صفحات مختارة

ما العمل؟

فـؤاد النمري
علمنا عظيم البلاشفة، الرفيق جوزيف ستالين، بأن نتجند في العمل الشيوعي كتلاميذ نجباء لمعلم البلشفية ومؤسسها فلاديمير لينين، كما كان قد تجند هو نفسه. لذلك نقتفي أثر لينين ونستعير عنوان كتابه الصادر في العام 1902 أي قبل قرن كامل وسبع سنوات أخرى لنتساءل ثانية كما كان قد تساءل لينين نفسه.. ما العمل الشيوعي الذي على الشيوعيين القيام به اليوم قبل الغد؟ تساؤل لينين قبل قرن وسبع سنوات أخرى عن مساق العمل الشيوعي كان بهدف إلغاء الإستراتيجية والتاكتيك اللذين كان حزبه، حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي (الشيوعي فيما بعد انسلاخه عن الأممية الثانية)، قد اعتمدهما قبل ثلاث سنوات فقط أي في العام 1898. وبرأيي فإن لينين كتب ” ما العمل؟ ” على ضوء الأطروحة التي قدمها ستالين في العام 1901 تحت عنوان ” الواجبات الأكثر إلحاحاً على حزب العمال الإشتراكي الديموقراطي في روسيا ” ينتقد فيها قيادة الحزب (بليخانوف، مارتينوف ولينين) لاهتمامها بالمثقفين أكثر من العمال الذين هم أصحاب المصلحة الحقيقية بالثورة وهو ما كان سيجعل الحزب مثل الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في أوروبا الغربية وقد غدت أحزاباً بورجوازية ؛ وكان ذلك أول هجوم شيوعي على أحزاب الأممية الثانية. قال لينين في (ما العمل؟) أنه يتوجب تغيير الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين قبل ثلاث سنوات فقط.
شيوعيونا اليوم وهم شيوعيو الأممية الثالثة المشكلة قبل زهاء القرن لا يخطر في بالهم أن يتساءلوا ” ما العمل؟ ” لأنهم عرفوا ماذا يعملون، عرفوا بالتحديد الإستراتيجية والتاكتيك في العام 1919 ولم يروا خلال قرن طويل أدنى ضرورة لتغييرهما ـ عجب العجاب!! برز الإتحاد السوفياتي كأقوى قوة في الأرض واستطاع وحيداً أن يسحق النازية والفاشية في القارة الأوروبية، بعد انهيار أكبر إمبراطوريتين استعماريتين بريطانيا وفرنسا على أيدي ألمانيا النازية في العام 1945، ولم تظهر لهم أية ضرورة لإعادة النظر في الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين في العام 19!! وقعت قيادة الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي في قبضة المرتدين، خروشتشوف وعصابته، في العام 1954 وأصبح الإتحاد السوفياتي دولة تنتج السلاح ولا تنتج الإشتراكية، ومع ذلك لم يروا أدنى ضرورة لتغيير الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين في العام 19!! أسقط المرتدون دولة دكتاتورية البروليتاريا في العام 1959 وأعلنوا رسمياً انفصالهم وابتعادهم عن معسكر التحرر الوطني، ومع ذلك لم تكن هناك أيضاً أية ضرورة لمراجعة الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين عام 19!! وفي الستينيات غدت القيادة في الكرملين تلهث وراء الإلتقاء بالإمبريالية في منتصف الطريق تحت شعار خروشتشوف الأثير ” الوفاق الدولي “، وأيضاً وأيضاً لم تبرز هناك أية حاجة لمراجعة الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين منذ العام 19!! وفي السبعينيات بدت علائم الإنهيار واضحة على الإتحاد السوفياتي، ولم تكن هناك حاجة لإعادة النظر في الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين في العام 19!! وفي الثمانينيات لم يعد هناك استعمار في العالم كله للنضال ضده والانفكاك من ربقته، ومع ذلك وبالرغم من كل ذلك لم تبرز أمامهم أدنى حاجة لمراجعة الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين في العام 19!! وفي التسعينيات لم يعد هناك اتحاد سوفياتي أو مشروع لينيني الذي هو أساس ومنطلق الأممية الثالثة، سبب وجودهم، ومع ذلك وبالرغم من كل ذلك لم تبدُ في أفق هؤلاء الشيوعيين العميان أية ضرورة لإعادة النظر في الإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين في العام 19!! أي شيوعيين هم هؤلاء الشيوعيون!! هؤلاء هم ” شهود يهوه ” أو إخوان مسلمون وليسوا شيوعيين في أي حال من الأحوال!! بدؤوا في العام 1919 بإستراتيجية التحرر الوطني وبتاكتيك تشكيل الجبهة الوطنية التي تضم كافة أطياف البورجوازية الوطنية والشيوعيين، ومازالوا في العام 2009، بعد قرن مليء بالأحداث والمنعطفات، ومنها انهيار المشروع اللينيني نفسه أساس وجود الأحزاب الشيوعية، وما زال هؤلاء الشيوعيون يناضلون من أجل تشكيل الجبهة الوطنية لتحقيق الإستقلال الوطني وقد عبر عليه التاريخ!!! هؤلاء عميان وبحاجة لمن يقودهم، ولن يجدوا أحداً خلفهم يقودونه!! نعم، اليوم لا يجدون أحداً خلفهم ومع ذلك فإن أحداً منهم لم يتساءل قط “ما العمل؟”!!
كنت أفهم أن الشيوعيين في البلدان المستعمرة والتابعة يهدفون استراتيجياً إلى الإنفكاك من ربقة الإستعمار كخطوة ذات أثر مباشر في تفكيك الرأسمالية العالمية، مشروع التفكيك الذي رسمه لينين تطبيقاً لمشروع ماركس للانتقال إلى الشيوعية، دون أن ينسى المرء أن الإنفكاك من ربقة الاستعمار كان يتم فقط عن طريق بناء اقتصاد وطني مستقل لا يتحقق إلا بمساعدة المعسكر الإشتراكي والاتحاد السوفياتي منه على وجه الخصوص ؛ كنت أفهم ذلك، أفهمه كثورة موازية وضرورية في البلدان المستعمرة والتابعة من أجل نجاح مشروع لينين في تحقيق رؤية ماركس الشيوعية. فما عسى الشيوعيون العميان أن يفهموه اليوم؟ لم يعد هناك مشروع للينين كي يكمّلوا بنيانه ـ وقد عملوا هم بأيديهم على تحطيمه ـ ولم تعد هناك إمبريالية لينفكوا من ربقتها، ولم يعد هناك اتحاد سوفياتي يساعد على بناء اقتصاد وطني مستقل، فكيف للشيوعيين العميان أن يشرحوا لنا اليوم إستراتيجيتهم وتاكتيكهم المعتمدين في العام 1919؟ ليت أحدهم يتطوع لأن يشرح لنا ضرورة الجبهة الوطنية والهدف من الإستقلال الوطني فننضم إلى حزبهم، قاهر الأزمنة، فيكسب بنا ولا نعود نشوّش على مسيرته المجيدة المؤثلة!!
نقول اليوم بأعلى الصوت لهؤلاء الشيوعيين العميان أن الإمبريالية انتهت في السبعينيات حينما انتهت الرأسمالية، فيردون حين يضايقهم قولنا الصعب على فهمهم بالقول : أن الولايات المتحدة الأميركية هي عدوة الشعوب فقد شنت حرباً على أفغانستان وحرباً أخرى على العراق كما أنها تدعم إسرائيل دعماً مطلقاً ـ وما شأن كل ذلك بنمط الإنتاج في الولايات المتحدة؟! أليس هو نمط الإنتاج ما يحدد طبيعة النظام وطبيعة الدولة؟! الإنتاج الرأسمالي في الولايات المتحدة لا يتجاوز نسبة السدس من مجمل الإنتاج القومي، وهو أقل مما في بلدان أوروبا الغربية ومن اليابان وأقل حتى من الصين الشيوعية، فلماذا توصف الصين بالشيوعية والولايات المتحدة بالإمبريالية؟!! الإتحاد السوفياتي حارب طالبان في أفغانستان دون أن يدمر بن لادن أياً من عمائره ولم يوصف مع ذلك بالإمبريالي! وهل كانت أميركا ستعلن الحرب على أفغانستان لو أن حكومة طالبان سلمتها بن لادن لمحاكمته على جريمته الفظيعة في البرجين وفي الطائرات وقتل ما يزيد على ثلاثة آلاف أميركي خلال دقائق معدودة؟! أي شيوعيين هم أولئك الذين وزعوا الحلوى فرحاً بوقوع كارثة البرجين؟!! لا يمكن للمرء إلا أن يقارن في مثل هذه الحالة بين فرح هؤلاء الشيوعيين العميان بكارثة البرجين وبين تحذيرات ستالين المشددة للطيارين السوفيات أثناء استعار الحرب العالمية الثانية من قصف أية أهداف مدنية في ألمانيا، لأن شعب ألمانيا ليس عدواً للشعوب السوفياتية، بالمقابل. ثم لماذا الحرب على العراق؟ ألم تحارب عدة جيوش عربية مع الجيش الأميركي لتحرير الكويت؟ حرب 2003 إنما هي استكمال لحرب 91 التي توقفت في خيمة صفوان وفيها تعهد صدام بتدمير ما لديه من أسلحة التدمير الشامل، ذات الحجة التي انطلقت منها الحرب الأخيرة. الإنذار السوفياتي في الحرب 91 هو الذي منع الجيوش الأميركية من التقدم إلى بغداد لتحريرها من قبضة عصابة صدام الدموية، أما في العام 2003 فلم يعد هناك من اتحاد سوفياتي. ثم ها هي حكومة الشعب العراقي المنتخبة تستعطف الإدارة الأميركية لتستبقي قواتها في العراق لبعض الوقت لكن أميركا ترفض ذلك ؛ ألا يمثل هذا صفعة حامية للقوّالين بالاستعمار الأمريكي؟! ـ قد يتبادر للشيوعيين العميان أنني هنا أدافع عن الولايات المتحدة الأميركية، هذا ليس صحيحاً، فأنا هنا إنما أدلل على تقادم الأفكار القديمة، أفكار الإمبريالية والتحرر من الإمبريالية المتعلقة بالإستراتيجية والتاكتيك المعتمدين من قبل الأحزاب الشيوعية المحيطية في العام 1919 حين كانت قضية التحرر الوطني وبناء الإقتصاد المستقل على أجندة التاريخ وليس كما تغيب اليوم غياباً نهائياً.
الصيحة المتعالية الأخرى التي يطلقها الشيوعيون العميان ـ أقول الشيوعيون العميان كيلا أحقّرهم فأقول أيتام خروشتشوف ـ هي صيحة الديموقراطية، الديموقراطية الليبرالية بالطبع كما يقرّون. أي ماركسي مبتدئ يعلم جيداً أن الديموقراطية الليبرالية (Laissez passer، Laissez faire) إنما هي البناء السياسي لنظام الإنتاج الرأسمالي وليس لأي نظام إنتاج آخر. نظام الإنتاج الرأسمالي هو البناء التحتي الذي يفرز بناء فوقياً هو الديموقراطية الليبرالية. فهل بنيّة هؤلاء الشيوعيين العميان أن يبعثوا النظام الرأسمالي من جديد كي يبيض لهم هذا النظام بيضة الديموقراطية الليبرالية. لئن كانت إستراتيجيتهم تندرج في مثل هذا المندرج، فلماذا لا يعلنون ذلك كي يميّز العالم الخيط الأبيض من الخيط الأسود. ولماذا لا يقولون لنا كيف سيبعثون النظام الرأسمالي؟ هل سيبنونه محلياً أم سيستوردونه! ـ وليس من سخرية في هذا فالأنظمة الإقتصادية التالية لنظام الإقطاع في البلدان المتخلفة تُستورد ولا تبنى محلياً، لخيبة أمل القوميين والبعثيين ـ وإذا كانوا سيستوردونه، فمن أين؟ من الصين أم من اليابان حيث لم يبق منه إلا القليل القليل في الولايات المتحدة وبريطانيا؟ وكيلا أدخل في نقاش لا طائل منه أقول أنه من الصعب على المرء أن يصدق أن الشيوعيين سيبادرون إلى بناء نظام رأسمالي بعد أن هجر العالم المتحضر هذا النظام الذي يشرّع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
من المفيد أن يفتح هؤلاء الشيوعيون العميان عيونهم قليلاً كي يروا البنية الداخلية للديموقراطية البورجوازية الموصوفة تزويراً بالليبرالية. تبيح الديموقراطية الليبرالية الحريات العامة للطبقة العاملة بحدود لا تصل إلى الضغط على حرية الرأسماليين في استغلال العمال. كل هذه الحريات تمنحها البورجوازية ليس من باب النفاق البورجوازي، بل لأن تواجد الطبقة العاملة على أوسع مساحة في المجتمع الرأسمالي هو ضرورة حيوية لا يمكن الإستغناء عنها على الإطلاق. بل إن تنمية الطبقة العاملة كمّاً وكيفاً يصب قبل كل شيء في صالح الرأسماليين إذ لا تتطور الرأسمالية إلا من خلال تطور الطبقة العاملة. للطبقة العاملة في ظل الديموقراطية الليبرالية أن تقول ما تشاء وأن تعتقد فيما تشاء وأن تنتظم كيفما تشاء، بل ولها أن تمارس ضغوطاً من أجل تحجيم فائض القيمة لكن ليس مسموحاً لها على الإطلاق أن تتحرر من قيد التشغيل الرأسمالي، من بيع قواها المتجددة في الشغل للإتجار بها كبضاعة من قبل الرأسماليين. لذلك ترى الرأسماليين يمتلكون الصحافة والراديو ومحطات التلفزة كيلا يمارس العمال الحريات الممنوحة لهم في الدستور فيدعوا إلى التحرر من قيد الإنتاج الرأسمالي. وعليه فليس أفصح في شرح معنى الديموقراطية الليبرالية من المعادلة التي تقول: الديموقراطية الليبرالية = الاستغلال الدائم للعمال. فهل شيوعيونا العميان يناضلون اليوم لتأبيد استغلال العمال؟!
ثم كيف للديموقراطية أن تقوم في مجتمعات الفاقة والعوز؟ في مثل هذه المجتمعات، حيث لم تعد الزراعة تقيم أود الناس، لم تبنَ بعد وسائل إنتاج أخرى ذات كفاءة، ولم تتبلور بعد تلك الطبقة الإجتماعية القادرة على تزويد المجتمع بحدود مقبولة من احتياجاته وهو الوسيلة الوحيدة لإقامة السلطة الثابتة المستقرة. الديموقراطية لا تقوم في المجتمعات الهلامية التي لم تستقر بعد على نمط معين من الإنتاج، ولا حتى في المجتمعات غير المنتجة التي يعتمد معاشها على ريوع النفط أو المواد الخام الأخرى. في مثل هذه المجتمعات لا تقوم إلا دولة الدائرة المغلقة (Closed Circle)، دولة العصابة التي لا تنتمي لأي طبقة اجتماعية، عصابة تستولي على الريوع تنفقها على أمنها أولاً وعلى امتيازاتها فيما تبقّى. وبالتالي، فعن أي ديموقراطية يتحدث هؤلاء الشيوعيون العميان الذين لم يتساءلوا يوما ” ما العمل؟ “؟!
كيلا يسأل الشيوعيون العميان العرب السؤال الفيصل ” ما العمل؟ ” تراهم اليوم يغطون عجزهم هذا بالإندفاع القوي لتحرير فلسطين من اليهود! حبذا لو أن أحداً من هؤلاء الشيوعيين العميان يقول لنا ما شأن تحرير فلسطين من اليهود بتحرير البروليتاريا من قيد التشغيل الرأسمالي! هل إذا ما شكلت حماس وفتح حكومة كل فلسطين بعد طرد اليهود منها فسيعني ذلك تحريراً للعمال العرب؟! ولنا أن نذكر في هذا السياق أنه عندما كانت إسرائيل تقوم بدور كلب الحراسة للإمبريالية في المنطقة العربية لم يكن لدى الأحزاب الشيوعية العربية أي برنامج لتحرير فلسطين، أما اليوم وبعد أن لم تعد هناك إمبريالية لتقوم إسرائيل بخدمتها فإن هذه الأحزاب تطلق أعلى الصيحات لتحرير فلسطين!! ـ في صيف العام 1965 أرسلت، من خارج الحزب، مذكرة إلى قيادة الحزب الشيوعي أطالب فيها بالتنسيق الكامل مع منظمة التحرير الفلسطينية وذلك لأن كافة التناقضات بين الإمبريالية والشعوب العربية كانت تتجمع في البؤرة الفلسطينية، فما كان من الأمين العام للحزب، رفيقنا الكبير ورفيق فهد طيب الذكر فؤاد نصار، إلا أن شجب آرائي في أول مؤتمر عام عقده الحزب بعدئذٍ عندما استهجن آراء بعض أعضاء المؤتمر بوصفه لها.. ” هذه هي آراء فؤاد النمري “!

إذاً ما العمل؟
ما العمل والأساس الذي قام عليه بنيان الأحزاب الشيوعية، مشروع لينين، قد انهار وأصبح أثراً بعد عينْ؟ ما العمل بعد أن انهار النظام الرأسمالي في حواضره وانتهت الإمبريالية إلى غير رجعة، واستحال بذلك استمرار العيش على الاقتصاد التابع؟ ما العمل أمام استحالة بناء النظام الرأسمالي أو النظام الإشتراكي في الأمدين القريب والمتوسط، كليهما على الأقل؟ ما العمل والطبقة العاملة في جميع البلدان قد انكمشت وتهمّشت ولم تعد تمارس دوراً قيادياً في مجتمعاتها؟ أمام كل هذه الشروط والأحوال، تساؤل ما العمل يفرض نفسه دون أن يستأذن أحداً. لقد أمسى ألزم اللزوميات والإجابة عليه تسبق بالضرورة الخطوة الأولى على طريق العمل الشيوعي.
إذا ما تعذّر على سراة الليل أن يتبينوا طريقهم في الظلمة الحالكة، فعليهم أن يحطوا ثابتين حيث هم في أرضهم حتى ينبلج الصبح فيستأنفوا مسيرتهم، وإلا ضلوا طريقهم ولن يصلوا إلى مقصدهم. الشيوعيون المأخوذون ليس بتحرير البروليتاريا وإثراء المجتمع نتيجة ذلك فقط، بل وأيضاً برحلة الأنسنة واستكمال إنسانية الإنسان، هؤلاء الشيوعيون يترتب عليهم أن يقعدوا حيث هم بعد أن لم يعودوا يتبينون الدرب الصحيح، يقعدوا ينتظرون انبلاج الصبح كي يستأنفوا مسيرتهم نحو الشيوعية من جديد. الشمس التي تضيء لهم الدرب من جديد هي الماركسية وليس غير الماركسية. عليهم في هذه المحطة أن يراجعوا الماركسية مرات ومرات ليحرروها من كل ما علق بها من تحديث أو تطوير مزعومين وكاذبين مضللين. بدون الماركسية كما في القراءة اللينينية لن يتمكن الشيوعيون من استئناف المسيرة نحو الهدف المنشود ألا وهو الشيوعية. أدعياء التحديث والتطوير بحجة شيخوخة الماركسية إنما هم بيادق مأجورة لأعداء البشرية من أنصار الإبقاء على تقسيم العمل وجلّهم من الطبقة الوسطى.
