ضوء النافذة من سيطفئه غيرك؟
فادي طفيلي
إنّها لحظة في العام 1995، في شارع دلاّعة في صيدا، ومعي سامر، صديقي الأوّل ودليلي الأوّل إلى بسّام. وأذكر أننا، قبل أن نصعد الأدراج ليلاً، نظرنا إلى نافذة مضاءة في الطبقة الرابعة أو الخامسة، في بناية بلا شكل واضح، فإذا برجل يقف هناك خلفها وقفة لا تعهدها برجال يقفون هكذا، خلف النافذة. كان الرجل وكأنّه ينظر إلى العالم لا إلى الشارع تحته. الرجل كان بسّام حجّار.
الشارع قفر وشاحب. أرصفة متقطّعة، وأشباه أشجار وسيّارات يتداخل الجديد منها بالمحطّم والمكسور، وإسفلت بلا لون، ومحال ومتاجر بعضها مقفل وبعضها الآخر مفتوح لأضواء ساطعة وبشر قليلين.
المستشفى يحتلّ هامشاً من الشارع ويقبع هناك عند طرفه كأنّه روض مفتوح على عتم بلا نهاية. لا يبدو للشارع شكل. لكن إنْ نظرت إليه وحسبت أنَّ النافذة المضاءة التي يقف الرجل خلفها وينظر إلى العالم، هي طرفه ونقطة ابتدائه، لبدا لك في تلك الأثناء أنّه شارع العالم البعيد، حيث يبدو مقسوماً بين الأزل والفناء، بين الحوانيت ومواقف السيّارات ومحال الخردة والخضار، وبين بؤرة يدخل فيها أناس قد لا يخرجون أبداً. كان ذلك بمثابة عالم مفكّك ومبعثر ومنثور، تماماً كما ينبغي له أن يكون أمام رجل النافذة، فيسند هذا “ركامه بأجزاء الفراغ المتقنة”.
نصعد الأدراج. لا أذكر تماماً لماذا كنّا، في تلك المرّات الأولى لزيارتك، نتجنّب المصعد.
الطوابق متفاوتة الإيحاءات. هنا طابق كئيب، وذاك ساطع بالأضواء وغريب الرائحة، وهذا شبه مهجور. طابقك كان وكأنّه محفور في الهواء. وقد كانت جدرانه متفسّخة قليلاً كأنّها سوف تنفلت وتتطاير.
أسمع لحناً خافتاً من داخل الجدران المتفسّخة قليلاً ولا أحدّد مصدر الصوت. حين طرقنا الباب، بابك الذي بدا طريّاً كجلد الرقّ، تبدّل اللحن المنبعث من تفسّخ الجدران وبدا أكثر غوراً. تَفْتحُ الباب وتظهر بادياً كجملة مُسلطنة انفلتت من صوت صالح عبد الحي. يتداخل صوت الشيخ المنبعث من منزلك مع هامتك المرحّبة. تدخلنا فوراً إلى فسحة خافتة الضوء بين المطبخ والكوريدور الوسطي للبيت، حيث البرّاد والخزانة التي تواجهه. نملأ كأسينا وننضم إليك في حضرة زكي مراد والشيخ صالح، ونصبح ثلاثة ظلال في غرفة النافذة التي تطلّ على العالم.
أنا كنت شرّيباً رديئاً في البداية، إذ كان ظلّي مُنسحباً وقابعاً في زاوية . في المرّة الأولى تهت، وفي الثانية تراخيت وضعفت، وفي الثالثة فقدت السيطرة تماماً. في المرّة الرابعة كان ثمّة طبيب يسهر معنا، وقد دَمَجْت أنت سهرته معك بسهرتنا معك، علّه يرتّب الظلال التي تنسحب وتتراخى. في المرّة الخامسة غاب الطبيب وحَضَرتْ في برّادك وصفته جاهزة للظلّ الذي يتعب أو يتداعى. لقد كان ذلك حييّاً بالنسبة لي، ينبغي أن أقول، فأجاريك، كما مرّة مع منيرة، من أوّل المساء حتى زقزقة الصباح الأولى بصحو غريب كامل. كان ذلك ربّما شيء من الصحو الذي كان يجعلك في تلك الحالة تترجم هايدغر، أو توكفيل، من دون التخلّي عن كأسك أبداً.
النافذة تلك في ذلك الشارع المنثور مطفأة الآن. هي وراءك أحسب، تنظر إلى الداخل وتبتعد. لم يطفئها أحدٌ غيرك، إذ أطفأتها بنفسك وحبست فيها كتبك وظلالك وأصداءك القديمة حين انتقلت إلى منزل آخر قريب من البحر.
من المنزل الأخير كنت تستعدّ للانتقال مرّة أخرى. المطبخ الجديد بالصور الافتراضيّة للبيت الجديد كان قد أعجبك كثيراً. الفضّي السائل والطاغي في الطاولة الوسطيّة وأدراجها وفي أقسام المطبخ المختلفة أعجبك، كما أعجبتك مساطر الأرضيات الخشبيّة لغرف النوم، وأعجبتك الألوان التي اختارتها ناني للجدران والأثاث. كنت ترتّب أوراقك وأقلام الرصاص والحبر وعلب السجائر الرفيعة ومغلّفات المناديل المعطّرة والمنفضة والثياب والنظّارات وعلبتها الفضّيّة وتستعد للنافذة الأخرى في البيت الجديد. أنت نفسك الآن لا تتبدّل. عيناك وحاجباك اللذان كأنّهما قمّتين مسننتين، وعباراتك العشر ذاتها، إن حذفنا منها عبارتي “كتاب” و”معجم” كما اقترحت على سبيل التجربة للوصول إلى رقم عشرة، هي الآن كما دائما: مفردة، غريب، درب، حكاية، ظلّ، أبي، صحراء، رمل، بئر، أثر.
“مَن ِالغائب؟”، أسأل معك. كلّ الأغراض على حالها، في أدراجها وفي أمكنتها المعتادة، أو في الأمكنة التي تُعدّ لها على ما أردت ووافقت عليه وكما أعجبك و ألهفك. كلّ النوافذ وكلّ الغرف والشرفات في أمكنتها، وكلّ العبارات في سبلها. مَن ِ الغائب إذن؟
هل تبتعد الآن أم تقترب؟ هل نراك الآن كما تحبّ أنت أن نراك، هكذا، مبتعداً وغائراً وساهماً وسابحاً في مكان ما؟
هل أنت الآن هنا، في الصورة على الكرسي أمامي خلف طاولتك الملاصقة لطاولتي، تفتح الأدراج وتقلّب الأشياء وتتّصل بنجلا وتنظّم الجرائد والمجلاّت المكدّسة وتتصفّح الجديدة منها. هل ندخّن الآن من سكائرك الرفيعة، هل أُحضر لك قهوة مع سكّر، أم سبقتني لتُحضِر فنجانين؟ هل هذا الدخان منك؟
لقد وصلت باكراً اليوم، سنغادر باكراً إذن. لن أوصلك للباص ولن تذهب فيه. سنذهب إلى حيث تشاء أن تأخذنا …لا تقلق.