في نقد العنف اللفظي ضد العرب والإسلام
ياسين الحاج صالح
تقريع العرب أو تسفيههم أمر شائع في الكتابة العربية المعاصرة، حتى عند كتّاب «عرب» مكرّسين (أضع كلمة عرب بين قوسين لأن المعنيين ربما يتحفظون على هذه النسبة). وهو أكثر شيوعا بعد عند جمهور واسع من كتّاب الإنترنت. ومثل العرب ينال الإسلامَ غير قليل من العنف اللفظي، ويربط العنف اللفظي هذا نفسه في الحالين بقيم وأفكار كالعقلانية والعلمانية والحداثة والتقدم التي يفترض أن العرب لا يستجيبون لها أو منيعون ضدها، وأن الإسلام كتيم حيالها أو معاد عنيد لها، ما يسوغ التعرض لهما والتعريض بهما، غير أن المحتوى العقلاني والعلماني لهذه الممارسة ضئيل جدا، تهدره، إن وجد، النبرة الموتورة وموقف التقريع والأستاذية الذي يقفه المعنيون، ولقد أضحى هذا الموقف شائعا جدا بما يسوغ التوقف عنده بل يوجبه.
أول مأخذ لنا على هذا الصنف من الممارسة الخطابية أنه يسهم بفاعلية في خفض الحواجز الأخلاقية والثقافية التي تمنع الاعتداء على العرب والمسلمين، ما يضعف حماياتهم الرمزية ويمنح حصانة نسبية للمعتدين عليهم، مادام الأمر لا يتعلق في النهاية إلا بعرب ومسلمين، جرت العادة على ربطهم بمدركات من نوع تخلف واستبداد وتعصب وعنف وشذوذ وإرهاب ولاعقلانية وعدوانية وما إلى ذلك. ولكي نستوعب هذه النقطة جيدا يكفي أن نتذكر أن ما يحمي الإسرائيليين واليهود بعامة هو وضعهم في الغرب وفي العالم عموما في سياقات إيجابية وتسخير القوانين في الغرب لمنع إدراجهم في سياقات سلبية. هذا يشيد حواجز ثقافية وأخلاقية عالية حولهم، تدعمها أيضا حواجز قانونية، تجعل النيل اللفظي منهم متعذرا، وأشد تعذرا منه النيل المادي.
نحن العرب لا نسلم لهم بهذه الحصانة لأسباب معروفة، منها بخاصة أننا غير مسؤولين عن تاريخ اضطهاد اليهود في الغرب، ومنها أن الغرب كفّر عن آثامه بتسهيل حصول اليهود على فلسطين «وطنا قوميا» لهم. ولأننا لا نقبل بتلك الحواجز فإننا نقاوم إسرائيل، ولأن الغرب يستبطن تلك الحواجز فإنه يدعم إسرائيل ويحرم عمليا نقد اليهود وإسرائيل ذاتها بوصف ذلك معاداة للسامية، ولأنه لا يستبطن أي حواجز حيالنا فإنه لا يكاد يشعر بالأسف إذا اعتدى علينا.
والممارسة التسفيهية المنددة بالعرب وبالإسلام عندنا لا تنصب حواجز ضد العدوان، بل إنها في الواقع تسهله، وتعرية جماعة بشرية من الحمايات الثقافية، إن لم تكن ممارسة فاشية هي ذاتها، فإنها لا تعوق ممارسة فاشية ضد المعنيين. الأبلسة عبارة شائعة مترجمة عن الإنكليزية لوصف هذه الممارسة، لكني أفضل عبارة تشرير (على وزن تبرير، وعكس معناها) لوصف النشاط الذي يقرن نسقيا بين العرب والإسلام وما هو سلبي وفاسد وشرير.
وينبغي أن يكون واضحاً، وهنا المأخذ الثاني، أن ما نعترض عليه هنا ليس نقد العرب والإسلام بل هجاءهم وتأنيبهم والانتقاص الدائم من قدرهم. تشريرهم. وقد يكون أصل الممارسة هذه نقديا، ولعلها انطلقت أصلا في سبعينيات القرن الماضي على يد مثقفين قوميين ويساريين كنوع من النقد الذاتي للحال العربية، أيام لم يكن هؤلاء المثقفون ليتكلمون على هذا البلد أو ذاك بالاسم، إما لأنهم لا يعترفون باستقلال كيانه ولا يريدون منحه شرعية بجعله موضوعا للمعرفة، وإما لمخاطر نقد كهذا، لكن ينبغي القول إن هذه الممارسة اختلطت دوماً، في لبنان بخاصة، بما هو عدائي حيال العرب وودي حيال الغرب.
