عارياً إلا من الشعر
اسكندر حبش
في نص أساسي له، كتب هايدغر مرّة إنه وقف متأملاً في لوحة شهيرة لفان غوغ تمثل فردتي حذاء، مفكوكة الرباط، عالقة بها آثار الطين، فتساءل «ما هو الشيء؟ ما هو المستحضر؟ ما هو العمل الفني؟». وبعد تأمل عميق، فسّر فيه معنى الأرض البور، الأرض المليئة بالمطر، قال الفيلسوف الألماني «إن العمل الفني هو الذي يجعلنا نعرف ما هي حقيقة فردتي الحذاء». وأضاف «الجمال هو مكان الانغلاق على هذه الحقيقة».
غالباً ما كنت أميل إلى قراءة شعر بسام حجار بكونه «جمال انغلاق الحقيقة» هذه، إذ كانت قصائده تعيدني إلى الشعر دوماً، لأنها قصائد كتبت للشعر من دون أن تحمل على ظهرها أناشيدها الرتيبة وادعاءاتها الكاذبة. بهذا المعنى كان الشاعر يدخل إلى القصيدة عارياً من كلّ المزاعم، يدخل عاريا إلا من الشعر، وهذا ما أتاح له تفردا خاصا في التشكيل والنسيج والمناخ، تفرداً في شعر ينبع من هاجسه، من هاجس الكتابة نفسها.
قلة هم الشعراء الذين تجد أن قراءتهم تدفع لإيقاظ ثقة فيك. فالنظرة التي تمرّ من كلمة إلى كلمة ومن قصيدة إلى قصيدة، تحيلك إلى هذه العبارة المنبسطة، إلى العبارة التي تسكن معناها، كما لو أن نهراً يحفر مجراه، ويسير كالسهل في رذاذه، لأنها عبارة تهب نفسها من دون مواربة أو وساطة. ثمة دهشة تمارسها الكلمات لتسرق دهشتنا، بمعنى آخر، كان كل شيء عنده يوحي بأن الخطاب الشعري ما زال ممكن الحصول، على الرغم من أن قصيدته، في النهاية، تنمحي وتذوب وتنزلق خارج العالم المتعارف عليه، لكن من الواضح أيضاً بأن هذا العالم لا يخرج من نفسه إلا إذا تحول إلى قصيدة، إنه هذه العبارة التي تحاول أن تنقذنا من هذا التشتت الذي يغلف وجه العالم. تماماً كما قال في إحدى قصائد مجموعته «فقط لو يدك» (…) «في مكان ما/ كنت أحيا» (…). فما بين الحياة وهذا المكان، يتراءى لنا شعر بسام حجار وكأنه يقع في التماس ما، كأنه (كما قال مالارميه) يتبادل البراهين في إقامة الإنسان في هذا العالم. إنهما يتراهنان على بعضهما بعضاً أو أنهما يشيخان سوياً أو ربما يخلصان لبعضهما كي تحتفظ هذه الحياة بمعنى (والعبارة أيضاً لمالارميه).
هذا المعنى، كان يحاول بسام حجار كتابته عبر فكرة الموت، وكأنه كان يشعر بهذا الموت الكامن، برؤياه، وكأن الموت عنده كان مادة استطاع أن يشاهدها، أن يمسك بها. وفي هذه المواجهة ما بين الحياة والموت، كان الشاعر ينمحي، لتظن أن القصيدة أخذت مكانه لتحيل إلى فراغ في المكان. هو فراغ، ولكن لمكان آخر. المكان الذي تصوّب القصيدة نظرها عليه من دون أن تأسره، لأن الشاعر يشير إلى الذي لا يمكن له أن يسمّيه.
ربما هي التسميات التي تغيب اليوم، لكن الشاعر يبقى حاضراً… على الأقل في شعره.