الإمبراطوريّة والثقافة
محمد سيّد رصاص*
تتكاثر في هذه الأيام المقالات عن لا أيديولوجية إدارة باراك أوباما، وعن تمسّكه بتراث جسَّدته المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأميركية، عبر رمزها السياسي ـــــ التنظيري الأبرز هنري كيسنجر. ويقول ذلك التراث بتمرير أهداف السياسة الأميركية من خلال الوقائع القائمة وحتى التكيف مع الوقائع المضادة للوصول معها إلى حلول وسط، كما جرى من قبله مع السوفيات عبر سياسة الوفاق الدولي بفترة النصف الأول من عقد السبعينيات.
كان رأي المحافظين الجدد، بعكس إدارة كلينتون التي يستعيد أوباما الآن العديد من وجوهها، بأن «السياسة الدفاعية والخارجية الأميركية هي بلا هدف» وفقاً لوثيقتهم التأسيسية المسمّاة «إعلان مبادئ» الصادرة في 3 حزيران 1997، وهم حاولوا خلال عهد بوش الابن «البناء على إنجازات العقود الماضية بعد الانتصار الأميركي في الحرب الباردة… وصياغة القرن الجديد بما يتلاءم مع المبادئ والمصالح الأميركية» وفقاً لعبارات تلك الوثيقة.
بالتأكيد، يمثّل صعود أوباما فشلاً لذلك البرنامج للمحافظين الجدد، الذي وصفه جوشوا موراشفيك (أحد منظّريهم، في عدد أيلول 2008 لمجلة «ناشيونال إنترست») بأنه «يمنح أهمية أكبر للعامل الأيديويولوجي في السياسة»… وأن «المحافظين الجدد هم أمميون ليبراليون» يرون «أننا سنجد أماناً أكبر عبر استخدام قوتنا لمحاولة صوغ نظام عالمي أكثر لطفاً». حيث كان هذا البرنامج أول محاولة أيديولوجية تمثل رؤية متكاملة للعالم، قدمتها السياسة الأميركية في تاريخها، فيما كانت السياسات في عهود الإدارات السابقة، بعد تجاوز انعزالية مبدأ مونرو (1823) التي حصرت حدود السياسة الأميركية في «العالم الجديد»، بأنها ذات طابع دفاعي ضد القيصر الألماني وهتلر بالحربين العالميتين، ولم تأخذ طابع تقديم رؤية بديلة للشيوعية السوفياتية في فترة الحرب الباردة بقدر ما كانت متركّزة على وقف التمدّد الشيوعي العالمي محدَّدة من خلال نزعتها الرفضية للخصم لا عبر ما تريده، حتى وصل ذلك إلى ذروة بلغت حدود الانتصار على السوفيات في عهد إدارة ريغان: هنا، قدّم المحافظون الجدد رؤية للعالم تقوم على عمودي الديموقراطية واقتصاد السوق، ورأوا أن لواشنطن مصلحة في إعادة صياغة العالم وفقها، متجاوزين الأمم المتحدة و«الشرعية الدولية» والحدود القائمة للقيام بـ«ثورة يمينية» يعاد بناء العالم أميركياً من خلالها في ميادين السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة، ليهزوا المعمورة خلال ثماني سنوات مضت كما فعل البلاشفة اليساريون في حقبة ما بعد ثورة أوكتوبر 1917. كان هذا مشروعاً أيديولوجياً لبناء إمبراطورية أميركية تقود العالم وتهيمن عليه عبر إعادة صياغته. بدون هذا، لا يمكن تفسير ظاهرة بروز أنصار أيديولوجيين، يسوّغون فكرياً وثقافياً المشروع الأميركي بعهد بوش الابن، ظهروا في أنحاء متفرقة من العالم، وخاصة في المنطقة الممتدة بين دجلة والنيل التي اختارتها الإدارة الأميركية في مرحلة ما بعد11أيلول ـــــ بعد نزهة أفغانية قصيرة ـــــ كبوابة لإعادة صياغة العالم عبر السيطرة على الشرق الأوسط وإعادة صياغته، لتصل الأمور إلى حدود جرى فيها التعامل مع ظاهرات مثل أحمد الجلبي ونوري المالكي وكأنها ظاهرات عادية في الوسطين االسياسي والإعلامي العربي.
ربما يكون أوباما علامة على مأزق الإمبراطورية الأميركية أكثر من كونه علاجاً لأمراضها المتفاقمة بالآونة الأخيرة، كما كان جيمي كارتر أحد علامات الاعتلال الأميركي في فترة ما بعد الهزيمة الفيتنامية، قبل أن يأتي رونالد ريغان بكل ما هو معاكس لسلفه. وبالتأكيد فإن لاأيديولوجية الرئيس الأميركي الجديد هي إحدى العلامات الكبرى الدالة على ذلك المأزق، كما كان تخفيف الطابع الأيديولوجي وضعفه في الإمبراطورية السوفياتية منذ عهدي خروتشوف وبريجنيف علامة على انحدار وتدهور واقترابٍ للسقوط، فيما كانت الثقافة الهيلينية مرافقة لخيول الإسكندر الأكبر وكذلك الإسلام مع جيوش المسلمين، لتعوض الثقافة لاحقاً في الحالتين الأخيرتين انحدار القوة السياسية.
هل يمكن القول إن فشل مشروع المحافظين الجدد هو إحدى العلامات الدالّة على دخول الإمبراطورية الأميركية في مرحلة الانحدار؟ أم أن هذا لا تسنده، بعد، الوقائع القائمة التي تقول بإمكان المشروع الأميركي على التجدد، وخاصة مع عدم وجود بديل يساري قوي، فيما يقتصر المشروع الإسلامي على حالة دفاعية تقهقرية أمام الأميركان؟
* كاتب سوري
الأخبار