الحقل المكشوف والجميل
ناظم السيد
كان بسام حجار من أوائل الشعراء الحديثين الذين قرأتهم متأخراً نوعاً ما. كتابه الأول “مشاغل رجل هادئ جداً” دخل ذائقتي الشعرية ووافقها وساهم في صوغها مبكراً. عندما قرأت له لاحقاً كتباً مثل “لأروي كمن يخاف أن يرى” و”مهن القسوة” و”فقط لو يدك” وصولاً إلى “ألبوم العائلة”، زاد إعجابي به. كان بسام حجار هو الذي أخذني إلى الشعر الحديث من غير أن أفقد علاقتي بتراثي وذاكرتي ونظرتي للشعر. كيف حدث هذا؟ سأحاول:
في اعتقادي، بسام حجار شكل نصاً شعرياً منح قصيدة النثر العربية مشروعية بعد نص محمد الماغوط. الأخير كتب نصاً عربياً تحت وطأة جهله باللغات الأجنبية. هذا الجهل ساعده كثيراً في كتابة قصيدة نثر عربية لا تشبه ألاعيب هذه القصيدة كما راجت على أيدي مجايليه. بسام حجار كان يتقن لغة أجنبية وقد ترجم عشرات الكتب من روايات وغيرها، لكن جملته كانت عربية بامتياز. حتى ترجماته كانت تغدو عربية صرفة لفرط رهافته اللغوية. لم يلعب بسام حجار مع قصيدة النثر. لم يقم بحركات بهلوانية. لم يرقص على حبل ولم يخرج من فمه النار. كان أبسط مما توقع شعراء النثر وقرّاء النثر. كان بسيطاً لدرجة الإدهاش. كتب قصيدة سهلة، عميقة، ذات بنية لغوية واضحة. كان بسام يكتب بلغته. لم يقترض ولم يستدن. كتب نفسه وحياته الشحيحة ومحيطه العائلي الدافئ والمؤلم بمفردات قليلة. بهذه البساطة، بهذه الأصالة، بهذه الطبيعية، كان بسام يمنح قصيدة النثر العربية مشروعية.
كان بسام حجار على ثقافة واسعة بالأدب العالمي وبالنقد في العالم. مع ذلك ظلَّ مخلصاً لمساحة حميمة في حياته: الحب، العائلة والموت. ثلاث ثيمات بسيطة وكبيرة في آن اشتغل عليها بسام حجار. كتب حبه الواهي والمؤلم، كتب موت الأب والأخت، كتب حميميات الأسرة. من هذه الأشياء البسيطة كان بسام يخلق عالماً واسعاً من غير ادعاء.
أظن أن غنائية بسام حجار أعطتني مشروعية من نوع آخر. مثله كتبت العائلة والحب والموت. وبلغته الغنائية كتبت نصاً حديثاً. كانت غنائية بسام حجار المرهفة والصاعقة والقاسية تعاكس ما حولها من شعر حديث وتتفوق عليه. إذا قالوا الحداثة ضد الغنائية كان الجواب يأتيهم من شعرية بسام حجار. تلك الغنائية الثانية بعد غنائية الماغوط الأكثر تفوقاً منذ أيام قصيدة النثر العربية. إذا قالوا الحداثة ضد الوضوح كان الجواب بساطة نص حجّار. إذا قالوا الحداثة لا تستقيم مع إنتاج معنى كامل ومغلق كانت عبارة بسام حجار المنجزة والتامة والمكتملة المعنى تتكفل بالإجابة. كان شعر بسام حجار بياناً حديثاً ضد الحداثة وبياناتها التي سقطت جميعها في التجربة.
إذاً، كان عالم بسام حجار الشعري عالماً ضيقاً جداً: كلمات قليلة ومتكررة في معظم دواوينه وثيمات مستعادة كل مرة. مع ذلك كان هذا الرجل قادراً على إدهاشنا. ثمة سر في شعر حجار: كيف يمكن أن نصنع دهشة من المادة نفسها؟ كيف يمكن أن نعيد إنتاج الأسى كل مرة بالمفردات نفسها وبالمضمون نفسه إنما بمعنى مختلف. أظن أن بسام كان قادراً على إنتاج المعنى المختلف وتقليبه من خلال اللغة الواحدة والمضمون الواحد. هذا يذكر بسر كافكا الذي استطاع من خلال ثيمة واحدة هي ثيمة العائلة أن يخلق ثيمات غير محدودة من الفيزيق إلى الميتافيزيق ومن الدين إلى السياسة ومن الحرب إلى الأخلاق ومن هشاشة الكائن إلى خرافات المصائر. هكذا صنع بسام من الأسى والفقد والهجران وأعضاء الجسد الواهنة صورة للإنسان الذي يصارع وحيداً ضعفه الداخلي، مثلما صنع من الشوق والموت والحنين أقفالاً لهذا الكائن المغلق على نفسه.
كان بسام حجار واحداً من أكثر الشعراء إخلاصاً لنصه. أحياناً لا يعرف متتبع هذا الرجل أيهما يخلص للآخر: الشاعر أم شعره؟ ذلك أن شعر بسام مأخوذ مباشرة من جواره، ذلك الجوار الذي حذّر أخته من الذهاب إليه، مثلما أن حياة بسام نسخة هي الأخرى عن شعره. من سعى إلى مطابقة صورة الآخر: الإنسان أم أثره الكتابي؟ أياً كان، فإن شعر بسام نموذج آخر لهذا الصدق، للعاطفة التي بات النقد يخجل منها كمصطلح. العاطفة التي وصفها باشلار بتعبير آخر: “متعة القراءة انعكاس لمتعة الكتابة”. على هذا النحو يمكننا قياس الأسى في شعر حجار بالأسى في حياته. هذه الشعرية التي لا يمكن تأويلها أو سلخها عن الحياة قدّمت نموذجاً آخر للحداثة: الحداثة التي لا تحتاج إلى تجريب للإدهاش بقدر حاجتها إلى السحر. والسحر عند بسام لم يكن يأتي من ثقافة عالية تتقدم النص، وإنما من ثقافة تتأخر عن النص، ثقافة راسبة في القعر. شعرية بسام هي الشعرية الناتجة ـ ربما ـ عن لغة مصقولة ومبرية ومحفوفة حتى العظم والنحول، لغة لم يبق منها إلا الأسى. لغة ظلٌّ كحياة كاتبها. هذا الكاتب الذي لطالما اعتقدنا أنه ميت من زمان لصلته الواهية بالحياة.
لنتذكر أن بسام حجار أثر في عدد من اللاحقين عليه وفي مجايلين له أيضاً. علينا أن نتذكر هذا الأثر. لكن علينا أن نسجّل أيضاً أن هذا الرجل الذي بدأ النشر مطلع الثمانينات من القرن العشرين، خرج من بين شعراء حديثين أخذوا اللغة إلى حدود قصوى. شعراء سحبوا اللغة من شعرها وأرغموها على المتعة. كانت الستينات والسبعينات حقول تجارب شعرية. من بين هذه الحقول خرج بسام حجار “الرجل الهادئ جداً” ليقدّم “مشاغله”. لم يذهب بسام إلى تجريب أو اقتراحات قصوى أو تجريدات غامضة أو أحجيات ذهنية. كان اقتراح بسام بسيطاً كشعره: الشعر كمعادل للواقع. بهذه الواقعية غير الرخيصة، وبهذا المعادل غير الساذج، استطاع بسام أن يجد لنفسه موقعاً متقدماً وأن يجمع من حوله أصواتاً ومريدين لم يسع إليهم إلا بنصه. كان علينا إذاً، أن نرى جيلاً بعد بسام حجار يؤلف شعره على أساس حياتي وإن بدا كل شاعر من هذا الجيل منفرداً بلغة ما أو حساسية ما. بالطبع سيكون تعسفاً أن ننسب شعرية مرحلة إلى فرد لكن من المنصف أن نقول إن بسام حجار واحد من صنّاع مرحلة شعرية كاملة في لبنان، مبتدئاً وفاتحاً ومحرِّضاً.
وبعد، بسام حجار واحد من أفضل المترجمين. يكفي أن تقرأ اسمه على غلاف كتاب ما لتقول هذا كتاب جدير بأن يُشترى. من “الشقاء العادي” إلى “غرفة مثالية لرجل مريض” ترجم بسام حجار عشرات الروايات والكتب التي تقع في الحقل الثقافي العام. من كواباتا إلى بورخيس، ومن أيكو إلى وولف، ومن سالنجر إلى كالفينو، ومن هرابال إلى أشينوز، ومن نوثومب إلى بوفالينو، ومن هايدغر إلى بودريار، كان بسام حجار ينقل إلينا الروائع والسحر والألم والنقد والتفكر. لقد ساهم هذا الانطوائي فعلاً في ثراء دور نشر ومكتبات وقرّاء. لقد ساهم في ثرائنا بما كتب وبما نقل. كنا ـ بمعنى ما ـ نتيجة أشخاص صامتين مثل بسام حجار. كنا أثراً لهذا الذي تخلف قليلاً ليتقدمنا دائماً كهواء لا ينقطع.