خليل صويلح: المثقف السوري مهزوم في غياب المشروع النقدي
أنور بدر
خليل صويلح شاعر وروائي سوري، من مواليد الحسكة شمال شرق سورية، له ثلاثة دواوين شعرية، وخمس روايات، إضافة لكتابات نقدية آخرها محمد الماغوط سنونو الضجر، كما كتب أكثر من سيناريو سينمائي، وهو يحمل إجازة في التاريخ من جامعة دمشق، ويعمل في الصحافة الثقافية.
شكلت روايات صويلح بؤرة توتر في المشهد الثقافي السوري، إذ اقتربت من حياتنا اليومية، شابهت واقعنا، تحدثت عنا، روايات تخلو من المقدس إن لم تكن تسعى لتحطيمه في مستوى اللغة والأسلوب، في مستوى الشخصيات والأبطال، في مستوى القيم والتابوهات، يقول أن رواياته تشبه اليوميات، تشبه المرحلة المعاشة، وتذهب في التفاصيل أكثر مما تستهلكها الحكاية.
‘القدس العربي’ التقت الكاتب والروائي خليل صويلح وأدارت معه الحوار التالي:
يبدو خليل صويلح كأغلب الشعراء الذين غادروا باتجاه السرد الروائي؟
كنت واحداً من شعراء الثمانينات في الساحة السورية، ولكننا كجيل كنا الأكثر خيبةً واندحاراً، إذ واكب هذا الجيلَ وضع أمني ضاغط أطاح بتجاربنا جميعا.
أما على صعيد الرواية فأنا صحراوي، وأتصور أن الشعر الحديث ليست له أية علاقة بالصحراء، والحداء المرافق للقوافل، ولا أنا أنتمي لهذا الحداء أيضاً، بل اعتقد أن كل صحراوي يجب أن يكتب سرداً معاصراً، وبالتالي كانت الرواية نصاً مؤجلاً بالنسبة لي.
بدأت علاقتي بالرواية عبر نص ‘عين الغائب’، وكانت الفكرة الأساسية لهذا النص أن يكون فيلماً سينمائياً، لكن المشروع لم يكتمل وقتها، فحوّلته إلى كتاب روائي، ووجدت نفسي في السرد، مع أني اليوم لا أضع هذا النص بين رواياتي لأنه لا يشبهني.
الضربة الروائية الأولى كانت مع ‘وراق الحب’، ففي هذا النص سعيت إلى كتابة رواية مختلفة عمّا يكتب في سورية على الأقل، لكنها ظلت عند تخوم الشعر. كان في ذهني أن أستفيد من تقنيات وجماليات قصيدة النثر، وهذا ما فعلته عموماً في كافة رواياتي اللاحقة، بمعنى الاعتناء بتفاصيل صغيرة تُطيح بالحكاية المركزية وتذهب إلى الهامش بوصفه متناً، كما اعتمدت على الكتابة والمحو، وكأن النص غير قابل للاكتمال، وهكذا تتجاور الحكايات لتشكل جدارية، ولكنها مائلة، ففي كتاباتي – كما أدعي- لا تجد يقيناً، فأنا في نهاية الأمر انتسب إلى جيل ممزق، وليس لديه نص مكتمل، خصوصاً وأنه لا يتكئ على التاريخ والقضايا الكبرى الشائعة، وإنما يحاول تنجيد الذات والألم الشخصي.
استفاد خليل صويلح كثيراً من تقنية الكتابة الصحافية، من اللغة اليومية، العبارة الموجزة والابتعاد عن الإنشائية وفخامة اللغة القاموسية، مع أن البعض يشكك بإمكانية هذه اللغة في أن تنهض بمشروع روائي؟
أنا كاتب جديد واعتقد أن مبرر انتقالي من الشعر إلى الرواية هو إضافة أساليب جديدة على الكتابة الروائية، ومقترح شخصي لتعزيز نصٍ لطالما ظلَّ في الخلاء سورياً.
كما أن هذا النص هو جزء من تكويني الثقافي، بمعنى أننا جيل تسلل بغتة من جحيم الأيديولوجيات إلى عراء الحياة اليومية، وتالياً لا بد من كتابة نص يشبه حياتنا، وأنا لا أعلم لماذا يذهب الروائي السوري لمحاكمة الحقيقة العثمانية مثلاً، أو الانتداب الفرنسي، أو مرحلة الانقلابات وتمجيد الأبطال التاريخيين، فيما نحن نعيش في الوحل واقعاً ومجازاً. لماذا إذاً لا أختبر هذا الوحل مباشرة، وانظر من نافذتي إلى قذارة الشارع؟ هل المشروع الروائي لا يتجسد إلا عبر قضايا تسمى كبرى، وهي من دون حلٍ؟
على كل حال اعتقد أن مشكلة حب مستعصية هي قضية كبرى، وبطل مفلس يتجول في شوارع اليوم أهم وأكثر ثراء من استعادة فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس، المشكلة أن الآخرين اقتنعوا أن الروائي هو مؤرخ أولاً وأخيراً، فيما أرى أن على الروائي الجديد أن يكون سوسيولوجيا لاختيار خريطة ممزقة وبلا علم وطني، وعموماً أجد نفسي من سلالة ابن خلدون ولست من سلالة الطبري.
على صعيد التقنية أفهم أن النص اليوم هو مقترح سردي بالدرجة الأولى، لأن أي سائق تكسي لديه حكاية يمكن أن يرويها بطريقته، فيما الرواية تحتاج إلى خطاب سردي يوازي ويواكب ما هو معيشي، هكذا أجد أن السرد اليوم يشتبك مع كل الفنون والحقول الإبداعية الأخرى.
في رواياتي اعتمدت المشهدية أكثر من اعتمادي الوصف، لا أريد أن أصف مكاناً معروفاً سلفاً للقارئ، فالقارئ شريكي في كل النصوص التي كتبتها.
المكان في رواياتك يذهب باتجاه العشوائيات، مليء بالخراب الذي عشناه، كيف تفسر خراب المدينة؟ وهل تهرب منه بالعودة إلى الصحراء؟
ليس لدي منظور جاهز للمكان، أنا صحراوي أولاً، ولكنني عشت في المدينة أكثر مما عشت في الصحراء، ولعل في هذه الثنائية فائدة في التجوال بين الأمكنة، وليس لدي عموماً موقف نقدي من المدينة، ولكنني في لحظات هشاشتي – وهي كثيرة على أية حال- رغبت في لحظة ما أن أعود إلى صحرائي الأولى، ولكنه مجرد مجاز.
بالنسبة للعشوائيات أراها تختزل حال المدن الكبرى اليوم، إذ تحول الكائن البشري إلى مجرد حيوان في قفص، قد يكون من التوتياء أو الكرتون المقوى أو الاسمنت المغشوش، فهو بكل الحالات حتمية تفكير عسكري في العمارة.
خلال تجوالي اليومي في ضواحي دمشق اكتشفت كمية القبح البصري التي تختزنها هذه الأمكنة، فهربت بعد عشرة اشهر من إحدى الضواحي إلى قلب المدينة، لكن العشوائية ليست صفة للمكان فقط، إنما تتحكم بكل مناحي حياتنا، والرواية كانت محاولة لاختيار عشوائية الجسد، وعشوائية المكان، وأهمية تظهير صورة لطالما كانت ممنوعة تاريخياً.
يعتقد البعض أن خليل صويلح يكتب روايته الوحيدة باستمرار، ويماثل بين ضمير المتكلم فيما يكتب وبين الراوي؟
أسوأ أنواع النقد ذاك الذي ينهض على التلصص مستفيداً من وجود ضمير المتكلم في رواياتي، هذا الضمير الذي يتحاشاه كثير من الروائيين باللجوء إلى ضمير الغائب، وأنا لا أريد أن أكتب رواية مسلية لمرحلة ما قبل النوم، وإلا كان شغلي مجرد تراكم في قوائم اتحاد الكتاب العرب الذي لم انتسب إليه إطلاقاً.
بالطبع كل كتاب يحتوي على كلمة رواية يسحب كل الاتهامات الجاهزة والباطلة ضد الروائي نفسه، فالعملية هي سرد تخيلي لا بد أن يكون الروائي موجوداً في متنه، ولكنه كائن آخر لا يشبه صورته الحقيقية.
أتمنى شخصياً أن أكون بجرأة أبطال رواياتي، لأني في الواقع رجل خجول وريفي، ربما من المفارقة أن أتعرف على نساء رواياتي بعد نشرها.
المثقف، الصحافي، المخرج السينمائي… نماذج شخصياتك الروائية، لكنها نماذج تسقط دائماً في مواجهة الواقع، هل يبرر فساد المثقف في أعمالك بعضاً من ردود الفعل تجاه ما تكتب؟
هذا تصور قديم لدور المثقف يماثل بينه وبين النبي أو المخلص، فهذه الفكرة جاءت مع مشروع الثورات السياسية في معظم الخريطة العربية، لكن هذه السلطات بعد ان مكنت وجودها تخلت عن هذا المثقف أو ألحقته بمشروعها بصفة موظف.
غير أن مثقف اليوم ليس أسيرا لهذه التصورات الجاهزة، فهو فرد لا ينتسب للجموع بالمعنى التقليدي.لا شك أن هناك مثقفاً فاسداً وآخر نزيهاً. هذا ما تكشف عنه مواقفه الفردية، المشكلة إذاً في عدم مغادرة منطقة إبداعية، تمَّ استهلاكها منذ عقود، تلك المنطقة التي جعلت من المبدع نبياً ولا أنبياء اليوم.
ثم ان مثقف اليوم في أحد وجوهه يحمل على كتفه رتباً لا تختلف كثيراً عما يحمله العسكري، فكلاهما إفراز ثقافة واحدة.
في روايتي ‘دع عنك لومي’ على نحو خاص اختبرت عن كثب حياة مجموعة من المثقفين الهامشيين طوال عام كامل، فاكتشف أقنعة لا تحصى يستخدمها هؤلاء في مواجهة خيباتهم وانتصاراتهم المزعومة.
اعتقد أن إزاحة الأقنعة عن هؤلاء برصد دقيق ومتين أثار الزوابع حولي، ولو أن الحياة الثقافية السورية لا تحوي مثل هؤلاء لما أثارت الرواية جدلاً. ثم ان الرواية هي مجرد تخييل لشخصيات مركبة مما هو واقعي وما هو متخيل، وهذا يفسر أن أفراداً من المغرب مثلاً وجدوا في هذه الشخصيات ما يشبهها في بلادهم.
عموماً المثقف السوري مهزوم بغياب أي مشروع نقدي أو فكري في ساحة تشبه المستنقع الراكد.
هل ما زال النقد الأكاديمي مسيطرا في هذه الساحة ويفرض مصطلحاته بعيداً عن الحركة الإبداعية؟
عموماً نحن نعيش لحظة سلفية في كل المقاييس، إذ تحولت الحداثة إلى شبهة استعمارية، وما يثير انتباهي في السنوات الأخيرة أن المثقف السوري على نحو خاص يعيش بما يشبه العمرة، إذ انكفأ معظم الآباء الحداثيين إلى نص مغلق يواكب متطلبات الستر وحسن الختام. لذلك فإن النصوص الجديدة معرضة للسهام من الجهات الأربع، ولعل العزاء في التفات اللغات الأخرى إلى النصوص الجديدة التي تكتب عربياً، لترجمتها والاحتفاء بها، وهذه شبهة أثارت جيل الآباء.
على الصعيد الشخصي حُوربت رواياتي محلياً لانتسابها إلى حداثة لا يمكن للناقد المياوم أن يواكب أدواتها، فحاول إزاحتها من أمامه لفقدانه مرجعيات تحاكم مثل هذه النصوص، فاختار الطريقة الأسهل وهي رفضها واعتبارها ليست روايات.
على عكس ما حدث عربياً، إذ استقبلت رواياتي باحتفاء من نقاد يفترض أنهم كلاسيكيون أمثال جابر عصفور، فيصل دراج، محمد برادة، إضافة إلى نقاد آخرين دافعوا عن السردية الحديثة في هذه الروايات. حتى أنه بعد مرور نحو ست سنوات على صدور ‘وراق الحب’ صار البعض يعتبرها مفترقاً في الكتابة الروائية السورية الجديدة، وها هي دار الشروق في مصر تصدر الطبعة الثالثة من الرواية، فيما طُبعت ‘بريد عاجل’ طبعة ثانية.
كيف ترى كناقد وروائي مستقبل الرواية السورية؟
أرى أن نافذة تنفتح اليوم أمام نص روائي سوري جديد، إذ برزت في العقد الأخير كوكبة من الأسماء لمقترح سردي مختلف، أطاح بالتصورات القديمة للرواية.
معظم هؤلاء الكتاب الجدد يشتغلون في منطقة راهنة سردياً وحكائياً، ومحاولة لفحص تحولات الشارع السوري الجديد، لكن هذه التجارب لا تزال تخوض في مغامرة غير مكتملة، إذ تسعى إلى الشرعية أكثر من سعيها إلى الاختلاف والمواجهة.
القدس العربي