جدل مع مقال الأستاذ ياسين الحاج صالح عن المجتمع المكشوف
مازن كم الماز
لا ريب أن الأستاذ ياسين من أبرز المساهمين في دراسة ظاهرة الأنظمة الاستبدادية القائمة , و من المؤكد أيضا أن يستطيع بتحليلاته أن يفرض على العقل المعارض أن يبتعد بتفكيره عن السياسوي الآني..هنا أحاول فقط أن أجادل مقالته الأخيرة عن المجتمع المكشوف , و هي مقالة هامة جدا كما أزعم , و ثرية جدا…
– أولا عن تسمية حالة النظام السوري القائم بحالة الاستثناء , من المؤكد أن هذا النظام الحاكم بجحيمه السياسي الاقتصادي و القمعي حالة استثنائية و لا شك إنسانيا و سياسيا و اجتماعيا و أخلاقيا , لكن ما أود ملاحظته هنا هو أنه تاريخيا كانت الأنظمة الحاكمة و طوال قرون طويلة عبارة عن أنظمة استثنائية بهذا المعنى , هناك وله خاص يحمله اليسار و الليبراليون لفترة الخمسينيات ما قبل الوحدة الأمر الذي يمنح هذه الفترة وضعية السلطة المثال , و ربما كان المجتمع السوري بالفعل قد انتقل من حالة مجتمع منكشف بالكامل أمام السلطة السياسية , و باقي السلطات كالدينية مثلا , مع سقوط الحكم العثماني إلى حالة أقل انكشافا أمام السلطة السياسية هذا إذا اعتبرنا النخب هي الجزء المركزي من المجتمع , كانت النخب المسيطرة , الإقطاعية و أرستقراطية المدن المرتبطة بالوجود العثماني الطويل و التجار المدينيين و رجال الدين , تلعب منذ بداية الحكم الفيصلي دورا ما متفاوتا في الحد من هيمنة السلطة و كانت هناك آليات تعود للقرون الوسطى لتأمين حماية اجتماعية ما للتجار مثلا و حتى للفقراء مع التشديد طبعا على بقائهم في حالة تبعية كاملة للإقطاع و المؤسسة الأرستقراطية و أحيانا الدينية المرتبطة بالسلطة , لكن تقليديا و على امتداد التاريخ كان المجتمع منكشفا بالكامل أمام السلطة القروسطية التي تعاملت معه كغنيمة تنهبها كما تشاء , كانت هناك دوما نخب ما بين الدولة و المجتمع كالمؤسسة الدينية مثلا لكنها كانت مستقلة عن المجتمع و غالبا تابعة , و لو بالقوة , للسلطة , اعتبرت مثلا تلك الفترات التي تمتعت فيها هذه النخب بدور استثنائي إلى جانب الدولة أو في مواجهتها , كما في تمثيل الشعب المصري مثلا في مواجهة الحملة الفرنسية من قبل مؤسسة الأزهر الدينية أو فترة صعود الحركة الوطنية العرابية في مصر المرتبطة بصعود دور النخبة المثقفة و الاقتصادية العسكرية و المدينية , استثناء للحالة التقليدية من انكشاف المجتمع و أقرب إلى نموذج للعلاقة البديلة عن تبعية المجتمع المطلقة للدولة , ما أعنيه هنا هو الحاجة إلى إعادة كتابة نقدية لتاريخنا بحيث يعاد تشخيص وضعية الدولة التاريخية , هذا ضروري لتشخيص راجع و آخر مستقبلي عن شكل العلاقة “الصحيحة” بين الدولة و المجتمع…
– ثانيا , أعتقد أن الأستاذ ياسين كان على حق تماما عندما تحدث عن المثال الذي يصبو إليه مقاومو حالة العزلة التي يفرضها النظام على أفراد المجتمع و عدم تهديده لحالة الاستثناء التي يمثلها النظام , فغايات هذا المثال تتعلق بالحاجات المادية المباشرة , هذا في الحقيقة لا يشكل خطر مبدئي على النظام و لا يهدد حالة العزلة التي يفرضها على أفراد المجتمع الذي يضطهده , إن أنظمة رأسمالية الدولة بصيغتها ما قبل السياسات النيو ليبرالية تعتبر نفسها المسؤولة عن خير أفرادها مقابل استسلامهم الكامل لها , هذا شاهدناه في شعارات العمالة شبه الكاملة لقوة العمل المتاحة و أيضا التعليم العام للجميع و غير ذلك كمهام أساسية ألزمت بها أنظمة رأسمالية الدولة البيروقراطية نفسها ( قبل مرحلة تبنيها سياسات نيو ليبرالية ) كجزء من تبرير سيطرتها المطلقة على المجتمع , و قد عملت من خلال مركزية تخطيط و إدارة الاقتصاد ليس فقط على تكريس سيطرتها المجتمعية المطلقة بل أيضا على تدجين الناس من خلال ربط رفاههم و إحساسهم بالأمان بوجودها , من جهة أخرى قد يضطر النظام للتسامح مثلا مع بعض الأشكال المحلية , غالبا الطائفية أو العشائرية كما أشار الأستاذ ياسين , لفضاءات موازية لمؤسسات النظام كبديل عابر عن عجز و فشل مؤسساته أو عن قصور دورها الوظيفي الذي يقوم أساسا على تلبية مصالح السلطة على حساب المجتمع عادة , هذا لا يشكل كما أشار الأستاذ ياسين مقاومة جدية أيضا , هو بالتأكيد طاقة كامنة , ربما لحالات عزلة جديدة , إما تتعايش مع العزلة الأوسع الأعم التي يفرضها النظام , أو عزلة منفصلة عن بقية الفضاءات الموازية داخل المجتمع المقهور و مشروع لعزلة أعم تنتظر أن تتجسد بمجرد سقوط النظام الذي يبدو بمؤسساته البيروقراطية , القادرة من حيث كم السلطة المتاح لها و السطحية جدا و الشكلانية و العاجزة عن أداء أية وظائف اجتماعية أو عامة , كرابط وحيد بين فضاءات معزولة عن بعضها , ساهم هو بخلق عزلتها هذه و يزعم أنه يجمعها معا بوجوده فوق المجتمع و قهره و كبته له كمعطى لا عقلاني بالضرورة تشكل حريته عامل خطورة يهدده قبل أن يهدد النظام , هذا التخريف الذي لجأت إليه عادة الأنظمة فاقدة الشرعية و العاجزة لا يحول النظام , أساس الأزمة , إلى جزء من الحل , على العكس , فحالة التشظي ستستمر دون توقف بدرجات متفاوتة نتيجة لمنطق وجود النظام و سياساته القائمة على كبت المجتمع نفسه و تجاهل حاجاته الفعلية و اختراع حاجات وهمية مرتبطة بالنظام , النظام يفقد القدرة أكثر فأكثر على التحكم بمجرى الأحداث الذي يسبقه و بالأزمات التي يخلقها بعبثيته و بدائية نهبه للمجتمع , إن الأزمات المتتالية و المتصاعدة تقترب من درجة خطيرة جدا قد تجعل من سقوط النظام من الداخل عبر تفكك سريع لمنظومة أجهزته التي يتباهى باستقرارها رغم الانشقاقات داخل الطغمة الحاكمة و رغم الضغوط الخارجية , ضرورة لاستمرار الملايين من السوريين في الحياة و لعقلنة نسبية ضرورية لنهبه المنفلت للمجتمع بغرض إعادة التوازن بين نهب السلطة و إمكانية ضحايا النظام على الاستمرار بالحياة بالحدود الدنيا , هذا الشرط الضروري لاستمرار أية سلطة ( هذا عو عمليا واقع كل الأنظمة العربية , أنظمة رأسمالية الدولة البيروقراطية ) , ينحط النظام اليوم إلى ممارسة قمع استباقي , على الطريقة البوشية , بقمع أية إرهاصات لبديل في إطار النخب إما بإلحاقها بمنظومته لنهب المجتمع أو بقمعها خاصة في مواجهة ضغوط الخارج التي يتوهم البعض أنها تهدف إلى استبدال النظام ببديل نخبوي موالي و مضمون أو بمحاولة السيطرة على أية وسائل للتعبير و لتبادل الآراء خارج إطار أجهزته كالانترنت مثلا رغم نخبويتها و محدوديتها , يبقى المجتمع السوري , تبقى الطبقات التي في أسفل المجتمع مكشوفة على الآخر أمام النظام و أمام أية سلطة قادمة محتملة و غائب تماما عن الحراك داخل جزء محدود من النخبة الذي نشط لفترة قصيرة مع تصاعد الضغوط على النظام , هناك ذعر عام في النظام و النخبة و الخارج الأمريكي الإسرائيلي أساسا من عملية السقوط غير المحسوبة هذه , النخبة و الخارج تفضلان “تغييرا” ينقل السلطة مباشرة إلى سلطة بديلة و دون أي اضطراب في الشارع , أي دون أية أحداث في الشارع تخرجه عن عطالته وتمنحه أية قدرة على الفعل و التأثير , شاهدنا أن المسار العراقي باستخدام الخارج يناسب النخب بالتأكيد التي تعتقد أنها ستحل مكان النظام لكن ليس المجتمع الذي لن ينهي مثل هذا الحل حالة عزلته الداخلية , بل سيكرسها لصالح نخب جديدة حاكمة , رغم أن هذا لا يلغي الفوارق النسبية بين سلطة و أخرى , نخبة و أخرى, طغمة و أخرى , فروق تبقى في الكم و ليس في النوع..
– أنا أحترم جدا المخرج الذي تحدث عنه الأستاذ ياسين , لسبب أساسي هو أنني لا أجد ببساطة مخرج بسيط , سهل المنال , لحالة الاستثناء التي يمثلها النظام , لكني أعتقد بصدق أن أي مخرج لا يكون فيه الإنسان السوري بكل تفصيلاته هو أساسه , و أداته , هو مخرج مزيف , لنذكر أن النظام القائم , مع الأنظمة القومية الأخرى , و لنذهب شرقا لنشمل أيضا ما كان يسمى بالأنظمة الاشتراكية سابقا , قد نشأت من حلول فوقية نخبوية , مفروضة من خارج المجتمع عليه باسم خلاصه , إن هذا يعزز ما قاله الأستاذ ياسين من أن خلاص المجتمع , ناسه , لن يكون بيد نخبة من مثقفي الطبقة الوسطى , و لا بيد أية نخبة ما , و لا هي مهمتها التاريخية كما جرى الافتراض سابقا , لهذا بالتحديد لا أعتقد أن مشكلتنا هي فقط في مأسسة علاقة السلطة بالمجتمع بل في طبيعة هذه المؤسسات المقترحة أساسا , هذا إذا كنا نقصد منح الناس , المجتمع , و لو بعض الحماية أو الوسائل الدفاعية أمام السلطة , بسبب ظروف موضوعية لا معنى لأية مأسسة كهذه في ظروف سيطرة مطلقة لنخب اجتماعية و اقتصادية و تقليدية على المجتمع , لا في العراق و لا في لبنان و لا في دول أوروبا الشرقية أدى التغيير المشوه النخبوي إلى حماية من هذا النوع , ما جرى مأسسته هو سلطة النخب و صراعها على السلطة و الثروة , الفارق لا يتجاوز شكل إنتاج سلطتها على المجتمع , أما درجة نهب المجتمع و تهميشه من قبل هذه النخب فقد كان هائلا و منفلتا بشكل لا يصدق إذا أخذنا بعين الاعتبار الشعارات التي رافقت استبدال أنظمة الاستبداد بنخب بديلة , هذا يؤكد شيئا واحدا فقط : عندما تكون السلطة ممثلة لنخبة فوق المجتمع لا مكان لأية وسائل دفاعية جدية بيد المجتمع , في السياسة كما مورست حتى اليوم يدور كل الجدال حول الاختيار بين النخب المؤهلة للسلطة أو الموجودة في السلطة بالفعل , حول أكثرها أهلية و شرعية للحكم , المؤسسات الوحيدة التي يمكنها أن تثبت وجود الناس في مواجهة السلطة , أية سلطة , يجب أن تتجاوز الطبيعة النخبوية الفوقية إلى طابع قاعدي لا مركزي مباشر يمنح المجتمع بالفعل السيطرة على مصيره و حياته……..
مازن كم الماز