ترزي يذهّب معنى
محمد دريوس
أربع عشرة مجموعة شعريّة لبسام حجار، تزجّ بنا، برقة نسمة في خلاء، في قلب شبكة شعرية، ليس الغموض من ارتكاباتها، بل الحيرة، من مغامرة شعرية سأحاول الدنوّ من فكرة واحدة فيها أحسب ُ، وحسابي وثيق ُالصلة بعوالم بسام، أنّه أولاها أهمية ما، أو لاتصالها بما أظنّه أولاه أهمية ما، أو لظنّي بهذا، فهو يتناول ما ظننته دوما الفكرة الأشدّ أهمية بالنسبة لشاعر والتي تستحق أن يُصرف عمر في ملاحقة مفاتنها، مجابهة الفناء بارتداء قناع الفناء نفسه.
فكما في أغنى المغامرات التي تصرف القارئ خلف تفصيل يتراءى له بسيطا، أو صورة يظنّها عابرة، وما أن يتبعها حتى يجد الزمان كلّه والمعنى كلّه والأبّهة كلّها، خلف خفرها المدّعي.
يدخل بسام، في شعره كله تقريبا، مدخلَ موتٍ، لا لغرام فيه على ضرب متصوفة ٍبوصفه الوجه الأبدي للحقِّ وإن استعار بعض تمائمهم، بل لاختبار نفسه في نفس الموت، قسوة واقعة في الخارج على بعد نأمات، ارتماء كلّي في الفَقْد كمفردة موت، ونفي الخارج خارج الذات الشاعرة، الخارج بما فيه من بطلان واحتمالات متجددة لخسائر متجددة، كما قال هو مرّة في لقاء له: أشعر بأن الصلة بالخارج هي انتثار، شتات مؤلم لا يستطيع وعيي الضئيل غير الشمولي، أن يحتمله.
وإذن، لا سيرة للشاعر، أيّ شاعر، لا حكمة تستخلصها من مجابهاته وهو لا يجابه إلا وساوسه، ولا محطات نستطيع القول بيقين عندها: هنا اخترق قلب الظلام، وهنا اجترح معجزة ضمن حرب أو هجرة أو إقامة في المكان / الزمان، علاماته علامات فَقْد، أثره هو انمحاء الأثر، بيانه بيان الانسحاب الخافت من الحياة، كأنه يؤرّخ بالذي لا يحصل لما يحصل، بالذي لا دم يبقّع بياض نشأته ولا طعم له إلا طعم وهم ِالتحقّق. لا تصدّقوا اليوميات الصغيرة، لا تصدّقوا بالكأس وصحن حليب الهرّة، هذا وهم حياة لم تحصل إلاّ في ذهب رأسه، رغبة بامتلاك سيرة، سيرة لم تحصل على هذا النحو، أو حصلت ولم يُقبض على برهاتها بفحم الذاكرة، فتعيد المخيلة ملء الفراغات التي أنشأتها العزلة بتفاصيل أشد ما يؤلم فيها أنها متخيلة لدرجة تحل محل الخارج فعلا وتصبح أكثر واقعية منه، بحيث يكتب نصلا فيقطر دمٌ من سبّابته.
وبهذا القصد، يتبدّى الشعر دفاعا عن وجود، متراس رمل ملون، ارتداء أقنعة كما كان يفعل فرسان العصور القديمة، لتحييد الموت، أو لخداعه، أو لأقلْ يتبدّى الشعر ظنٌّ بالشعر، إنفاذا لبيسوّا وبورخيس أحيانا، والهدف الجليّ ليس تلاعبا باللغة أو ” ملعنة ” حاو ٍ بل هو اتصال بالكمال عبر التعدّد والتنوع والبحث عميقا عن الأكيد لإذهاله ومن ثم الكفّ عن كتابة الشعر.
الشاعر الحقيقي في ظنّي لا يملك يقين ما يكابده، أو يظنّه غير ما هو عليه، من يتأرجح به الظنُّ على الدوام، بخفّة نصل ٍلامع، بين الحقائق المبرهنة بعناية كهنة الحقائق، من ينوس به الهاجس بين الداخل المدمّر أصلا والخارج الأكثر دمارا، لا يتيقن الشاعر من شيء، الشاعر يظنّ الشعر ارتطام بالمطلق فيرتطم به ويظنُّ أن هذه هي الحياة فيحياها وهذا هو الموت فيموته، يظنُّ بالشوق ويظنُّ بالحب و يظنُّ بالمزاج وهو في هذا كله يبتكر مسارات ووظائف ومعاني، دليله في اللغة والعاطفة ما يظنُّه دليله، برقُ روح ٍهو روحٌ تبرق في ظلمة معادية.
وهمُ الشاعر يكتب سيرته أو كتابته سيرةُ وهم ٍ لرجل قبض مرّة على روحه فوجدها مغرمة بصور بلاغية من تأثيره، واقعة في حب ما لا يوجد في حيّز إلا حيز الإيمان البسيط كإيمان العجائز، ما يتبدّد آن تحاول الإمساك به ويبدو آسرا في تلاشيه الضاحك، وما يُدخله الشاعر في معجم حياته من سرب مفردات مستخدمة من قبل آخرين في تصاريف حياتية، ليس تأسيسا لمسعى جمالي يستنهض المتروك أو يؤنسنه وليس اقتراحا شعريا يتأتّى من مهمل الكلام، هذه طبقة قليلة العمق وغير مشبعة لروح ٍمتطلّبة كروح بسام حجار، هي، بالعودة لما سبق، ابتكار لأبعاد محددة ومُقاسة بالغرف والكراسي والأطباق، وحتى بالروائح والنأمات، لتجوّل روح تقاسي وحشة في الظن أو التوهم، روح خسرت إيمانها بالخارج، بالحياة وربما لم تمتلك إيمانا كهذا قط، فانحازتْ، ليس إلى الجانب المضاد فهي ليست يائسة وليست نزّاعة للانتحار، بل إلى جانب الحياة المتخيلة، المبتكرة في حدائق الظن، الحقيقية أ كثر من الحياة نفسها.
ولادة قصيدة، لا، هذا تشبيه مبتذل، لا لأنه يلغي فقط المتعة الروحية في سحر التدوين، بل أيضا لأنه ينفي خاصيّة اللعب، اللعب على وبالمعنى، اللعب الشفيف،البارع، المتردّد، الخائف من أن يصير حقيقة ولاحقا جريمة ربما، المقنّع ببراقع الدراويش والأنبياء، والأهم الأهم المتألم، يكتب بسام حجار كمن تؤلمه الحياة برمتها ناهيك عن الكتابة، كمن تجهده كتابة مفردة، أي مفردة، فيستعيض عنها بأخرى تمحو الدليل إلى ألمه الشخصي. لكنه يبقي لنا مظانّ ألم ٍأعمق هو ألم الحيرة، لإخفاء ما يُشقي، ما يرشح من نصاعة ألمه، ما يقطر من السيرة السرية لقاع روحه، ” مالا يقال إلا همسا”، كأنه حين يتألم يرقُّ ويشفُّ ثم يتبدّد مخلفا هذا الشعور الغامض بالضيق والغصة.
والألم متصل بمسار رفيع لكن متين بأوجهه الأخرى، الوحشة والعزلة والعنوان العريض “الموت”، فنعثر في كل سطر على الانخطاف الكلي أمام الصورة أو القناع الذي ينسحب على مقولاته كلها تقريباً، الكتابة في هاجس الغياب كتابة “مزاج السروة” التي يستعيدها مراراً ويوصلها بضربة ريش واحدة من جناح نسر بالإله المستوحد الذي يتبادل وإياه الأمكنة، في التوهم نفسه، في قصيدة “مزار بجانب الطريق”، إمعاناً في المشابهة، وحشة ٌقاتلة ٌوعزلة ٌأقْتَلُ.
ليس البذخ اللغوي أو البلاغي من مكونات قصيدة بسام حجار، وليس التقشّف أيضا، بل الدقة، الدقة التي تصيب مقتلا، هو يقول “معجمي ضيق لأن اللغة أوسع من أي حياة ” بالضبط، يقول ما يجب أن يقوله شاعر متولّه بما في رأسه، يحوك حياته على ورق مذهّب، شاعر يتألم حين يكتب مفردة ألم ويموت حين يكتب مفردة موت ويذوب حباً حين يذوب حباً، لن أمتدح ما هو بديهي في شعر حجار، البراعة والانتباه الفذّ لدلالة المفردات وملامسة الموضوعات التي يعجز الشعر، إلا قليلاً، عن مقاربتها: الشوق والفقد والغيبة، سأمتدح ما يختفي من الشعر العربي الحديث، ما أجمع الجميع على وجوب بطلانه في قصيدة النثر، العاطفة الثرّة، المتدفقة، الصريحة، غير المواربة، التي تجعلك تختنق لفرط ما بها من إتيان ثريّ، غنائية الراعي المستوحد، والتي، لشدة ما أحببتها، أودّ لو أنتحلها لنفسي، أن أرتدي رداء بسام حجار وأغرق في جمالها الصافي كمعجزة:
وأحببتُ الوردة ولشدّة
ما أحببتُ
جفّت البتلات
وما علمتُ قبل الآن أنّ
يدي البلا ملمس
هي يد الميت الذي كنتُه
وقلبي قربة من البكاء،
وجسمي فزّاعة طير
نُصبت في برّية موحشة
حيث لا تنضج ثمار.
المستقبل