في غيابي عن بسام الرجل الذي كان قلباً
بلال خبيز
في صيدا لي ثلاثة موتى وذاكرة. لم اشارك في حمل نعش اي منهم. ولم ازر قبراً لأقرأ على الضريح ما تيّسر. هل يكفي هذا الغياب الحزين لأطفح بالحزن طفحاً، فلا اجد مكاناً لحزن اضافي؟ الغياب: يوم رأيت صديقي بعد غياب، استعدته. الاصدقاء هم اكثر من يموتون في مشاغل الغياب، وحين تراهم بعد الموت، تفرح فرح المسيح بقيامة اليعازر. امس مات الثالث. لم يعد في وسع الصداقة ان تقيم رميماً. الصداقة تهجرنا فرداً فرداً: ما يبقى؟ من يبقى؟ من لا يزال هناك؟
لم احمل معي شيئاً. بلاد بأكملها تغادرني دفعة واحدة. ليس امراً محبباً ان يكتب لك صديق بعد غياب ليخبرك انه مات. لم اكن اريد ان اعرف، لكن الصحف مصرة على الصدور كل صباح. اليوم فتشت عن كلمة تكفي لالتقاط مشاعري. لم اجد. لماذا تصر الصحف على الصدور؟ بالنسبة لي كان في وسع الموت ان لا يصل. الموت ليس اكثر من خبر. خبر في وسع التواطؤ ان يخفيه. مع ذلك لم يتواطأ احد مع احد. الصحف تصدر والشعراء يموتون. هل قلنا الشعراء؟ امي لم تكن شاعرة، وكان في وسع الصحف ان تخفي موتها عني. انما كيف تتجنب الهول حين تقرأ الخبر في جرائد الصباح؟
لو ان الصحف لم تصدر لكان في وسعي ان احسب انني ما زلت املك الوقت. ذات يوم سأعود إلى بلادي، والتقي بالذين غبت عنهم طويلاً. في الأثناء هم يعيشون في هدوء ودعة وبعيداً عن الكاميرات. في الأثناء، يكتب بسام ويترجم، ويشرب قليلاً او كثيراً. وانت تعرف انه ينتظر وان الوقت ملكه، وانك تستطيع ذات يوم ان تدق الباب.
لم يعد ثمة ما يحثني على البوح. البوح ليس مناسباً لرجل ميت. لو كنت اعرف انه سيموت، هل كان يمكنه ان يستقبل هديتي؟ البوح الذي اهدرت وقته، وتركته يعوي على مقاعد الطائرات وفي القلب، لم يعد مناسباً. فليحل محله الندم. الندم الذي لا يعيد غائباً. كان في وسع بسام حجار ان يكتب ليستعيد الذين احبهم. كان يكتب، فلطالما عاش الأحبة بعيداً عن ناظريه، وكان يستطيع ان يحاورهم ويتملى في وجوههم ويحادثهم في فضاء غرفته. وحين كان يكتب فلأنه كان يستطيع ان يستقوي على الكتابة التي نقترفها. وكان يحسن ان يجعل وقت الكتابة المميت دردشة خفيفة كفنجان قهوة. وفي حين كنت اؤجل لحظة البدء بالكتابة واتلهى عنها بما تيسر، كان بسام يدخل هذا القبو من دون احتياط. يدخله لأنه في الكتابة يعيش، فيما كنت وما زلت احسب ان وقت الكتابة هو الموت.
ماذا بعد سوى الحيرة؟ هل تتسع الكتابة للقاء متأخر؟ ربما لا. انها المرة الأولى التي يموت فيها الرجل والكلام دفعة واحدة. يخامرني شعور ان الحزن يولد ويموت في الحنجرة. في مصنع الكلام. وان الحزن العميق مبكم. وليس ثمة ما يجده المرء ليقوله. يخامرني شعور ان البكاء في هذه اللحظة ليس توديعاً للغائب، وإدارة الظهر له لتستمر الحياة. البكاء في هذه اللحظة يأكل الجسم كله، حتى الأصابع التي تمسك الممحاة والدفتر تبدو الآن كما لو انها تتهيأ لنزيف الدمعة. مع ذلك عليّ ان احرك اصابعي، لأمحو من عمري بعض مراحل هذه التغريبة. انا لم اكن اعرف بسام حجار وما قرأته ابداً. والشاعر الذي مات مات كأي شاعر قد يموت.
هل علمني شيئاً؟ ابداً. رغم انني اجلس على الكرسي وراء المكتب مثلما كان يجلس تماماً. ورغم انني شاركته الهوس بالأقلام والقمصان، ورغم اننا اكلنا معاً الزاد نفسه سنوات طوال، ورغم اننا عبرنا المدن معاً صامتين كغريبين التقيا صدفة لسنوات وسنوات. هل علمني شيئاً؟ ابداً. كان يكفي ان اعرفه جيداً لأنساه. كان يكفي ان احبه لأصبح شبيهه. منزو ومهجور وليس في وسعك ان تلم شعث هذه الحياة إلا بإبرة الكتابة.
لم نعد نتشارك الهوس نفسه. اقلامنا التي كانت أصدقاءنا. لا اعرف ما الذي حل بأقلام بسام. لكنني اعرف انني تركت في كل مدينة قلماً، وغادرت حافياً وعارياً لأتشبه بالأحياء من البشر. مع ذلك لا اعرف، كان بسام يقول: لم اقو على نهار، لم احتمل ليلاً، كنت اعرف انك هنا في مكان ما وكنت احيا.
مات بسام حجار. الرجل الذي أحب، وكان يحسب ان الحب بديل الحياة. كيف في وسع المرء ان يكون قلباً؟ غاب الذي كان يملك الجواب. ولا اعرف ان كنت سأجد وسيلة مناسبة لتوسيع القلب إلى الحد الذي يسمح لبعض الناس ان يقيموا فيه.
ما الذي تفعله الأيدي الحاذقة؟ ايدي رجال ونساء، هم الآن مثلنا، حفارون…
في صيدا لي ثلاثة موتى وذاكرة. يدي اصبحت ترتجف واصابعي تتشنج، لم تعد يداً حاذقة، وانا ممتن للوقت الذي استهلكت فيه يدي، وللتعب الذي يأكلها مطلع كل كلمة. ذاك انني لا اريد ان اكون حفاراً.