الدعوة إلى وضع العراق تحت إشراف الأمم المتّحدة: بين الطموح والممكن
علاء اللامي
أطلقت مجموعة من الشخصيات السياسية والثقافية والقيادات المجتمعية العراقية المناهضة للاحتلال، أو في الأقل غير المشاركة في العملية السياسية الجارية في عهده، دعوة سياسية قبل أيام، اتخذت شكل مذكرة رفعت إلى الأمين العام للأمم المتحدة، طالبت فيها تحديداً بـ«وضع العراق تحت إشراف الأمم المتحدة لفترة محددة تتيح خروج القوات الأجنبية وإنهاء الاحتلال تماماً،
على أن يتزامن معها الشروع في عملية سياسية جديدة (…) وهذا يتطلب تأليف حكومة وحدة وطنية محايدة ومؤقتة تأخذ على عاتقها إدارة البلدة لفترة قصيرة محددة (…) وإجراء انتخابات نيابية جديدة في أجواء من المصالحة والعدالة والمشاركة الحقيقية».
هذه الفكرة، أو الخطة السياسية، ليست جديدة تماماً. فقد طرحت سابقاً بصيغ مقاربة ومشابهة من أطراف سياسية معارضة للاحتلال والحكم القائم. ومع ذلك سنحاول تلمس أبرز مرتكزاتها وخطوطها العامة:
تريد الخطة ـ باختصار ـ عملية سياسية جديدة، على اعتبار أن العملية السياسية الجارية فشلت تماماً، وكبّدت المجتمع العراقي الكثير من المآسي. وقد اعترف المحتل نفسه وأطراف مركزية في الحكم القائم بهذا الفشل. وللوصول إلى هذا الهدف، تقترح الخطة طريقاً من شقّين: الأوّل هو وضع العراق تحت إشراف مؤقّت للأمم المتحدة يهيّئ الجوّ لانسحاب قوات الاحتلال، ويمكن النظر إلى عبارة «الإشراف المؤقت» على أنها كلمة أقل مباشرة وصخباً من اسمها الحقيقي الذي هو «الوصاية». الشق الثاني، هو تأليف حكومة وحدة وطنية محايدة ومؤقتة تشرف على انتخابات نيابية جديدة.
لنفرّق بين وجود قناعة عامة بفشل العملية السياسية الجارية أو انعدام أي أفق لها، كنتيجة لفشل مشروع الاحتلال ككل، وهو أمر حقيقي ولا جدال فيه، وأن تموت العملية السياسية وتفقد الحكومة القائمة على أساسها، والمؤسسات الأخرى، السيطرة على حكم البلد تماماً.
الواقع هو أن الحكم القائم حالياً على أساس المحاصصة العرقية الطائفية، نجح إلى حدود معينة في إيجاد آليات وكيفيات خاصة في دوام إدارته والسيطرة على مناطق واسعة من البلاد، وترافق هذا النجاح النسبي مع تراجع ملحوظ في أداء المقاومة العراقية بفصائلها كافة لأسباب شتى لعل أبرزها الدور التخريبي للتيار التكفيري والاستقطاب الطائفي الذي سبب تأجيجه.
هذه السيطرة الحكومية، وإن كانت شكلية وظاهرية، لا تسمح بالكلام على وضع شروط وإملاءات ومطالب ذات سقف عال تمثل في جملتها إلغاءً مطلقاً وشاملاً لما هو قائم، دون أن تكون هناك مسوغات أو تبدلات جوهرية في موازين القوى بين الاحتلال وحلفائه من جهة، ومناهضيهم من جهة مقابلة.
لا نشكك أبداً في مشروعية المضامين التي يطرحها أصحاب الدعوة، وبينهم شخصيات وطنية معروفة كالمناضل القومي الناصري والوزير السابق أحمد الحبوبي، ولا في تساوقها مع طموحات الشعب في الاستقلال والحرية، ولكننا نحاول تبيان الفرق بين تخوم الطموح الوطني والشعبي وحجم الإمكانات الدافعة على الأرض لأية خطة سياسية تروم تحقيق ذلك الطموح.
