صفحات ثقافية

روح ليست داخل القفص ولا خارجه

عبد المنعم رمضان ()
كنت قد اطلقت على عباس بيضون اسم الراهب، وجعلته سراً اكتمه حتى ضقت بالكلمات، فمشيت به في الأسواق. وكانت لعباس مكانة خاصة عندي تجعلني آخذ كلامه بجدية تليق به. وكان قد حدثني عن بسام حجار اكثر من مرة، حدثني ايضاً بعض شعراء جيلي عن شعر بسام، ربما حدث ذلك في الثمانينات. في الثمانينات ايضاَ كان بسام يعمل بالملحق الثقافي لجريدة النهار ومعه عباس، هل كان معهما الياس لا أذكر. في تلك الفترة ارسل لي بسام رسالته الوحيدة، اذكر شكل الخط ، اذكر قلة الكلمات، وعدم السقوط في مستنقع مبتذل من الكلمات العاطفية. كان يدعوني لأن اعد رسائل القاهرة الى الملحق، تتضمن القصائد والقصص والمقالات، واستجبت له وارسلت رسالة أولى مصحوبة بورقة الشروط، وكانت متعسفة فنشر كل ما ارسلته من مواد، ولم يكاتبني مرة ثانية. تأكدت فيما بعد انه ذلك الشاعر في متاهته. منذ سنوات قليلة التقيته للمرة الأولى والوحيدة في باريس. وكان تجمع السفراء العرب قد اعد مهرجاناً للشعرين العربي والفرنسي. دُعي اليه بول شاوول وجمانة حداد وبسام حجار وحلمي سالم وقاسم حداد وشوقي ابو شقرا ومحمود درويش وآخرون. ورأيت بسام للمرة الأولى، لم اكن اعلم انها الأخيرة كان على هيئة الرجل المهاجر (والرجل المهجور) يمر ويحيي ولا يتوقف. رأيته بصحبة امرأة فرنسية تأتي ويذهب معها ويختفي. لم يشاركنا ضجيجنا ونميمتنا. وحروبنا الصغيرة كان كما بدا لي في رسالته القديمة يظهر ويغيب وكأنه الشاعر في متاهته. وقفت معه ذات مرة في اثناء الاستعداد لندوة او بعد انتهائها. كنا جميعاً نتكلم، احياناً نتشدق احياناً نعلن في ما نرغب فيه. ارتضى ان يغلق صندوقه، ارتضى الا يفتحه، البعض فيما بعد شكا من صحته. لم ننتبه الى ان صمته كان صرخة، وانصرفنا. كانت تلك الصور تطاردني كلما قرأت اسمه، الرجل الهاجر، الرجل المهجور، الصندوق المغلق، تخيلت انه ليس ممن يسعون الى العلاقات لتيسير رواج أعماله الأدبية، او اعماله عموماً. تخيلت ان اعماله الأدبية تعود عليه بما يريده منها، فقط في اثناء كتابتها وانشائها، فاذا فرغ من الكتابة، فرغ مما يريده، اما ما بعد ذلك فلا يعنيه الأمر في شي.
تخيلته مكروهاً لصمته من اغلبية ترى الصمت عدواناً عليها. قرأت بعض سرده ، بعض شعره. اكتشفت انني اطارده اكثر فيما يترجمه، بدأت بقراءة رواية ترجمها عن اسماعيل كاداريه تحت عنوان نيسان مقصوف. وكانت القاهرة قد ترجمت رواية اخرى لكاداريه. مع بسام ومع كنت قد اقتربت من فكرة اخذت تتعزز وتقوى مع الايام وهي ان القاهرة تميل الى السلامة اللغوية، الى عدم الانحراف، الى الايهام، لذا فان اعظم ترجماتها كانت للعلوم النظرية، اما الفن خاصة الرواية فيلزمها لغة لها في مستويات عدة واضعف مستوياتها هو المستوى الأول مستوى الخير، المستوى الذي تعتني به القاهرة اكثر، الذي من اجله يمكن ان تمحو المستويات الأهم. كان بسام وآخرون بخبراتهم الفنية يحققون ما لا تحققه ترجمات القاهرة للرواية. قرأت فيما بعد اكثر ما ترجمه بسام حجار. كنت ابحث عن الكتب التي يترجمها كما لو انه المؤلف. بلغت معه الى اسكندر نجار ومررت بروايات عديدة. لا أظن ان ملاك الوقت سيستطيع ان يأخذ من بسام اكثر مما يأخذه الغياب لان روح بسام ستستعصي عليه، ستظل إما منفلتة، وإما داخل صدفتها. لا اظن ان احداً سيطمئن الى نفسه ويزعم انه يملك القدرة على فتح صندوق بسام المغلق، وعلى معرفة تفاصيل او تخمين وقائع لم يبح بها بسام فهو شاعر، ليس في اليد، إنه في متاهته وهو روح ليست في القفص ولا خارجه، انها فقط من حيازة صاحبها.

() شاعر مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى