صفحات ثقافية

كيف تغادر منزلاً

null


عباس بيضون

يسأل الواحد نفسه وقد شارف على أن يغادر منزلاً أقام فيه ثماني سنوات وأكثر، اذا كان سيترك فيه ذكريات. مرت عليه أحداث مهولة لكنها تمانع في أن تأوي الى هذا المكان. كأنما حدثت في مكان آخر. كأنما حدثت في لا مكان. ترى انتهى ذلك الزمن الذي ترد فيه الحياة الى منزل فيقال «بيت العائلة» أو «بيت الطفولة».
لم تعد البيوت كما كان يقال في القديم قمصاناً. لعلنا نفهم الآن علاقة الذكريات السيئة بالمكان والزمان، ويصعب علينا أن نعلمها بساطة بأزمنة وأمكنة. ثم ما هو البيت، إنه شيء ينمو من حاله. انه تقريبا مكان اختفاء أو اختباء أشياء لا تحصى ولا تعد. أشياء لا ننتهي من ملاحظتها الى الحد الذي نفهم فيه أن لا نهاية لها وأن من الصعوبة بمكان أن نخرجها جميعها من البيت أو أن نترك البيت نظيفا خاليا كما دخلناه. لا بد أن بعضا منها سيبقى في مخبئه وسنلاحظ بيأس أننا لن ننجح في إفراغ البيت أو بالأحرى أننا لن ننجح في الخروج تماما منه. أشياء كثيرة ستبقى في مخابئها، لكننا بمجرد أن نخرج ستموت في مكانها وستتوقف كليا عن النبض. وفي الأغلب سيرمونها حالما يعثرون عليها دون أن يسألوا اذا كان لهذا معنى.

لا أستمهل الوقت ولا أعد نفسي بليلة إضافية، لكنني لا أعرف كيف سأخرج. فالبيت قد ربى بنفسه أشياء لا أعرف كيف تكونت. إلا ان تكون تناسلت أو فقست أو نمت كالميكروب والبكتيريا. مثل هذه الكتب التي لا أعرف كيف سالت في كل مكان وكيف ملأت كل الفجوات والفراغات. كيف صارت في خزائن الدورسوار وفي خزائن الثياب وفي العلب والصناديق وعلى الطاولات… كتب.. كتب، لا أعرف من أين تجمعت هكذا، لا بد أن إهمالا كبيرا أدى الى هذا، لست جامع كتب ولا أحمل معي الى البيت إلا كتبا تعنيني على نحو أو آخر، ثم إنني من وقت الى وقت أرمي كتبا بدون أن ينصدع قلبي وبدون أن أسمع أنيناً للكلمات وهي تنسحق. وكنت أظن أنني هكذا حددت فعلا كتبي. لكن ما أراه الآن لا يدل على ذلك ولا يؤكده. ما أراه الآن كتبا في كل مكان بل كتبا بعضها انبرى ورث، وبعضها شبع غباراً وبعضها ليس للقراءة أساسا. جلست لأفرزها فقد كانت منذ أمد طويلة مخلوطة ببعضها البعض حتى استحالت المكتبة الى مقبرة للكتب، واستحال بالطبع في هذا السديم الكتبي البحث عن كتاب، وآيست من ذلك الى حد أنني ما عدت أرجع الى المكتبة، وعليّ الآن أن أجلس وأتناولها واحدا واحدا. كتابا كتابا وان أنظر في كل عنوان وكل اسم لأقرر أن أحتفظ به أو أنحيه جانبا. كان عليّ أحيانا أن أتصفح مجموعة شعرية سهوت عن اسم صاحبها لأقرر ميدانيا بشأنها أنها دراما فعلية، كل مع كل كتاب وقفة. ومع كل كتاب هناك مراجعة وفحص ضمير ومزيج من المشاعر. ثمة كتب تكرهها وتريد أن تكرهها وان لا يمنعك شيء عن كرهها وأنت تبادلها العداء، هناك كتب نشفق عليها. هناك كتب تقامر عليها مع نفسك وأخرى تؤذيها عن عمد. هناك مؤامرات ونكايات وحزازات وعواطف سخيفة وبضع عمليات قتل. وبضع أكاذيب على نفسك والنتيجة بالطبع مزيد من الخلاف مع العالم.

ثم مع ذلك تطل فتجد في الممشى كتبا لا تعرف أن تصنفها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى