للأحداث وتكوّن رأيا عاما سلبيا تجاه كل من يخضع الأحداث للنقد والتحليل الموضوعيين.
ثالثاً – ضرورة التخلص من التفسير الثنائي للتاريخ: فعندما تتحدث تلك الكتب عن حروب معينة، فإنها سرعان ما تقسم الأطراف المتنازعة إلى: خيرّين وأشرار، مؤمنين ومرتدين، فريق الحق وفريق الباطل. إن مثل هذه الطريقة في نمذجة الأحداث ليس لها من هم سوى استمالة القارئ وإقناعه بوجهة نظرها أياً كانت، ثم دفعه للتحمس لها والدفاع عنها. فهذه الكتب محملة بعناصر أيديولوجية تمنعك من رؤية الأحداث بواقعية وموضوعية، وبالتالي فإنها تلعب دورا سلبيا كبيرا في تنمية روح التعصب والشقاق بين المسلمين.
رابعاً – لا تهتم سوى بالسياسة والحروب: فهي كتب قليلة الاهتمام بالنواحي الثقافية والاجتماعية بالمقارنة مع عنايتها بالنزعات السياسية والناحية العقائدية.. الأمر الذي يكوِّن وعيا آحاديا لدى الناس، مفاده أن التاريخ ليس حياة غنية تدخل فيها نواح اجتماعية وفنية وعلمية وأدبية وانتروبولوجية كثيرة، بقدر ما هو تاريخ صراع وحروب ليس له نهاية. وهذا ما يفسر أن أشهر الشخصيات الإسلامية في التاريخ هي شخصيات عسكرية وسياسية وأن أشهر الأحداث هي الحروب والمعارك. يضاف إلى ذلك أن سيطرة التاريخ السياسي على تلك الكتب جعلها لا تهتم سوى بـ«تاريخ النخبة»، أي تاريخ الملوك والأمراء والسلاطين.. دون إعطاء أي أهمية لحياة الشعوب ومعاناتها.
إن أي شعب يريد أن يتصالح مع تاريخه ويكوِّن صورة موضوعية إيجابية لابد من أن يخضع كتبه التاريخية للنقد والتحليل التاريخي، حتى يخلصها من كل تلك العيوب ويعيدها إلى حقل التاريخ الموضوعي بدل حقل الأيديولوجيا المملوء بالمصالح والأوهام، ناهيك عن الصراعات العقائدية والسياسية. ولاسيما أن تطور مستوى المعرفة التاريخية والاجتماعية اليوم يحتم علينا الاستفادة من مناهج وطرق العلوم في دراسة تاريخنا. وإذا ما تذكرنا أننا أمة يملأ التاريخ وجدانها وتفكيرها، نجد أنه من الضروري التأسيس العلمي لذلك التاريخ.. ولكن هل نحن مستعدون نفسياً لمراجعة التاريخ؟ علينا أن نكون كذلك.
كاتب من سورية