صفحات سوريةموفق نيربية

القوميون الجدد

null


موفق نيربية

هنالك قوميون «جدد» في المنطقة الآن، مختلفون عن أولئك الأوائل في السمات والطبيعة. بلغوا مجداً مع تطوّر الليبرالية الجديدة في الغرب، خصوصاً مع بروز دور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.

ظهر مفهوم «القومية الجديدة» في الغرب في الربع الأخير من القرن الماضي، ليحاول معالجة التناقض ما بين الحركات الانفصالية المختلفة، من تلك التي يمكن تفسيرها بمقولات الاستعمار الداخلي أو النمو اللامتكافئ المتشابهة مع بعض خصائص العالم الثالث، إلى تلك التي لا يُمكن تفسيرها بتلك العوامل، وظهرت في مناطق مثل بلاد الباسك وكويبك واسكتلندا وويلز وكرواتيا وغيرها.

في المنطقة العربية ظهرت الفكرة القومية في مراحل ثلاث: أواخر العهد العثماني، وأيام الاحتلال الأوروبي، وفي الخمسينيات من القرن العشرين. وكانت مختلفة في كلٍّ من تلك المراحل. حيث تردّدت ما بين الرابطة الإسلامية واللامركزية والاستقلال العربي في المرحلة الأولى، وحملت خصائص إقليمية مع تأثّر واضح بالقوميتين الألمانية «النازية» والإيطالية «الفاشية» في المرحلة الثانية، ثمّ عادت بقوة إلى الحاضنة العربية، مع عداءٍ لليبرالية واندفاع نحو مفهوم الشعب في المرحلة الثالثة.

حملت القومية (الناصرية والبعثية…) في الخمسينيات قيم الوطنية والوحدة و«الجماهير» المضطَهدة والمهمَّشة التي رفدت ووسّعت الطبقة الوسطى، وبالتالي لم تكن رافضة للديموقراطية، بثبات في بداياتها، ثمّ بمداورة وانجرارٍ نحو الشعبوية. وشكّلت هزيمة يونيو صدمة قوية، دفعت بالناصرية خطوة تجمع ما بين التراجع نحو الديموقراطية والتقدّم نحو اليسار كما تجلّى في «بيان 11 مارس» عام 1968، في مصر؛ أو نحو «يساريّة» مجرّدة ونزعة للتحرير الشعبي، اجتمعت مأزومةً مع اتّجاه أكثر انفتاحاً وبراغماتية وأقل تركيزاً على الفوارق الطبقية، في سلطة واحدة في سورية. تمّ تفكيك هذا التناقض بموت القائد التاريخي أولاً في مصر، وبالقوة المباشرة في سورية، في أواخر عام 1970.

هنالك قوميون «جدد» في المنطقة الآن، مختلفون عن أولئك الأوائل في السمات والطبيعة. بلغوا مجداً مع تطوّر الليبرالية الجديدة في الغرب، خصوصاً مع بروز دور المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.

كان قوميّو الخمسينيات معادين للاستعمار والإمبريالية والتبعية، متماهين مع حركة التحرر الوطني والاستقلال وحق تقرير المصير واللحاق بالعصر. كانوا على صراعٍ مع «الخارج» من دون أن يصل الأمر إلى التناقض الوجودي، بل ربّما العكس صحيح.

من بقي منهم على العهد حاليّاً يحمل مواصفات جديدة: أوّلها «رُهاب الأجانب» ورفض العولمة والاستقطاب الدولي؛ وثانيها التداخل مع حركة الصحوة الإسلامية، في جناحها الجهادي؛ وثالثها رفض شرائح اجتماعية كانت مقبولة من القومية والوطنية التقليدية؛ ورابعها الانطلاق من الخصوصية إلى العداء لقيم الحرية والديموقراطية؛ وخامسها التساهل مع الاستبداد عند تنافس مفهومي الأمة والشعب، وسادسها التداخل والامتزاج مع مجموعات يسارية وأممية «تلجأ» إلى مرجل القومية الجديدة الأكثر غلياناً. وحين يغادرون إسار الإيديولوجيا، وبسبب لوعتهم ممّا يرونه من مأساة، يتجاوزونها إلى حقل الأساطير.

جاء تحفيز رهاب الأجانب من الدعم الغربي المستمر لإسرائيل خصوصاً، والإعجاب بالجهادية من فاعليّتها وشجاعتها القادرة حتى على الانتحار -حلم القومي اليائس وكابوسه- والفئوية من هشاشة علمانية القوميين السابقين أو زيفها، والانحياز للاستبداد من «قوّته» والأمل بقدرته على قول: لا، والعجز عن تغييره إلا من خلاله.

بهذا يوفّر القوميون الجدد غطاء شرعيّاً في حقل الوعي الاجتماعي للمتطرّفين الذين يُكفّرون بالعالم ويدفعونه نحو الخراب، وهذه نتيجة مأساوية لقوم يخطئون سلمياً وحسب.

المشكلة الأكثر أهميّة، تظهر في السمات الشعبية أو الشعبوية التي تميّز هذا الخط، التي تجعل منهم فريسة سهلة للاستبداد، لا من حيث تبريره إيديولوجياً وتاريخياً وحسب، بل من حيث الانقياد عملياً إلى سياساته ومناوراته التي تفتقد أحياناً إلى ما يدعم زيف قوميّتها ووطنيّتها، وتحتفي بما يأتيها من تبرّعات إعلامية من خصومها الطبيعيين.

ولم يأتِ ذلك من عدم. فبروز مظاهر خفيّة من العنصرية والنفور من التعددية ابتدأ لحظة نشوء الفكر القومي الحديث، أيام الاستعمار الأوروبي، حين هبّت رياح ألمانية وإيطالية لتخالط الوعي الاستقلالي التحرري الوحدوي. وكم كان في بال أنطون المقدسي في السنوات الأخيرة من حياته أن يدرس تلك المسألة. فلعلّ في أدراجه شيئاً من ذلك!

كما حدث معنا، إلى هذا الحدّ أو ذاك، نشأت تلك القومية المتشددة العَبوس بتأثير عوامل عديدة منها الاحتلال البونابرتي في أوائل القرن التاسع عشر، والهزائم والإذلال في أوائل القرن العشرين.

في حين يُقال إن نشأة الفكرة القومية كانت مع الثورة الفرنسية الكبرى، التي استطاعت الملاءمة ما بين الهوية وبناء الدولة – الأمة والحرية والمساواة. مازلت أذكر سؤالاً وجهه صحافي فرنسي لعبدالناصر في مقابلة مبكّرة، حول من هو مثاله: دانتون أم روبسبيير؟!

لا علاقة لهذا الحديث بالبحث عن «عروبة جديدة»، ترجع بالقديمة إلى الأرض والعالم، وتكفّ عن الأمل بظهور بيرون آخر.

· كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى