في صدد الوطنية القبلية وحرّاسها الإيديولوجيين
ياسين الحاج صالح
ليس الانفعال الإنساني السوي هو ما ميّز تفاعلات قطاع واسع من الكتّاب والصحافيين والمعلّقين العرب حيال العدوان الإسرائيلي على غزة، بل الشكل السطحي والاستعراضي والهائج لهذا الانفعال. كانت نبرات الكتابة عالية جدا، ولعلها كانت أعلى بعد في برامج الفضائيات التي لا أتابعها. كأن الجهاز العصبي لبني قومنا هؤلاء على سطوح أجسامهم، وكأنهم لا يحملون ولاءاتهم واعتقاداتهم في قلوبهم وضمائرهم، بل يرتدونها فوق ثيابهم أو يحملونها هراوات في أيديهم. غير أن العقائد التي تُرتدى، تتعرض للاتساخ والاهتراء والبهدلة. والهراوات لا بد أن تتكسر ذات يوم، وإن بعد صنع كفايتها من الجروح والضغائن والأحقاد. ما من أحد يمكن أن يتفوق في استعراض الانفعال أكثر من مهستر أو مهووس.
يستعرض القوم انفعالاتهم الحادة كأنها مفخرة، وكأن الانضباط النفسي عار يتعيّن محوه في كل حال. وهم لا يكتفون بغضبهم “الساطع”، بل ويدعون الناس جميعا إلى الغضب في استعراضات جماعية، كما لو أنه فضيلة سامية في حد ذاته. ومن لا يفعل فعلهم “مشبوه”، أو ربما “خائن”. ويبدو أن العربي الجيد في عرفهم هو العربي الغاضب، أجود منه الأشدّ غضبا، أما العربي غير الغاضب فقد لا يكون عربياً حقاً، ولعله عدوّ للعرب. والحال، إن استعراض الغضب والانفعال أقرب بالأحرى إلى التباهي بعدم التحكم بفتحات الجسد. وهو شيء ينبغي أن يكون منفّراً بقدر ما هو كذلك الفشل في السيطرة على أجسادنا. مقزّزاً مثله أيضا. وهو قبل ذلك كله مؤشر الى طفالة نفسية ممتنعة على النضج أو رافضة له. هذا العالم إما أب قاس متجبر وإما أمّ شريرة، فلا فرصة متاحة للأبناء المهجورين للفت أنظاره غير إفلات مصرّاتهم النفسية على الشاشات الغافلة أو أمام الميكروفونات الخالية البال أو على الورق الأبيض البريء.
لكن إذا كان على المتكلمين والمثقفين أن يُدخلوا الواقع القبيح كله في رؤوسهم، فليس لهم أن يُدخلوا رؤوسهم في الواقع القبيح (إن حاكينا قولة سديدة لماركس) إلى حد أن يتسمموا بالقبح والكراهية والعدوانية، فيجتهدون لتسميم غيرهم بها. وليس ثمة قضية في العالم توجب أن يسلّم المرء وجدانه إلى هذا القدر من الكراهية والحقد وضيق الأفق الذي يتفصد من نصوص هؤلاء الغاضبين المحترفين وتصريحاتهم. فإن كانت قضية نبيلة فإنها لن توجب ذلك، وإن لم تكن نبيلة فإنها لا تستحق ذلك. ينبغي أن يكون هذا بديهيا.
لكن كيف حصل أن صار إظهار السخط مفخرة، والصراخ نضالا، وشتم العدوّ نخوة، والهياج حساسية سوية، والتخوين وطنية، والتعبير عن الحقد والكراهية التزاما فكريا وسياسيا؟ وهل يمكن أي بشري سويّ أن يفكر في وضوح ويتكلم (أو يكتب) بصوت عالٍ في الوقت نفسه؟ ولو كان متكلمون وكتّاب وسياسيون أهدأ نبرة وأكثر تدقيقا، هل كان ذلك لينال من الصحة المحتملة لما يقولون أو يشكك في التزامهم الوطني ومشاعرهم الإنسانية؟ ولماذا لا يفوّت سادة المنابر العامة فرصة لتحويل سوء حظنا وسوء حالنا المقيم إلى سوء تفاهم وتعادٍ بيننا؟ ولماذا يشعرون أن “إثبات الوطنية” يقتضي عرض انفعالهم بالصوت والصورة، باللعاب المتناثر من الأفواه، وبإطلاق الاتهامات الشائنة والشتائم المقذعة، وبتفضيل الصيغ اللغوية القاطعة، وبمراكمة الأوصاف فوق الأوصاف؟ لكن هل الوطنية شيء في حاجة إلى إثبات أصلاً؟ من يتهم غيره في وطنيته؟ ولماذا؟ وبأيّ حق؟ وهل نتبين شعورا بالذنب أو حاجة إلى التبرؤ يجري التغلب عليها بعلوّ الأصوات، بحيث يغدو الجعير أقوى براهين الوطنية؟ وما هو شكل الضمير الذي يتحلل من آثامه بالصراخ، ويجعل الزعيق فضيلة؟
أصول فكرية وسياسية
ربما نجد أصل الحاجة إلى التبرؤ في بنية فكرة الوطنية المتداولة في ثقافتنا السياسية الشائعة. الوطنية هذه شعور، “حب”، كما وصف ميشال عفلق القومية يوماً؛ عاطفة وانفعال يملكان النفس، وليست فكرة تملكها النفس، ولا هي علاقة سياسية وحقوقية ذات أعماق ثقافية وشعورية. والشعور لا يوجد من دون التعبير العلني عنه، الشعر والخطابة تفضيليا؛ والشعور الذي لا يعبّر عنه غير موجود. وعلى الفور يترتب على ذلك أن الأعلى صوتا هو الأقوى شعورا، وهو الوطني الحقيقي.
وللوطنية الشعورية هذه طابع معياري، يحيل على “الأمة” و”ثوابتها” و”رسالتها” و”قضيتها”. و”الأمة” موجودة وباقية قبل أي تفضيلات وخيارات وحقوق محتملة للسكان النثريين، وفوقها، ما يجعل من الوطنية معرّفةً بالولاء لها فضيلة سامية، يحوزها البعض ويُحرم منها آخرون. وهي بعد فضيلة نادرة، لا يستحقها المرء إلا بعد عناء خاص. وقبل أن تخول الوطنية الثمينة النادرة هذه مستحقيها سلطة عامة ممتازة، هي بالذات سلطة ممتازة. فإن لم تكن السلطة هذه متطابقة مع السلطة العمومية وجب أن تطابقها، فالوطن للوطنيين. على هذا النحو يقام رباط جوهري بين السلطة والوطنية بينما تفصل الوطنية عن المواطنة. وسيكون الولاء للوطنية – السلطة البرهان الحاسم والوحيد على وطنية “المواطنين” المحكومين.
والوطنية – السلطة هذه لا تعرف “ثوابت الأمة” ومبادئها الأصيلة، بل تعرّفها وتعرّف نفسها بها. وهي لذلك في غنىً عن تفويض عام للكلام باسم الأمة أو حكمها. فعلاقتها بالأمة من جنس الأمة نفسها، شيء سابق للتفويض، وللسياسة نفسها. الأمة أمّ الوطنيين (وليس المواطنين)، وهم أبناؤها الأوفياء. والعلاقة بينهما طبيعية ودموية، وليست سياسية وثقافية. فلا معنى لاختبار وطنيتهم، لأنها ملتصقة بهم، لا تتحول عنهم مهما فعلوا. ولأنها ليست ملتصقة بغيرهم، يحتاج الغير هؤلاء إلى التأكيد المستمر لوطنيتهم. وهو ما قد يقتضي استخدام وكلاء ومساعدين وناطقين…، بحناجر قوية وطاقة قوية على الكره وغضب جاهز.