عندما يقعد الشيوعيون حيث هم على الدرب كيلا يضلوا في منعرج لا يصل إلى المقصد المنشود في عتمة الليل البهيم، عليهم ألا يتحركوا أبداً وألا ينشطوا سياسياً ؛ فطالما أن السياسة هي أدب الصراع الطبقي وأنهم في محطتهم الثابتة لم يعودوا يصارعون أحداً فإن أي نشاط سياسي من شأنه أن يشير إلى طريق أخرى غير الطريق الصحيحة. والاستنكاف عن الصراع الطبقي يقتضي حل الحزب الشيوعي فالحزب إنما هو المنظمة الطليعية التي تقود الطبقة العاملة في صراعها مع الطبقة المعارضة المناقضة وهي الطبقة الرأسمالية التي اندثرت منذ سبعينيات القرن الماضي ولم يعد لها وجود فعلي. الشيوعيون العميان ما زالوا يصرون على أن نضالهم ضد الرأسمالية ما زال شرعياً ولازماً ؛ يقولون هذا ليغطوا عجزهم في مواجهة السؤال ” ما العمل؟ ” ؛ إنهم عميان لم يقرأوا حرفاً من ماركس ولينين، ديدنهم في هذا ديدن عرّابهم خروشتشوف الذي لم يقرأ صفحة واحدة من أعمال ماركس أو لينين بشهادة ابنه سيرجي. انشغالهم الكلّي بالعمل بما يدعى زوراً بالعمل الوطني وبناء الديموقراطية والإقتصاد الوطني المستقل إنما هو ضرب من ضروب الخيانة للعمل الشيوعي. وها نحن نرى جميع الأحزاب الشيوعية العربية تتراجع لتدعو إلى إقامة التعددية وتداول السلطة في الأنظمة السياسية العربية، وهو ما يعني تماماً أن هذه الأحزاب لا تمتلك برنامجاً شيوعياً. كيف بها تمتلك برنامجاً شيوعياً ثم تدعو، بدعوى التعددية، أحزاباً غير شيوعية للقبض على السلطة؟!! ما عساها أن تكون فائدة الحزب الشيوعي الذي ليس لديه برنامج شيوعي؟ مثل هذا الحزب هو بكل بساطة ليس حزباً شيوعياً، وهو لذلك حزب معادٍ للشيوعية يتوجب حلّه.
حل الحزب الشيوعي الذي يعني أساساً الإعتراف المطلق بانهيار المشروع اللينيني على الصعيد الواقعي على الأقل والموافقة بالتالي على التحلل من نداء الأممية الثالثة عام 1919 بتشكيل الأحزاب الشيوعية، فإنه لا يعني بتاتاً إعفاء الشيوعيين من العمل الشيوعي، بل لعل العكس هو الصحيح ؛ حيث أن الأعضاء المنضوين اليوم إلى الأحزاب الشيوعية العربية بشكل خاص لا يقومون بأي عمل شيوعي، ناهيك عن أن مجرد استمرار هذه الأحزاب ماثلة باسم الحزب الشيوعي من شأنه أن يعطّل كل عمل شيوعي. العمل الشيوعي المتاح اليوم في المحطة الماثلة حالياً على الطريق التاريخية للشيوعية يتجسد في حل الأحزاب الشيوعية من أجل اتحاد الشيوعيين من مختلف التوجهات والأطياف، من التروتسكيين واللينينيين وحتى الماويين، في اتحادات غير هرمية، بدون قمة أو قاعدة، تحصر اهتمامها باكتشاف الطريق المكمل للوصول إلى الشيوعية، وهي الطريق المختلف عليها من قبل الجماعات الشيوعية المختلفة. آباء الشيوعية، كارل ماركس وفردريك إنجلز وفلاديمير لينين، لم يصل أي منهم إلى محطتنا الحالية، محطة السكون والانجماد، ولم يتنبأ أي منهم بوجودها ؛ ولذلك يترتب على الشيوعيين اليوم من مختلف النزعات والاتجاهات أن يوظفوا كل علومهم الماركسية في اكتشاف الطريق المكمل، موضوع نزاعات المجموعات الشيوعية المختلفة، وتحديدها بدقة متناهية. القوانين والمبادئ العلمية التي تركها لنا ماركس وإنجلز ولينين ستساعد الشيوعيين في اكتشاف الطريق المجهولة اليوم مع الحذر الشديد من أدعياء التحديث أو التطوير للماركسية. فعبر تاريخ الحركة الشيوعية ظهرت طرز مختلفة من المجددين والتحديثيين المحرفين ولم يتركوا لنا غير الوصول إلى المحطة الحالية، محطة الإنهيار والظلمة الحالكة. ما هو مطلوب اليوم استكمال رحلة ماركس وإنجلز ولينين دون الرجوع بوصة واحدة.
كان ماركس قد بنى مشروعاً للعبور إلى الشيوعية عام 1864 بتشكيل الأممية الأولى لكنه بعد أن أيقن أن بروليتاريا العالم لم تكن قد تطورت بعد لما يكفي تخلي عن المشروع وقام هو نفسه بحل الأممية الأولى في العام 1873. وفي العام 1889 بنى إنجلز مشروعاً مماثلاً وشكل الأممية الثانية من أحزاب الإشتراكية الديموقراطية المستقلة في أوروبا لكن هذه الأممية انهارت عملياً في العام 1912 وقد قررت المشاركة في الحرب العالمية الأولى الاستعمارية. وأخيراً قام لينين بمشروعه الخاص بدءاً بثورة أكتوبر في الحلقة الضعيفة وتشكيل الأممية الثالثة في العام 1919 التي أقامت أحزاباً شيوعية لم تكن موجودة في كل أنحاء العالم لكن المشروع اللينيني انهار نهائياً في العام 1991. الشيوعيون اليوم بحاجة إلى مشروع آخر لا بدّ أن يكون مختلفاً عن المشاريع الثلاثة السابقة. أحزاب الأممية الثالثة لن تكون مؤهلة لبناء المشروع الجديد طالما أنها من مخلفات مشروع لينين ذي البنية الخاصة. ولما كان الهدف العام للشيوعيين فيما بعد انهيار مشروع لينين هو بناء مشروع جديد يرسم الطريق المستقيم إلى الشيوعية فلا بد أن يكونوا بحاجة إلى تنظيم أنفسهم في بنية تختلف عن البنية اللينينية للحزب التي تتخذ الشكل الهيكلي والقيادة المركزية. الهدف المختلف يقتضي بنية مختلفة. البنية التي يمكن للمرء أن يقترحها في مثل هذا السياق هو أن تقوم إتحادات أفقية في كل منطقة يغلب عليها الطابع الفكري والثقافي ثم تقوم هذه الاتحادات المناطقية بتسمية ممثلين لها يتسمون بالعمق الفكري ليشكلوا مع نظرائهم ممثلي المناطق الأخرى هيئة إقليمية قد تتحد مع هيئات إقليمية أخرى ليتشكل لدينا بالتالي أممية رابعة مختلفة عن الأمميات الثلاث السابقة طالما أنها تتشكل من أجل أن تبني مشروعها الخاص والمختلف للانتقال إلى الشيوعية. الأمميات السابقة الثلاثة كانت تبنى استجابة لمتطلبات مشروع معد سلفاً للانتقال إلى الشيوعية، أما الأممية الرابعة المطلوبة فتتشكل لرسم مشروع الانتقال وليس لتطبيق مشروع معد سلفاً، والفرق كبير بين البنيتين.
بقي علي أن أتعرض لثلاث نقاط هامة في سياق البحث : الأولى وهي أن البعض قد يتوهم بأنني أدعو لتشكيل أممية رابعة من قبيل الرفض لمشروع لينين أو الإعتراض على بعض مندرجاته والحقيقة أنني أدعو لتشكيل أممية رابعة من قبيل الإعتراض على القوى التي اعترضت مشروع لينين. الشيوعيون الحقيقيون اليوم إنما هم أبناء المشروع اللينيني ومهندسيه البلاشفة. والنقطة الثانية هي أنه قد يتم الخلط بين الأممية المقترحة وبين ما يوصف بالأممية الرابعة، أممية التروتسكيين، التي ظهرت كعدو لتطور المشروع اللينيني والنجاحات الهائلة التي تحققت بإدارة الرفيق ستالين فانحدرت إلى أن تكون مجرد منظمة للحاقدين على الإشتراكية. أما النقطة الثالثة، وهي الأهم، فإن مقترحنا الخاص بالإجابة على السؤال العنوان ” ما العمل؟ ” لا بدّ أن يستحوذ على اهتمام الشيوعيين الحقيقيين الذين يترفعون عن الإتجار بالسياسة ؛ إذ ليس من عمل شيوعي حقيقي قبل الإجابة الوافية والصحيحة على السؤال العنوان التي لا بدّ وأن تقضي بالتخلي نهائياً عن الإستراتيجية والتاكتيك اللذين اعتمدتهما الأممية الثالثة في العام 1919.

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى