الإرث الوحيـد
عباس بيضون
تركيا تتصارع حول العلمانية، اطيح بأول حزب اسلامي في هذا الصراع، وكاد ان يطاح بالثاني (والاثنان في سدة السلطة وباختيار من الشعب)، لكن القضاء اكتفى بلوم وعقاب أخف. انه تنازع بين الدولة لا يزال قائماً بعد انقضاء عقود وعقود على الاتاتوركية. لا نريد ان ننفذ الى داخليات الصراع الذي جعل الغــرب يقف الى جانب الحزب الاسلامي ولم تمنعه دعوى العلمانية من هذا الموقف، لا نريد ان نعلق على الصراع ايضا. ثمة مفاجأة اخرى تنتظرنا، اسم الدين لا يزال في تركيا العلمانية يذكر في قيد الهوية وبطاقة الهوية، ما كنا لنعلم ذلك لولا ان حادثاً صغيراً نبهنا إليه، في تركيا العلمانية يعرف المرء بدينه ودينه قد يدل على إتنيته أيضاً، أمر آخر نعرفه منذ وقت أبعد: جريمة الشرف لا يزال لها محل في القانون التركي، مثلها مـثل الاردن الذي يهتدي في ذلك بالشرع العشائري، ذلك لا يزال قائماً في تركيا العلمانية، امر آخر ليس جديداً ايضا، في تركيا العلــمانية لا اعتراف بغير اللغة التركية والعرق التركي رغــم وجـــود عرب واكراد وارمن وشركس… في تركيــا العلمانية مذهــب واحد واسلام واحد هو السني وبقيه المذاهب بلا وجــود قــانوني. لسنا الآن بالطبع في معرض محاكمة التــجربة التركية، فنحن لا نملك في الاقل بديلاً منــها، هناك تجــربة مــقابلة في تونس وهذه لا تقيــد المرء بذكر دينه في الهوية. ولا تقر جـــريمة الشرف. الا ان التجــربة ايضا في مأزق. عوداً الى العلمانية التركــية كثيرة التناقضات، وفي ما عدا فصــل الدين عن الدولة فـــإن القومية العسكرية الذكــورية لا تدوس في طريقــها الأقليات والمـــذاهب والإتنيات، بــل تدوس المـرأة ايضـاً.
انطلقت التجربة العلمانية في بلادنا من عقلية التحديث والتغريب في آن معاً، غير أن التجربة شاهدة أيضاً على ما جمعته تجربة التحديث والتغريب عندنا من متناقضات، بل وعلى ما ضمته الى بعضها البعض من بنى متنافرة، وكيف جعلت الاستبداد هو اللحــمة والناظم لكل ذلك، ليست العلمانية مثلاً اوحد، فالارجـــح ان تلفيقاً كهذا يحدث في كل مكــان، وفي كــل مكان يجري زواج مفروض وغير سوي بين عناصر لا تــتزامن ولا تتواصل، ويتــم الزواج بالمطرقة وبالعسف والعنف الايــديولوجيين، وفي هـــذا الزواج تدخل محافظة ومثالية وجنون قومي وجنون ايـــديولوجي، وليس لكل ذلك من ضمانة الا قــشرة متسلطة هي البوليس والعسكر في غــالب الاحيان، لن يكون هذه الا بداية ارتداد لا ينتــهي، ومن انتكاس الى اخرى يبقى العنف والاستبداد هما الإرث الوحيد.
السفير