من يشحذ فؤوس التطرف؟!
موفق نيربية
لم يكن تقدّم شعبية نتنياهو والليكود في إسرائيل مفاجئاً، فهو معروف منذ فترة طويلة، وينسجم مع حصة عميقة الوجود من المجتمع الإسرائيلي، إضافة إلى ثبات نتنياهو وحزبه ومصداقيته مع «مبادئه» التي اكتسبها خارج السلطة، والأمر عندئذٍ أسهل. بل إن نجاح ليبرمان و«إسرائيل بيتنا» الذي يصدم الكثير من الإسرائيليين والعرب وفي العالم، يمكن أن يصبّ في هذا الاتجاه.
لكنّ المفاجئ، إلى هذا الحد أو ذاك، أن تحقق تسيبي ليفني وكاديما نجاحاً لم يكن متوقعاّ بعد طول زمنٍ في الحكم وأخطاءٍ فادحة لم يكن الإسرائيليون في الشارع يتسامحون معها عادةً. والأكثر مفاجأةً أن تتراجع شعبية إيهود باراك وحزب العمل إلى المستوى الذي أظهرته الانتخابات، والمركز الرابع الذي حصل عليه الحزب المرتبط اسمه بتأسيس إسرائيل وبنائها.
فعلى الرغم من أنه كان معروفاً من خلال الاستطلاعات أن باراك لن يُحرز مركزاً متقدماً في نسبة التصويت، فإن «حكمته» في الصبر على «حماس» طويلاً، ثم «حزمه» وسياسته العسكرية- في النظرة الإسرائيلية المحضة- كانت تدفع إلى توقّع عودة «العمل» إلى وضع أفضل.
إلاّ أن التقديرات «النخبوية» لم تكن لتنطبق على اتجاهات الرياح الشعبية التي تحتاج إلى شيء آخر يكافئ ما حدث مع الليكود، بالثبات على الأسس التي كانت، ويبدو أنها مازالت، من مكونات الوعي الإسرائيلي، المتميّز بتركيبته المنحرفة نسبياً عن المعايير النظامية، ضمن دائرة التوتر والبحث اللاهث عن الأمن وعن أسباب الوجود والبقاء.
في النتيجة، انزاحت إسرائيل خطوة إلى اليمين، الذي أحرز بمجموعه تفوقاً على اليسار، كما أنه «يمين» منسجم مع يمينيته أكثر مما ينسجم «كاديما» مثلاً مع تصنيفه في اليسار من قبل المراقبين، لأن الأخير «ليكود» مُدجّن من حيث أصوله، و«عمل» يفور دمه ويغلي. إنه «وسط» في الحقيقة، فالمجموع الحسابي- أو الهندسي- هو أن إسرائيل أصبحت أكثر يمينية وتطرفاً.
وبطريقة موازية لا تكافئ ما يجري في الجهة العربية، لا من حيث القيمة ولا الحقوق، يبدو أن «الممانعين» في إسرائيل قد فازوا على «المعتدلين». ذلك مع التحفظ، لأن من يمانع في إسرائيل أقرب إلى اليمين والمحافظة، ومن يمانع من العرب أقرب إلى «اليسار». هذا تعبير عن مشكلة في تقييم اليسارية والمبدئية، واضطرار كثير من الباحثين- بالعطالة التاريخية- إلى التسليم بهذه المساطر.
فمن يشحذ فؤوس التطرف في المنطقة، رغم أن ميل العالم، وفي أميركا خصوصاً من خلال نجاح أوباما الباهر، هو نحو سياسات الاعتدال والحوار وتجنّب اللعب في حلقات النار والدمار؟!
هنالك عوامل وأناس كثيرون يفعلون فعل الشحذ هذا. أوّلهم في إسرائيل نفسها بعد فشل سياسات كاديما المتناقضة، وفشل سياسات حزب العمل خصوصاً بقيادة باراك وعجزه عن الحفاظ على قواعده التاريخية… بثوابته!
فحزب العمل ليس المؤسس وحسب، بل القادر على تقديم المشاريع المتعلقة بالأمن الصعب والوجود الأصعب، مع كلّ ما يعانيه الإسرائيليون من عُقدٍ مستحكمة في هذين الحقلين. وهو لم يستطع الحفاظ على موقعه اليساري من خلال سياسة اجتماعية واضحة، تضمن الإقبال على الاقتراع لمصلحته.
لم يستطع باراك أن يحافظ على شيء من موقع رابين مثلاً، وهو آخر المؤسسين عملياً. ومسألة السلام والاستعداد للتسوية التاريخية، بغض النظر عن التفاصيل، مسألة بالغة الأهمية للإسرائيلي العادي، تختفي خلف التطرّف والعنف أحياناً، لكنها قادرة على الظهور والتقدم بتسارع كبير في أي لحظة.
هذا يشحذ التطرّف في الجهة الإسرائيلية ومنها، لكن هنالك ما يتعلّق بالجهة العربية التي فيها ما يفعل الفعل نفسه، في الجهة الإسرائيلية نفسها، وأول ذلك أن التطرف يشحذ التطرّف ويستدعيه. هذا التطرّف ليس الحزم ومتابعة الأهداف المشروعة أبداً، بل هو في نتيجته عكس ذلك مباشرة وعلى الحامل نفسه.
ولا بدّ أن القيادة الإيرانية الحالية التي على رأسها أناس أكثر تطرّفاً وأقل عقلانية وبراغماتية واعتدالاً، مع ما لها من التأثير والروابط في قلب السياسات العربية ومحاورها، ومع ظروف اللعبة الديمقراطية- رغم التباسها- وما تقتضيه من أطروحات مناسبة لجمع الأصوات والطبول والمشاعر، كلّها تساعد على ذلك.
هنا، نرى قوى «الاعتدال» العربية تفشل في حلّ الخلافات المبنية على الهواء، فلا تحقق شيئاً لبرامجها التي لا ولم تتضح معالمها أبداً، ونرى قوى «الممانعة» تمتنع عن السياسة، وتلهث وراء ظواهر الرفض تحقيقاً لمصالح خاصة تتعلق بالذعر من أيّ احتمال للتغيير.
ذلك كلّه يشحذ الفؤوس ويجعلها ماضية الحدّ والزمان! فمَن للعقل ومصالح الناس قبل المزيد من المصائب؟ وهل يستطيع الذين عجزوا طويلاً أن يتغيّروا هذا العام؟!
* كاتب سوري