ندرة الوطنية هي “السر” وراء تعبير “إثبات الوطنية” الدارج كثيرا في أوساطنا، ربما في سوريا بخاصة، التعبير الذي يضمر أن المرء متهم في وطنيته حتى يثبت العكس. أما طابعها المعياري (وهو طابع تفكيرنا السياسي عموما)، فهو ما يفسر شيوع تعابير من نوع مشبوه وخائن وإخوتهما. فالمرء، “المواطن”، لا يكون وطنيا إلا بجهد خاص أو تأهيل نوعي، فيما هو خائن إن لم يبذل هذا الجهد، أو يشهّد معلّمي الوطن وسادته على أهليته الوطنية. والخيانة هي نقيض الوطنية، وهي شائعة مبذولة، تتربص بالمرء كيفما توجه، وخصوصاً إن “خالف” الإجماع المقرر. ولعل وفرة الخيانة هي ما تفسر الحاجة إلى طقوس تطهّر وطني من نوع هتافات الروح والدم، و”المسيرات الشعبية العفوية” والكليشيهات المكرورة في التعبير عن الشعور الوطني، والالتزام الوسواسي باستظهار هذه الكليشيهات.
أما الافتراض المعاكس، أن الخيانة نادرة، وأن المرء وطني تلقائيا، وأنه لا يكون خائنا إلا “بجهد خاص” يجب إثباته، فلا يمكن قبوله. ذلك أنه ينطوي على كسر احتكار الوطنية، فيتعذر تأسيس سلطة سياسية ورمزية على هذا التصور. ومن شأن ذلك أن يقلص أو يلغي الريوع المادية والسياسية التي يحظى بها أرباب الوطنية السلطوية هؤلاء ووكلاؤهم الناطقون.
واضحٌ أن هذه المفهوم المعياري للوطنية (الوطنية نادرة وفي حاجة إلى إثبات) مناسب لنظم الاستبداد. فهو يضع في أيديها سلاحا معنويا فتاكا، التخوين، يضاف إلى أسلحتهم المادية الفتاكة، من جيوش وعسس وسجون. التخوين، تالياً، وظيفة لشكل محدد من أشكال السلطة، وليس مبدأ أخلاقيا بديهيا سابقا على كل سلطة، على نحو ما يحاول تصوير الأمر وكلاء الوطنية الاستبدادية. الفصل بين الوطنية والمواطنة على نحو ما وصفناه، وجعل من في السلطة معيارا لوطنية سكان محرومين من المواطنة (رعايا مشكوك في أمرهم)، يجد تتمته المنطقية في اعتبار الوطنية موقفا من “الخارج” لا علاقة سياسية وحقوقية داخلية. فالمرء يكون وطنيا بقدر ما يهتف ضد الأعداء، وبقدر ما ينطق باسم هوية جماعية معطاة سلفا، بينما مطالبه المتصلة بالمساواة بين السكان ومسؤولية السلطات العمومية مثلا، تبدو غير دالة وطنيا، هذا إن لم تكن دالة على غير الوطنية. وكون الهوية معطاة ومقررة سلفا هو ما يفسر نفول التفكير والنقد والنبرة الشخصية. هو أيضا ما يعطي معنى خاصا للوضوح يجعله من نصاب الإجماع لا من نصاب الإبداع: قول ما هو معروف وثابت ومقرر سلفا، لذلك فإن من يخرج على هذا المقرر هو إما منحرف يتعين اعتقاله وتركه يتعفن في السجن، وإما هو خائن يجب القضاء عليه. وهو أيضا ما يفسر الصوت العالي. فحين تكون الحقيقة معروفة سلفا، لا يبقى غير إعلانها على الملأ وإسماع من لم يسمع. هو ما يفسر الغضب أخيرا: إذ على رغم أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فإن هناك من يكابر وينكرها، مختلقاً الذرائع للتشويش عليها! فكيف لا تغضب؟
في عالم فكري كهذا، ليس لنا أن نتوقع حساً نامياً بالسخرية أو تذوقاً لها، أو تفكيراً شكّياً، أو حساً إشكاليا، أو قدرة على نقد الذات، أو رهافة حس. شمس اليقين الذاتي تحرق كل هذه النوافل. وفي عالم فرط اليقين هذا، كيف للثقافة أن تعيش؟ إن دفقات الغضب المحتدم والكراهية اللاهبة والتعصب المفرط تحرق جراثيم الثقافة المعدية، فتعقّم هذا العالم الثقافي وتطهره من الوساوس والفوارق والشكوك الهدّامة. هنا يصنع الإجماع و… الغباء.
أصول تاريخية
بدوره فإن المبدأ القاضي بأن الوطنية موقف صحيح من الخارج مطلوب إثباته، وليست وجها تلقائيا للمواطنة، يجد عمقه التاريخي في بنية وعي قبلية تبدو متأصلة في ثقافتنا (أكثر مما في مجتمعاتنا العيانية: انفصام اجتماعي ثقافي). ابن القبيلة الحقيقي هو من يحامي عنها بلسانه ويده ضد أعدائها، من ينصرها ظالمة أو مظلومة. وهو وأخوه على ابن عمه، وهو وإبن عمه على الغريب (وهو وابنه على أخيه). من هذا الباب تحمل الوطنية القبلية هذه (أنا وابن عمي) في جوفها وطنيات مماثلة لها: الطائفية (أنا وأخي) والعائلية (أنا ونسلي). من جهة أخرى، القبيلة “عصبية” يفترض أنها لا تعرف تفرّقا؛ إنها صف واحد وكلمة واحدة. لا استقلال ممكناً للضمير ولا للعقل هنا، فالوطني القبلي يغوي إن غوت القبيلة (“الأمة”) ويرشد إن رشدت، على ما قال يوماً دريد ابن الصمة. وقد يمكن تمثيل “الأنا” القبلية بالصيغة الآتية: أنا منا، إذاً أنا معنا! أو في الأصح: أنا معنا، لكوني منا! تؤكد “الأنا” هذه ذاتها بذوبانها التام، بتخليها الفوري عن استقلالها. وهذا ما يجعل الثقافة فائضة تماما عن الحاجة. إذا ما فائدتها إن كانت هويتي الموروثة تحدد مواقفي العامة؟ إن كان انتمائي يقرر تفكيري وقيمي؟ و”لا يكذب خبرا” الوطنيون القبليون على كل حال، فالشعبوية سمتهم الغالبة، مع ما هو معلوم من أصالة عداء الشعبوية للثقافة. وقبل ذلك، يكفي الكلام على وطنية شعورية، تعمل حصرا على مستوى العاطفة والانفعال والطبيعة والتماهي، حتى تكون مضادة للثقافة. هذه بالتعريف تتكون بالاستقلال عن الطبيعة والشعور، وبضبط هذا وتحويله إلى وعي ومعرفة.
لم يتغير شيء جوهري في بنية الضمير في ظل عالم دار الإسلام، وإن توسع إطار الأخوة. وطن المسلم دينه. ليس حيث يعمل ويعيش ويملك ويأمن، بل الإسلام أو دار الإسلام، أي حيث السيادة السياسية والرمزية للإسلام. الوطنية هنا ولاء للدين، وللسلطة الحارسة له والقائمة باسمه. الخروج على السلطة مرفوض أكثر حتى من عدم التزام أوامر الدين ونواهيه. والخشية من الفوضى أو “الفتنة” مقدمة على التطلع إلى العدل. الطاعة والجماعة قرينتان، و”شق عصا” الأولى مفارقة محتومة للثانية، جالبة للكفر المبيح للدم (وللتكفير الديني والتخوين الوطني المعاصر بنية ثقافية واحدة، أساسها الندرة، ندرة الإيمان وندرة الوطنية، ما يعني أن مناهضة التخوين تبقى سطحية وعكوسة من دون القطيعة مع الثقافة التكفيرية). الهوية هنا معطاة سلفا ومتكونة نهائيا. فلا يبقى غير استظهار “ثوابتها”، الأمر الذي يقتضي حنجرة قوية أكثر من ذهن نقاد. استقلال الضمير مستحيل هنا أيضا. ولا تعني عقيدة “الولاء والبراء” التي يفترض أن ينضبط بها كل مسلم، شيئا مختلفا عن مبدأ “أنا معنا” وضدهم، أحبُّنا وأكرههم. هذان أصلان متعاقبان ومتزامنان في آن واحد لوطنياتنا المعاصرة. المفهوم القومي العربي للوطنية، هذا الذي يجعل الوطنية موضع إثبات، يبدو أوثق صلة بالقبيلة. لكن تطور دولنا، القومية منها وغير القومية، إلى نظم سلطانية محدثة جعلها أقرب الى النموذج الإسلامي الذي يتشكك في المجتمع وحركاته، ويجعل السلطان مبدأ للنظام والاستقرار، والفتنة هي الخطر الأقصى.
على أن النموذجين يشتركان في إنكار استقلال الأفراد، عقولهم وإراداتهم وضمائرهم. مستقلّو الضمير كان اسمهم صعاليك في القبيلة، وكانوا بلا حماية قانونية أو سياسية (لا يثأر لهم). ومستقلّو الضمير في ظل السلطانية قد يكونون “مثقفين”، متكلمين وفقهاء (ضميرهم مستقل عن السلطة وليس عن الدين أو الشريعة) وفلاسفة. وهم بلا حماية تقريبا أيضا.
يشتركان بعدُ في ما هو أهم في سياقنا هذا: الانجذاب “الفطري” إلى الآليات البلاغية واللغوية والإشهارية للانتماء. القبيلة يُفتخر بها وتُمدح ويُهجى أعداؤها؛ والإسلام يُشهر، فيُوالى وحده ويُبرّأ من غيره. وتتكفل خطب السياسيين وتصريحاتهم ووسائل إعلامهم، وخطب الجمعة في المساجد (وهي تسبح الله وتمدح السلطان وتبارك الرجل)، تجديداً دائماً لشباب هذه الممارسات البلاغية. وفي الحالين لا يُبدى أي اهتمام بنصاب الكلام من الواقع، أي “الحقيقة”. المهم ليس المعرفة والرصيد الواقعي لما نقول، بل حفظ الهوية والانتماء، وهذان يشتغلان بالعلامات والرموز لا بالمفاهيم. وتغلّب وظيفة الهوية على وظيفة المعرفة مشهور في إيديولوجياتنا الحديثة، بما فيها إيديولوجيات العمل كالشيوعية والقومية العربية. فقد آلت مفاهيمها إلى أنساق من الرموز التي تلبي وظائف التعارف بين معتنقيها أو كلمات السر الرابطة بينهم، وفقدت بالعملية نفسها وظائفها الشارحة والنظرية. ولما كانت المعرفة فعلا “متعديا” والهوية فعلا “لازما” أو انعكاسيا، نفهم أن الوطنية التي استعرضت نفسها سمعيا وبصريا على إيقاع التنكيل الإسرائيلي بغزة إنما هي وطنية هوية، تنشغل بذاتها وتحيل على ذاتها وتثني على ذاتها. ووطنية الهوية لا تخرج إلى العالم ولا تتفاعل معه ولا تحتاج إليه. لا شيء يعنيها غير مبدأ لذتها الذاتية.
بمجرد أن نتكلم على هوية وسياسة هوية ووطنية هوية، يسهل علينا فهم التخوين (آلية استبعاد للخلاف، وحفظ وتصليب للهوية)، يسهل كذلك فهم حلول علامات الهوية الصوتية والبلاغية والطقسية (آليات انتساب وتماهٍ). التفكير المستقل نافل هنا مثل الضمير المستقل. ألا تقتضي المعرفة إدخال التعدد في واحد الهوية (تحليل، تمييز، تفكيك، “سبر وتقسيم”…)، وتالياً خلخلته وإضعاف تماسكه الصخري؟ أليس أول الضمير التشكك في عدالتي، عدالتنا؟
يغرينا القول هنا إن الممارسات الإشهارية واللغوية والصوتية ليست مظهرا للمفهوم المعياري للوطنية، بل بالعكس: إن ما تنطوي عليه الممارسات الطقسية الراسخة هذه من يقين طارد للتردد والوساوس يقتضي مفهوما معياريا للوطنية، يتعذر التطابق معه على غير قلة مؤمنة أو وطنية، ما يبيح لها أن تحكم وحدها. الطقس الراسخ يؤسس المعيار المشرع. فإن صح أن الصوت العالي يسبق “الفكرة العالية”، حاز نقد الصوت العالي وطقوسه (ومنها في المناسبة الأذان عبر مكبّرات الصوت) أهمية فكرية وسياسية تأسيسية، يتعيّن التمعن فيها وتبيّن منطقها.
شروط معاصرة
لقد تمازجت نماذج تاريخية مستبطنة في الثقافة ومنقولة عبرها، مع مقتضيات الاستبداد في دولنا المعاصرة، ومع شرط تاريخي مناسب، من أجل ولادة هذا الضرب من الوطنية القبلية (أو وطنية الهوية). الشرط المعني هو الرضة الاستعمارية التي اتصفت بالاستمرارية في العالم العربي بسبب إقامة إسرائيل الغريبة والمعتدية في قلبه. فإذا كانت النماذج التاريخية للشعور الجمعي جعلت الوطنية الموجهة ضد الخارج ممكنة، فقد جعلها الاستبداد مرغوبة، وجعلها الشرط الاستعماري المستمر محتومة.
نضيف هنا أن الوطنية الموجهة ضد الخارج هي نفسها الوطنية الموجهة نحو الخارج، أعني المرشحة للانقلاب على نفسها والفناء في حب الخارج بعدما كانت تتفانى في العداء له. هذا لأن الوطنية هذه، وقد جردت محكوميها من ضمائرهم وعقولهم، غدت بلا بنية ذاتية، أو مركز ثقل داخلي، ما يجعلها خفيفة ونزوية و… قابلة للبيع، يسهل انتقالها من الأوتاركية إلى التبعية. أين هي الدولة العربية المعاصرة التي يمكن استثناؤها من هذه السمة البنيوية؟
هذه الوطنية لا يحامى عنها بنبرة هادئة، بتفكير شخصي متروٍّ، على أرضية قيم إنسانية عامة. إن تكوينها القبلي هو الإطار الاجتماعي الواقعي أو المتخيل لضروب “المعرفة” والولاءات والنبرات الصادحة التي استعرضت نفسها على وقع محنة غزة. فإن كنا نروم معرفة وتفكيرا ونبرة مختلفة، وهذا ممكن ومرغوب وضروري، فليس من دون جعل الإطار الاجتماعي هذا موضوعا لتفكيرنا، بما في ذلك وعي نماذجه التاريخية (تتكثف في الثقافة الدينية)، ودواعي استمراره المتمثلة في الاستبداد، وشرط إمكانه الاستعماري.
هل من حاجة إلى القول، ختاما، إن الوطنية الظلامية المحللة هنا، المفصولة عن جمهور المواطنين المحتقر، ليست وطنية؟ إنه إن كان لأوطاننا أن تنهض يوما، فضد الوطنية الجاهلة هذه وضد وكلائها حرّاس الغباء؟ إن وطنية مثقفة ومستنيرة مشروع
للمستقبل؟ ■
خاص – صفحات سورية –