القتل بالكلمات
رزان زيتونة
لم تسجل حرية التعبير عن الرأي أي تقدم خلال الأعوام الماضية في منطقتنا العربية. ولانزال نحتل مراتب متقدمة جدا في سجن وقمع الصحفيين والمدونين وإغلاق المواقع الإكترونية ومحاكمة أصحابها. لكن وفي الوقت نفسه، ازدادت بشكل غير مسبوق «حرية» تسفيه الرأي الآخر مصحوبة بعنف تعبيري وابتذال لفظي مشين. وقد يكون ذلك إحدى نتائج القمع المديد لحرية التعبير وانعدام الحوار بين أصحاب الآراء المختلفة، وقد يكون لسبب آخر تماما يتعلق بتميزنا وفهمنا الخاص لما لم يفهمه الآخرون بشكل صائب!
بلغت تلك «الحرية» أوجها أثناء وبعد العدوان على غزة، وكنا قد شهدنا شيئا مماثلا أثناء حرب يونيو (تموز) 2006. وقد تصدى لممارسة تلك «الحرية» على نطاق واسع، صحافيون ومثقفون ونشطاء ومدونون، شرعوا أقلامهم للدفاع عن غزة ومقاومتها في وجه من اعتبروهم ذيول الصهيونية وخدم الاستعمار! وهؤلاء يتوزعون في دائرة واسعة تمتد من بعض القادة العرب إلى الكتاب والمثقفين الذين تناولوا الحدث بالتحليل عبر وجهة نظر مغايرة لما ارتآه أولئك.
وإلى حد بعيد اقترن الدفاع عن مواقف «حماس» وحلفائها بحملات تخوين وتشنيع تستعين بقدر كبير من الشتائم ذات العيار الثقيل، وفيما اقتصرت الأوصاف التي أطلقت على «إسرائيل» بتلك الشائعة كدولة الإرهاب وسواها، فقد ابتدعت أوصاف تعجز مخيلة سليمة عن توقعها، بحق شركاء في الأوطان والقضية.
شبكة الإنترنت أتاحت حيزا غير محدود لمثل تلك الأقلام والحملات، ورسمت لوحة غرائبية لا يملك مشاهدها إلا الابتسام رغم ما تثيره من ألم، فقد استعار «قوميون» و«علمانيون» مفردات وتعابير لوصف أعدائهم الجدد، طالما استخدمها «قاعديون»- نسبة إلى تنظيم القاعدة، في مواقعهم الإلكترونية ومنتدياتهم، لوصف أولئك القوميين والعلمانيين أنفسهم؛ ورفعوا قبضات أقلامهم تهديدا ووعيدا بجهنم وبئس المصير، كما سبق ورفعت في وجوه العديد منهم، في أكبر عملية تصفية رمزية للرأي الآخر مهما بلغت أحيانا ضآلة الاختلاف معه. وتوسعت دائرة الأعداء لتتخطى الصهيونية والامبريالية إلى «كلابها» و«ذيولها»، وأصبح التجريد من صفة الوطنية بسهولة التكفير وهدر الدماء على الطريقة القاعدية.
لم يقصّر كتّاب من الفريق الآخر ولم يتوانوا عن الدخول في المعركة، لكن إلى حد بعيد، استأثر الفريق الأول بمفردات التهديد والشتائم والسحل بالكلمات.
وليس من المفهوم لماذا يجب أن تستخدم «المقاومة» والمنافحين عنها، مثل تلك المدافع الكلامية والشتائم السوقية للدفاع عن وجهة نظرها، خصوصاً وهي تؤكد أنها تقبض على الحقيقة من تلابيبها وما سواها باطل. وليس مفهوماً كيف لمثل ذلك العنف اللفظي وتسفيه الآخر أن يخدم القضية التي يدافع عنها أصحابها، وإن كانوا يأخذون على الغرب أنه يساوي بين الضحية والجلاد، فكيف يساوون بين مرتكب العدوان بالقنابل والصواريخ ومن اختلفوا معهم في الرأي حول كيفية إدارة المعركة ووجهتها. وهل كان ذلك من نتائج ثورة الغضب التي تحكمت بالمشاعر والكلمات، أم أنها تعبير صادق عن ثقافة سائدة تهبط بالآخر المختلف معه إلى مرتبة الشيطان ولا تقبل بأقل من رجمه وتصفيته كي لا ينغص على الملائكة صفو عيشها؟!
ليس التخوين والاتهام بالعمالة بجديدين على عالمنا العربي الموبوء بالاستبداد، لكننا اعتدنا تلك الممارسات من السلطات الاستبدادية وأعوانها تجاه معارضين ومخالفين بالرأي في ما يتعلق بقضايا الديمقراطية والتعددية في البلد المعني، خصوصا بالنسبة لأولئك الذين يجهدون من أجل ترقية ممارسة حرية الرأي والتعبير وقبول الآخر. وليست ممارسة العنف تجاه المختلف معه بجديدة أيضا، مارستها السلطات اعتقالا واختفاء قسريا وتعذيبا، ومارستها الجماعات الإرهابية قتلا وقطع أعناق وتفجير أجساد، وتمارسها اليوم شرائح من «الكتّاب» تسعى إلى ترقية التنكيل بالرأي الآخر وتوسيع دائرة القتل بالكلمات.
في القانون، يعتبر ذلك تشهيرا يعاقب عليه، وقد يصل إلى درجة التحريض على العنف ضد الشخص المعني وهو ما يفترض أن يشدد العقوبة، لكنه في ممارساتنا على أرض الواقع، يعتبر نوعاً من حرية التعبير عن الرأي، وهذا مفهوم تماما؛ فما يعتبر حرية لدى الآخرين، هو إضعاف للشعور القومي والوحدة الوطنية لدينا، وما هو تشهير وإساءة وعنف لفظي لدى الآخرين، هو حرية تعبير بالنسبة لنا، فنحن في النهاية لنا خصوصيتنا الثقافية، وديمقراطيتنا الخاصة!
* كاتبة سورية