إذا ما حاولنا تلمس الفوارق المهمة بين الصيغة الحالية لدعوة وضع العراق تحت الإشراف الأممي، والصيغ القديمة، فلن نجد الكثير مما يمكن تعداده. غير أن ثمة جديداً نجده في صيغة «تأليف حكومة الوحدة الوطنية المحايدة» التي ستناط بها مهمة الإشراف على انتخابات نيابية جديدة. فهذه الصيغة تفتح الباب على إمكان الوصول إلى حلول وسط تكسر الاستقطاب والاستغلاق الحالي بين طرفين: يشطب الأول الثاني ويراه «عميلاً وخائناً» جاء على دبابة الاحتلال، ولا بد له من الخروج من البلاد مع الاحتلال ذاته، وبين طرف حاكم يتمسّك بالمشروعية الانتخابية التي جرت في ظل الاحتلال وأثارت الكثير من الاعتراضات، ويطالب بتصفية خصومه بوصفهم «إرهابيين وقتلة».
كيف يمكن ترجمة محاولة كسر الاستغلاق السياسي الحالي بين الطرفين؟ هذا ما لا تصرح به الخطة الجديدة، ويمكن البعض أن يتخيل صيغة للحكم المؤقت تقوم على «حكومة تكنوقراط غير حزبية»، ولكن الجوهري هو أن ثمة شعوراً لدى محرّري الخطّة الجديدة بضرورة كسر حالة الاستغلاق الراهنة. ولكي يكون هذا العامل منتجاً وبنّاءً، فلا بد من أن يقابله شعور من الطرف المقابل، باستحالة استمراره في الحكم بالطريقة الفاشلة نفسها، واستمرار تمسكه بالكراسي، ولو أدى ذلك إلى تدمير العراق والعراقيين.
وللوصول إلى امتلاك الطرف الحكومي لمثل هذ الاقتناع، عليه أن يلمس حاجته بها: لا بد من حدوث تغييرات أساسية وتراكمية مهمة في موازين القوى لمصلحة القوى الاستقلالية. فالمذكرات التي توجه إلى الأمين العام أو إلى غيره ستظل مجرد أوراق لا قيمة لها إن لم تكن مردوفة ومسنودة بقوة جماهيرية حقيقية على الأرض تتبنى مشروعاً سياسياً، واقعياً ومبدئياً في آن في رفضه للاحتلال والحكم القائم على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية.
هنا تحديداً، وفي داخل معسكر القوى الاستقلالية المناهضة للاحتلال، ينبغي أن تخاض المعركة الأساسية الأولى، التي تنتهي بالتخلّص من سلبيات وعثرات وإخفاقات الماضي ـ سنوات الاحتلال الخمس الماضية ـ والتخلي عن الشعارات والأوهام التي سادت طويلاً والاستقطابات وردود الأفعال، والاستعداد لانطلاقة جديدة لقوى مناهضة الاحتلال، بعد التوصل إلى حسم أمور مهمة، منها: تبنّي صيغة تحالفيّة سياسية بين جميع أو أغلب الأطراف الفعالة الرافضة للاحتلال والطائفية، وحسم العلاقة بين الماضي الدكتاتوري للحكم والبديل المستقبلي، وحسم العلاقة بين قوى المناهضة والمقاومة وقوى التكفير ذات النزوع الفاشي. ودون خوض هذه المعركة، ستبقى الأمور على ما هي عليه، وسيستمر حال الاستغلاق والتأزم الشامل، ولن يكون مفيداً توجيه أي نوع من المذكرات مهما كانت حصافتها ودهاؤها السياسي.
* صحافي عراقي
عدد الاثنين ٣١ آذار ٢٠٠٨