العودة البائسة إلى التخوين
خالد غزال
يقف العربي بذهول أمام هول ما جرى في غزة وما خلّفته الآلة الاسرائيلية من أعمال وحشية، في محاولة لإستيعاب ما حصل. وفي الوقت نفسه يرصد النتائج المباشرة التي بدأت الحرب تفرزها على الصعيد الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً. فلم يكد القصف الإسرائيلي على غزة وهدير الدبابات الزاحفة على البشر والحجر يتوقف، وينجلي الدمار الهائل مقرونا بالخسائر البشرية الكبيرة، حتى اندلع خطاب بائس لحركة “حماس” والفصائل الدائرة في المعسكر الايراني – السوري يخوّن السلطة الفلسطينية ومعها حركة “فتح” والفصائل والقوى غير المنضوية في معسكر “حماس”، ويتهمها بالعمالة والتواطؤ مع العدو الصهيوني، وأبشع الصفات بما لا يتناسب مع النضال الفلسطيني الذي خاضته جميع الفصائل من دون استثناء وتصدّت فيه ببطولة إلى الإجتياح الإسرائيلي لغزة. عاد المشهد اياه الذي عرفه لبنان في أعقاب حرب تموز 2006 والذي أطلق فيه “حزب أالله” ومعسكره اتهامات الخيانة التي لم توفّر أحداً. هكذا تتكرّر الحوادث التاريخية، “في المرة الأولى على شكل مأساة، وفي المرة الثانية على شكل مهزلة”. ففي لبنان قبل عامين كانت المأساة، وفي فلسطين اليوم هي المهزلة في أعلى تجلياتها. من حق الفلسطيني والعربي أن يتساءل، فيما يعتصره الألم، عن هذا الخطاب التخويني المندلع بقوة هذه الأيام وعن العوامل الكامنة وراء فورته.
كما حصل في لبنان سابقاً، يهدف الخطاب التخويني إلى صرف النظر عن حجم الدمار والخسائر البشرية والمادية التي تسبّبت بها حسابات خاطئة لحركة “حماس”، ممّا يعني استباق أيّ اسئلة يطرحها الفلسطيني عمّا حصل، ولماذا جرى ما جرى، مما يضع “حماس” في واجهة المحاسبة عن القرارات التي اتخذتها والممارسات التي ارتكبتها ومدى مسؤولية ذلك عن الحرب التي شنتها اسرائيل، وهو أمر تدرك “حماس” أنه لن يكون لصالحها شعبياً وسياسياً. لذا لا تجد حرجاً في تحريف الموضوع واختلاق موضوع آخر يوضع فيه الشعب الفلسطيني كله في قفص الإتهام حول الخيانة والتواطؤ والعمالة للعدو، لأن خطاب “حماس” هذا ستواجهه القوى الفلسطينية بخطاب إتهامي آخر ليس هناك من ضمانات لأن يبقى في اطار الموضوعية والوطنية الفلسطينية، بل سينزلق حكماً الى لغة إتهامية مباشرة، تعيد إلى الصورة ما عاشه الشعب اللبناني الذي تحوّل خائناً وعميلاً وكافراً ومرتداً وفق الأوصاف التي تبادلها الأطراف المتصارعون خلال عامين.
ترافق خطاب التخوين مع إعلان النصر الفلسطيني على الجيش الإسرائيلي، وهو هنا أيضاً كان “نصراً الهياً”. كأنّ استحضار الغيبيات يبدو ضروريا في سياق استيعاب نفسي للصدمة وتعويضا من الله في الجنة للشهداء الذين سقطوا في المعارك. يقدم اللجوء الى الغيبيات العزاء اللازم والمطلوب للشعب، ويسهّل إمرار الخطاب “الديماغوجي” المطلوب “تسييده” في هذه المرحلة، الذي يحتاج إلى مناقشة هادئة لتبيان الحقيقي منه والشكلي بل التزويري.
في عام 2006، قاتلت المقاومة بقيادة “حزب الله” ببسالة وأمكنها إلحاق خسائر فعلية في الجيش الاسرائيلي وفي معنوياته وغطرسته، وهو أمر يسجّل في خانة النصر النسبي على العدو. يمكن إطلاق الحكم نفسه على الفصائل الفلسطينية جميعها التي قاتلت في غزة وألحقت خسائر ايضا بالجيش الإسرائيلي على رغم الإختلال الساحق في ميزان القوى لغير صالح الفلسطينيين، فيسجّل هذا الصمود أيضاً في خانة النصر النسبي بما هو مواجهة. خلافاً لمنطق المقاومة في لبنان أو في فلسطين التي حدّدت بنفسها أهداف اسرائيل من الحرب وقاست عليها الهزيمة أو الإنتصار، وفي مقدم هذه الأهداف إقتلاع المقاومة والقضاء عليها، وهو ما فشلت فيه اسرائيل في لبنان سابقا وفي فلسطين راهناً، هنا يجب المناقشة، حيث من المعروف ان من المستحيلات على إسرائيل أن تتمكن من القضاء على مقاومة هي جزء من الشعب، بحيث سيكون عليها إبادة هذا الشعب جسديا ليمكن القضاء على حركة المقاومة فيه، وهذا ما لم تستطعه إسرائيل سابقاً ولن تقدر عليه راهناً ولا مستقبلاً.
لكن مقاييس النصر أو الخسارة لدى اسرائيل تقع في مكان آخر، فالهدف الإستراتيجي لإسرائيل كان دوماً منذ قيامها أن تؤمّن هدوءاً على جبهتها مع البلدان العربية من جهة، وان تحوّل القوى “المعادية” لها، أي العرب، إلى اقتتال داخلي بعضها ضد البعض. بمعنى آخر: إغراق البلدان العربية في حروب أهلية مستدامة بما يمنعها من الإصطفاف والتوحد ضد العدو الإسرائيلي. في ترجمة ذلك لبنانياً، نجم عن حرب تموز 2006 حصول إسرائيل على ضمانات لمنع تجدّد المقاومة المسلحة من الأراضي اللبنانية، وهو أمر قائم للسنة الثالثة على التوالي من دون لجوء “حزب الله” إلى تنفيذ أي عمل عسكري من لبنان. كانت الحرب على غزة أهمّ اختبار لما حققته اسرائيل من إنجاز في حرب تموز على هذا الصعيد، وهو ما تجلّى في التزام “حزب الله” بنود القرار 1701 فامتنع بالكامل عن النجدة غير “الدعاوية” للمقاومة في غزة. وقد يكون الإنجاز الأكبر الذي حققته اسرائيل في حرب لبنان هو نجاحها في تحويل “حزب الله” إلى الداخل اللبناني وإغراقه في وحول الحرب الاهلية اللبنانية، والأدلّة على ذلك كبيرة ليس أقلّها حوادث ايار 2008 والمستمرة مفاعيلها حتى اليوم، مما نزع عن المقاومة إلى حد كبير جداً صفتها الوطنية وطابعها المقاتل ضد إسرائيل. فقد تحوّل سلاحها إلى سلاح ميليشيوي تمتلكه طائفة وتقوم وظيفته في تكريس هيمنة طائفية محددة وتهديد دائم بتغيير المعادلات الداخلية بالقوة. وهذا يعني في الوقت الراهن تهديداً متواصلاً يستشعره اللبنانيون بتجدد الحرب الاهلية نتيجة الاستنفار الذي تحيا فيه سائر الطوائف التي يشكل سلاح “حزب الله” بصيغته الإهلية خطراً عليها واختلالاً في تركيبة البلد ومعادلات السلطة داخله. هذان الإنجازان اللذان حققتهما اسرئيل في لبنان مرشحان للوضع نفسه في غزة، حيث يتوقّع أن تسفر الحرب عن ترتيبات أمنية تسمح بتعطيل المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وتؤمّن الهدوء لحدودها. وقد ينجم عن هذه الترتيبات إندلاع حرب أهلية فلسطينية – فلسطينية تقودها “حماس” وتمنع بموجبها أي عودة الى الوحدة الفلسطينية، وهو أمر لم يتأخر حصوله لأن الخطاب التخويني أطلق صفارات إعلان هذه الحرب، وهذا ما ترغب به اسرائيل وتعمل من أجل حصوله بشكل دائم، وخصوصا هذه المرة على “الساحة” الفلسطينية. للتذكير، اغتالت اسرائيل ياسر عرفات لأنه، في جانب أساسي من ممارسته، استعصى بالنسبة اليها على السماح باقتتال أهلي فلسطيني طوال حياته.
يطرح خطاب التخوين المتواصل عربياً معضلة تخلّف مجتمعاتنا التي تعجز دوماً عن الإحتكام إلى الديموقراطية والوسائل السلمية في حل مشكلاتها. لا تزال الايديولوجيات الإقصائية والإستئصالية، سواء أكانت دينية أم “قومجية”، تتحكّم بالعقل العربي وبالقوى المهيمنة داخل المجتمعات العربية، وتنتج دوماً حروباً اهلية ومذهبية تشكّل في ذاتها “النصر” الذي تفخر اسرائيل في تحقيقه على العالم العربي، وتستخدم هذا المسلك العربي للتباهي بـ”ديموقراطيتها” وقدرتها على ابتكار وسائل سلمية في حل خلافاتها الداخلية. فالتخوين الجاري نشره بين القوى الفلسطينية جميعا يستجر التكفير، وهذا سيؤدي الى “تحليل الدم واهراقه”، ولن ينقص اصحابه استخدام النص الديني لإسباغ المشروعية على هذا الخطاب، وتالياً تبرير الإقتتال الأهلي الذي يمثل أسوأ الخيارات التي تهدد مستقبل الشعب الفلسطيني في مرحلته الراهنة ¶