أيا يكن الأمر، فإنه لمجرد شيوعها الكاسح (الذي تغذى بلا ريب من انحطاط فعلي متعدد المستويات في أوضاع العرب الواقعية)، تحولت هذه الممارسة إلى أقرب ما يكون إلى طقس، وفقدت بالتحول ذاته محتواها النقدي. العنصر الدال على ذلك أن الكتاب الذين يمارسون هذا الطقس لا يكفون عن العودة إليه.
الكاتب الذي يأخذ على العرب قلة عقلهم، وعلى الإسلام فساده وشره، لن يقول ذلك مرة أو مرتين أو ثلاثة بل كل المرات الممكنة، وكلما تملكه هذا النازع لم يعد يستطيع قول شيء غيره، وهو ما يرجح أن لهذا القول منابع انفعالية عميقة غير موعاة، تتصل بانحيازات ثقافية أو طبقية أو دينية أو إثنية، ولعله من هذا الباب يرصد المتابع في أكثر النصوص التي تندرج ضمن هذا التقليد شحنة كراهية متوثبة وإرادة تشرير لا ترتوي.
الناس أحرار بالطبع فيما يحبون ويكرهون، لكننا نتكلم عن نشاط عام يفترض أن ينضبط بأصول فكرية وأخلاقية عامة، والتشرير لا يمكن أن يكون قاعدة عامة للنشاط الثقافي لأن التشرير العام، تشرير الجميع للجميع، يفتح الباب لحرب الجميع ضد الجميع.
وحلول التشرير محل النقد هو ما يفسر أن لدينا في المحصلة القليل من النقد للعرب والكثير من تسفيههم، الكثير من تشرير الإسلام والقليل من نقد الإسلام. وإذا كنا نعترض على هذه الممارسة فليس من باب نعرة عربية أو إسلامية محتملة، بل لأنها تخون الالتزام النقدي وتضحي به على مذبح العداوة والكره غير العقلانيين.
وهذا يقودنا إلى المأخذ الثالث. لا تخدم التشريرية أي غرض تقدمي أو تحرري أو عقلاني أو علماني، حتى إن قرنت نفسها على الدوام بالعقلانية والتقدمية والليبرالية والعلمانية. هذا ليس فقط لأنها لا تشبع من ترذيل العرب والمسلمين والتشنيع عليهم، ولا لأنها موتورة ومتعصبة هي ذاتها، حامضة النفس وضيقة الحوصلة أيضا، وفي الغالب منحطة المستوى الفكري والأخلاقي، لكن بالضبط لأنها منفصلة عن النقد، وما يقتضيه هذا من تضامن مع المنقودين واحترام لإنسانيتهم وانحياز مخلص إلى قضية تحررهم ومساواتهم مع غيرهم.
هناك استخدامات سيئة كثيرة لكل من العروبة والإسلام، لكن ليس هنا غير استخدامات سيئة لتشرير العرب والإسلام. تبرير العرب والإسلام ليس تقدميا، لكن تشريرهم رجعي بالضرورة. النقد وحده هو التقدمي.
نستعيد، ختاما، نقاطا أساسية في هذه المناقشة، أولاها أن العنف اللفظي، بقدر ما يتحول على ممارسة مستقرة أو شعيرة ثابتة، تشرّر بصورة جوهرية لجماعة بشرية ما، وهو ممارسة فاشية مهما تكن الأقنعة الإيديولوجية التي تنتحلها. وهذا أمر لا يصح التسامح معه عندنا أو في الغرب. ثانيتها وجوب التمييز بين العنف اللفظي والممارسة التشريرية من جهة وبين النقد. هذا ينضبط خلافا لتلك وذلك بمبادئ معرفية وأخلاقية عامة، تنطبق على أي جماعة منقودة، وأخيرا لا مجال لتبرير تشرير العرب والمسلمين بكون العرب والمسلمين فعلا يمارسون فعلا ممارسات شريرة، ففضلا عن أن ذلك لا يقتصر عليهم، فإن التشرير يعني أن ممارساتهم الشريرة تنبع من جوهرهم، من ثقافتهم وهويتهم، بحيث لا مجال لوضع حد لشرهم دون القضاء عليهم أو انقلابهم على أنفسهم. نلتقي بالفاشية هنا أيضا.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –