صفحات مختارةياسين الحاج صالح

شركاء في العالم، نشبهه ونتشبه به..

null

ياسين الحاج صالح

يريد مثقفون عرب الديمقراطية والتقدم لبلدانهم، لكنهم لا يوفرون فرصة دون رفع أسوار شك وحواجز اختلاف عن العالم وحفر خنادق لمواجهته. هذا لا يتناسب مع ذاك، لا سياسيا ولا نفسيا ولا ثقافيا. ديمقراطية وتقدم يعني تقليص الفوارق عن العالم المحيط بنا إلى أقصى حد. يعني التفكير والتصرف على أساس أننا مثل غيرنا، لا أقل ولا أكثر. يعني رفض الخصوصيات، سوءا كان سندها دينيا أو ثقافيا أو جيوسياسيا. ويعني كذلك مقاومة عقد النقص ورفض عقد التفوق.

هذه سمات موقف نفسي وذهني لا غنى عنه من أجل الديمقراطية والتقدم. أنسب للاستبداد وللجمود، بالعكس، تغذية موقف انسحابي من العالم وإنكار اختلاطنا به ومشابهتنا له. أنسب للرجعيين والمحافظين في الغرب أيضا نصب أسوار وحفر خنادق، وهم لا يكفون عن ذلك. وهو ما لا تكف عن فعله إسرائيل أيضا. بل هي جسدته ماديا أكثر من غيرها بتشييد جدار عازل وبمراكمة أداوت قوة وعنف تعادل مفعول أعلى الأسوار الدفاعية في أزمنة خلت.

ما لا يتبينه مثقفون عرب يحصل أن ينسبون أنفسهم إلى التقدم والديمقراطية أنهم شركاء لأشد القوى محافظة ورجعية في الغرب، وهي القوى النافذة الكلمة اليوم في السياسة والأعلى صوتا في الثقافة. ويرسي الشركاء هناك أسوارهم على ركائز من الاختلاف الثقافي أو الحضاري، فيتحدثون عن صراع الحضارات أو عن غرب يهودي مسيحي أو عن معجزة أوربية، فيما يتكلمون هنا عن الجهاد وعن الأصالة والخصوصية وعن حضارة عربية إسلامية.

ليس موقفنا الانعزالي والمتوجس هو ما أسس للتعازل العالمي المرشح للتعمق، لكنه لا يسهم في الحد منه. ولا يخدم التنصل من المسؤولية الشائع في أوساطنا، المتمثل في القول إننا نرد على العدوان أو نقاوم التمييز واللامساواة، في غير ترسيخ الانفصال عن العالم والغربة فيه. والحالة الذهنية هذه أوفق للتحجر في أوضاع قديمة منها للانخراط المسؤول في ألعاب العالم وصراعاته المتجددة أبدا.

ليس العالم عادلا، لكن في الانخراط فيه كسب وخسارة، فيما لا يفضي الانفصال عنه إلا إلى القزامة الحضارية والنفسية والسياسية التي يبدو أننا أدمنا عليها فلم نعد نطيق منها خروجا. خسارة محض.

نحن أيضا لسنان عادلون. لسنا أمة غرة بريئة، ولدت البارحة. لقد سبق أن فتحنا بلدانا وغزونا شعوبا وأخضعنا ثقافات واحتقرنا أديانا، ورفعنا أنفسا فوق غيرنا، وفي سجلنا من المظالم ما يصمد للمقارنة مع ما في سجل الامبراطوريات القديمة والامبرياليات الحديثة. ما من فاتح هو أرحم من غيره، لأن الفتح والرحمة يقعان في عالمين مختلفين. ومن شأن إدراك مسؤوليتنا، قديما واليوم، أن يسهم بتحريرنا من موقف النهنهة الكئيبة المثيرة للاحتقار. ومن شأنه بالخصوص أن يحثنا على الانسلاخ من سيكولوجيا الضحية الدائمة.

لسنا مركز العالم أو “خير أمة أخرجت للناس”، ولا أصحاب “رسالة خالدة”. لكننا لسنا كذلك عالة على العالم أو أيتاما غرباء على موائد مقتدريه. هذان موقفان لا نكف عن التحول من أحدهما إلى الآخر، أو نحملهما معا وفي الوقت نفسه. لا نكف كذلك عن تغيير موقعنا ضمن ما يسميه متكلمو الانكليزية “لعبة اللوم” أو التلاوم، فنتحول من لوم الغير إلى لوم أنفسنا وتجريحها، أو من لوم الذات إلى إدانة الغير وتغذية الضغينة حياله، لكن دون أن نخرج من وعلى اللعبة ذاتها.

الموقف المعافي نقيض هذين معا. إننا في هذا العالم منه ومعه، شركاء فيه، نصارع دون جحد المشترك مع غيرنا، ونشارك دون استعداد للذوبان في غيرنا. لا ملامة ولا مُلاوَمة. هذا ما نفترض أنه أساس سيكولوجية سوية من أجل التقدم والديمقراطية.

الواجب، إذن، واجب النخب والمثقفين قبل غيرهم، هو أن نناضل من أجل أن نشبه العالم ونتشبه به، لا أن نختلف عنه ونخالفه. يتعارض هذا التوجه مع نازع متأصل في الثقافة والسيكولوجية العربية نحو “الأصالة” والتفرد والاختلاف، يتناسب أكثر مع الاشتباه بالعالم والإعراض عنه. والنازع هذه وثيق الصلة بالنزعة القومية الرومانسية التي تجعل الكبرياء أخص خصائص الشعور القومي.

ومن جهة أخرى لا تعارض بين إرادة مشابهة العالم والانتماء له وبين الإبداع بوصفه اجتراح حلول جديدة لمشكلات جديدة. بل إن الإبداع غير ممكن في عالم اليوم على غير أرضية الحداثة العلمية والسياسية، بما في هذه الديمقراطية والعلمانية والليبرالية. وهي أسس التشابه العالمي التي لا يكون الاختلاف تقدميا على غير أرضية المشاركة فيها. أما نازع الأصالة الموسوس بمشابهة الذات فهو الطريق العكسي للإبداع. ففي النهاية الموتى وحدهم هو من يشبهون أنفسهم تماما.

لا شيء مما سبق يقضي أن يكون العالم معرضا للعدالة والإنصاف، ولا شيء فيه ينفي وقائع العدوان والصراع في هذا العالم الوحيد الذي يضمنا مع أصدقائنا وخصومنا وأعدائنا. إنه حث على موقف نفسي أكثر إقبالا على العالم، يعتبر الوقائع تلك من عاديات الحياة التي تعالج بالحكمة والذكاء، بالمقاومة في العالم لا بمقاومة العالم. الحرد لا يجدي، ورثاء الذات عقيم. وهما أجدر بالازدراء منهما بالاحترام.

في المحصلة، لا مجال لتقدمنا دون تغير سيكولوجي عميق. إن جيلا متحررا من لعبة اللوم هو المؤهل لقيادة انخراط العرب في العالم، بتواضع لكن باحترام للذات، وبجسارة لكن باحترام للغير. أما أجيالنا

الحاضرة فقد فسد ضميرها إلى درجة أن تحررنا ربما يقتضي أولا التحرر منها.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى