سلامة كيلةصفحات مختارة

عن المقاومة من منظور الماركسية

سلامة كيلة
شكراً للعزيز حميد كشكولي على نقاشه الصريح حول “المقاومة من منظور اليسار الماركسي”، فقد أوضح جوهر وجهة نظره في هذه المسألة، وجهة النظر هذه الذي يعتبر أنها تمثل “اليسار الماركسي العمالي”. وهي خلاصة الموقف الذي يجري النقاش حوله ، قبل أن نحدد ما هي وجهة النظر الماركسية من الموضوع، رغم أنه ينطلق من أنه يقدم وجهة النظر الماركسية، وجهة نظر ماركس ولينين.
رفض المقاومة:
يشير حميد إلى أنه “لا تدخل مصطلحات (حركة المقاومة) واشتقاقاتها القومية في قاموس اليسار الماركسي العمالي، ولا ثمة من مبررات تستسيغ للشيوعيين واليسار الماركسي العمالي مقاربة القضايا الوطنية من قبيل التحرر من الاحتلال، ومشاكل الإرهاب والأمن وبناء دولة القانون في ضوء المقولات والمعادلات التقليدية القومية “. إذن، مبدأ المقاومة غير موجود في مصطلحات “اليسار الماركسي العمالي”، هذا باختصار لبّ المسألة. وكذلك كل القضايا الوطنية من مثل التحرر من الاحتلال. وبالتالي فإن كل موقفه من حركات المقاومة ومن المقاومة نابع من هنا، وليس من الموقف من حركة حماس أو حزب الله كونهما حركتان أصوليتان. ويمكن أن نستنتج بأنه الموقف ذاته الذي يمكن أن يؤخذ من أي حزب مارس أو يمارس المقاومة، مثل الحزب الشيوعي اللبناني، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. مثل حزب الشغيلة الفيتنامي، والحزب الشيوعي الصيني، وحركة كاسترو. ومثل لينين وهو يدعو إلى الانتفاضة المسلحة وحرب الأنصار، وإنجلز الذي كتب كثيراً عن الحرب. وكذلك مثل كومونة باريس. وفيض من المواقف والسياسات التي مارسها ماركسيون منذ ماركس إلى اليوم. وبالتالي شكراً لماركسيته العمالية، وشكراً لـ “اكتشافه الماركسي”.
بمعنى أن مبدأ الموقف من المقاومة لا وجود له هنا، حيث أن “مصطلحات .. قاموس اليسار الماركسي العمالي” لا تحتويه. ليس مبدأ المقاومة فقط الذي لا تحتويه مصطلحات ذاك اليسار بل كذلك القضايا الوطنية بمجملها، بما فيها التحرر من الاحتلال ودولة القانون، لأنها “مقولات قومية”. “فالمقاومة مقولة قومية”، و”إن مقولة المقاومة أو –حركة المقاومة – مصطلح قومي”. وربما يكون في هذا التحديد كثير من المسائل النظرية المختلطة، والمشوشة، والتي تعبّر عن منطق/ منهجية لا يمتّ/ تمتّ إلى الماركسية بصلة. حيث يبدو أنه ينطلق من “تصور ذهني” يقوم على أن ما أنجزته البرجوازية في أوروبا هو لكل برجوازية، والتي هي القومية وحدها، أما الشيوعيون فهم أمميون، وبالتالي فوق القومية التي هي رذيلة برجوازية يجب أن تلفظها الطبقة العاملة ويلفظها الشيوعيون. ولهذا يشير إلى كل ما حققته البرجوازية تلك، التحرر من الاحتلال، دولة القانون، ليصل إلى تحديد حدّي يفرض التضاد بين الماركسية والقومية، هو تضاد “أرسطي”، أي يقوم على “النفي المطلق”، على التعادي المطلق، مثل حدة التضاد بين الخير والشر. رغم اختلاف المستوى هنا بين الماركسية كمنهجية ورؤية والقومية كمسألة واقعية.
لهذا فإن كل ما فعلته البرجوازية يجب ألا تفعله الطبقة العاملة، وبالتالي فإن مهماتها هي مهمات أخرى مختلفة جذرياً عن هذه المهمات التي تقوم بها البرجوازية، حتى لو كان الواقع يفرض تحقيق هذه المهمات “البرجوازية” كما في وضعنا. هذا المنطق يجعل “اليسار الماركسي العمالي” يحلّق في الهواء، ويطرح مهمات هي غريبة عن الواقع غربة المثقف المنعزل ذاته. لتبدو أنها هواجس وأوهام ليس إلا. وهذه من سمات المثقف البرجوازي الصغير كما أعتقد، الذي يعتقد بأن أوهامه هي وقائع، فيكررها لكي يعتقد هو بها، لكي يصدّق ذاته. لهذا يهرب من طرح السؤال حول مهمته في وطن محتل، عبر كلام لا معنى له من مثل “لهذا يجب حل هذه المعضلات في ضوء برنامج شيوعي في سبيل تحرر المجتمع وإزالة أي نوع من الظلم والاستغلال والتمييز. ويعتبر هذا ركناً من أركان نضال الطبقة العاملة في المستوى الوطني والإقليمي والعالمي. إذ أن الشيوعية لها تكتيك وإستراتيجية واضحة لحل الظلم القومي، وأية معضلة قومية، يختلفان عن تكتيك وإستراتيجية القوى القومية والبرجوازية بمختلف مذاهبها من اليمين واليسار”. ما هو برنامج تحرر المجتمع وإزالة الظلم والاستغلال والتمييز هذا؟ وما هو تكتيك وإستراتيجية الشيوعيين لحل الظلم القومي هذه؟ أطرح الأسئلة من أجل أن أفهم الاختلاف عن تكتيك وإستراتيجية القوميين من اليمين إلى اليسار. أليس هذا لغو فارغ؟ ويقوم على تمييز شكلي جداً؟
هنا نلحظ بأن الموقف يقوم على رفض موقف القوميين وليس مؤسساً بذاته. فهو يعرف أنه ضد موقف القوى القومية لكنه لا يعرف ما هو موقف الشيوعي. وبالتالي فإن موقفه يتأتى انطلاقاً إذن من رفضه للقوى القومية. من رفض القوى التي تقول بهذه المواقف بعيداً عن بحث المسائل المطروحة وبالتالي تحديد الموقف منها. وهذه عاهة النقاش الدائر، حيث أنه لا يناقش الأفكار انطلاقاً من واقعيتها، أي من أهميتها في الواقع الراهن، بل انطلاقاً من كون هذه القوة أو تلك هي التي تطرحها. وهو الأمر الذي يشير إلى عجز عن وعي الواقع ذاته، حيث هناك المشكلات، وهناك الطبقات التي يسعى كل منها لطرح حلول لهذه المشكلات من زاوية مصالحه الطبقية. لكن في إطار ذلك يمكن أن تتقاطع مصالح بعض الطبقات فيما يتعلق بقضية أو أكثر، خصوصاً مثل القضية الوطنية والموقف من الاحتلال، المهمات التي يطرحها الواقع الراهن، وليس المهمات المستقبلية، وما إلى ذلك.
ولأن الصديق حميد ينطلق فقط من رفض الأهداف لأن طبقة ما طرحتها، فهو يتمسك بـ “شعارات” كبيره، لكن دون أن يحدد ماذا تعني، مثل إستراتيجية الطبقة العاملة وحلولها “المعروفة” لكل قضايا العالم (والآخرة). وبهذا تصبح مهمة الطبقة العاملة، ومهمة الشيوعيين (أو اليسار الماركسي العمالي) هي الاشتراكية فقط، التي بتحققها تحل كل المشاكل الأخرى، مثل الظلم القومي والاستغلال والتمييز، بلمسة ساحر. حيث “أن مقاومة الشيوعيين تجري في سعيهم في تحويل الشيوعية واليسار الماركسي والاشتراكي العمالي إلى قوة فعالة ببرامج ورؤى واضحة لحل أية قضية، أينما كانت… لأنها تتميز بسمات – المساواتية الشيوعية – وإن سياستها مبنية على الرفع الفوري لأي ظلم وتمييز وإجحاف، سواء كان قومياً أو اجتماعياً”.
أما كيف يتحوّل الشيوعيين إلى “قوة فعالة”، كيف نصل إلى الاشتراكية لرفع الظلم، فهذا شأن إرادي يتعلق بأن نقرر نحن “المثقف المنعزل” ذلك. فحينها نطرد الاحتلال من العراق، ونلغي الظلم القومي بإلغاء القومية من الأساس. فهذه مسائل بسيطة حينما ننتصر. هنا تتوضح لمسة الساحر الذي يتحول إلى قوة دون أن يطرح مشكلات الناس، ودون أن يمارس كل الأساليب لتطوير الصراع الطبقي وتصعيد المقاومة، ودون أن يؤسس التحالفات الضرورية. وفقط يمارس الرفض لكل ما يمارَس في الواقع، السيئ والصحيح. ويرفض القوى التي تمارس لأنها قومية أو أصولية فقط، وبالتالي يرفض الممارسة ذاتها التي كان يجب أن يقوم بها هو، لكي يكون رفضه للقوى تلك مبني على أساس صحيح، أو له فاعلية.
وسنلمس هذه المسألة حين نرى من أين ينطلق، حيث يخلط بين “المقاومة في المنظور القومي” وبين مبدأ المقاومة، وبالتالي المنظور الماركسي لها. لهذا يشير إلى أن “المقاومة في المنظور القومي وفوق الطبقي تعني وحدة صفوف الطبقات المتناقضة، لمقاربة قضايا المجتمع، مثل المشاكل القومية والتنمية والعلاقات الدولية وغيرها”. ولأنها تعني في المنظور القومي كذلك يرفضها، ولا يرفض المنظور القومي فقط. الماركسي يميز بين ضرورة الوسيلة (وهنا المقاومة) وبين القوى التي تمارسها، كما يقوم بتحديد رؤيته لها انطلاقاً من منهجيته الماركسية. أما أن يرفضها لأن قوة/ طبقة أخرى تطرحها فأمر يتعلق بمنطق صوري لا يرى إلا الشكل/ الصورة، دون أن يلمس جوهرها، فيرفض الشكل والجوهر معاً. وهذا ما يتوضح في نص حميد بشكل فاقع، حيث يقول “أن لليسار العمالي والاشتراكي الطبقي رأي مخالف لفرضيات اليسار القومي (وهنا يصبح المنظور القومي هو فرضيات اليسار القومي، الذي هو هنا نحن الماركسيين الذين ندافع عن المقاومة والمسألة القومية) الذي يبدي التعاطف “الشرعي” مع الشعب المضطهد، ويوحد تعاطفه هذا مع الحركة القومية القائمة باسم ذاك الشعب، وبذلك يرى “حركة المقاومة” مقولة بنيوية ويعتبرها مبدأ أساسياً من مبادئه”. ليبدو أنه قرر إلحاق كل ماركسي يطرح المسألة القومية ويدعو إلى المقاومة بتلك القوى القومية، و بالتالي صنّفهم في إطار “اليسار القومي” أو”القوميين المتياسرين”. لهذا يشير إلى أن “مواجهة الاحتلال والظلم القومي لا تعني أبداً الاعتراف السياسي بالحركات القومية رسمياً والانحلال فيها”. من قال بأن “اليسار القومي” يعترف “رسمياً” بالحركات القومية؟ وأدهى ينحلّ فيها؟ هذا ما فعله شيوعيون، لكن المسألة تفرض التمييز بين أن يعترف الماركسي بقوى طبقية أخرى، كما بقوى سياسية أخرى، وأن ينحلّ فيها. وربما عدم التمييز هذا هو نتاج ما أسلفت، حيث يجري التحديد الشكلي: مسألة قومية تساوي قوى قومية، ومقاومة احتلال تساوي حماس أو حزب الله أو البعث. لهذا يصل باستنتاج “بديهي” بأن الدعوة إلى المقاومة أو “رفع الظلم القومي” تعني الانحلال في القوى القومية. وتصبح هذه القضايا من خاصية تلك القوى، وبالتالي يجب ألا نطرحها وإلا أصبحنا “يسار قومي” أو “متياسرين”.
هذا هو المنطق الصوري، الذي ينبني على ما هو “حسي”، حيث يدمج الموضوع بالقوة التي تطرحه، ويربطا معاً إلى حد رفض الموضوع. بينما الديالكتيك الماركسي يفرض أن نرى الشكل ونرى المضمون، ونميز الموضوع عمن يطرحه. هذه بديهيات الجدل المادي، التي تفرض تجاوز المنطق الصوري الذي يفرض أن يلخص الشيء (أي شيء) بالشكل/ الصورة. وبهذا يتحول التناقض كما يطرح الجدل المادي إلى تناحر مطلق في المنطق الصوري، ويصبح النفي هو محي، أو إفناء. كما نلمس في الصراعات الطائفية في العراق مثلاً، حيث أن منطق كل هؤلاء هو القائم على: أنا أو هو، وليس من الممكن أن نتواجد أنا وهو، لكن في صيغة جديدة. وهو المنطق الذي يحكم “اليسار الماركسي العمالي” كما يبدو، ويحكم كثير من الشيوعيين، وإن كانوا توصلوا إلى نتائج متناقضة. لكنه التناقض الذي يحدد كل المسائل في: أبيض، أسود. وبالتالي فبعضهم في الأبيض وبعضهم في الأسود ليس أكثر.
وهو المنطق الذي لا يرى أهمية للتحالفات، لأنه يعتقد بأن “اليسار الماركسي والاشتراكي العمالي” يمتلك برامج ورؤى واضحة “لحل أي قضية” و”أينما كانت”. وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى “الشعب”، إلى الطبقات الشعبية، لأنه لا يعترف إلا بالطبقة العاملة. ولهذا يرفض كل قوة غير تلك التي يمثلها، ولا يعتقد بأن البرجوازية الصغيرة يمكن أن تلعب دوراً في الصراع الطبقي من أجل التقدم، أو في المقاومة. وأن القوى القومية التي تمثل مصالح طبقات حينما تقاوم فلأن مصالحها تفرض عليها ذلك. باختصار لا يرى بأن هذه القوى هي ممثلة طبقات لها مصلحة في حل المسألة القومية أو في مقاومة الاحتلال. وهذا الأمر لا يفرض التحالف معها بالحتم، بل لا يفرض رفض الممارسة لأنها تمارسها، أو رفض القضية لأنها تطرحها. حيث ليس من الضروري أن يتحالف كل من يطرح المسألة القومية، أو كل من يمارس المقاومة، لأن الصراع مع الرأسمالية يمكن أن ينطلق من منظور رجعي أيضاً، لكن هذا لا يلغي الصراع مع الرأسمالية.
إن اتخاذ الموقف ذاته من قوة محددة، مثل الاحتلال مثلاً، أو اتخاذ الموقف ذاته من قضية محددة، مثل المسألة القومية، لا يعني لا التطابق ولا الاندماج، ولا حتى التحالف ضرورة، لكن هذا التشابه في المواقف لا يجب أن يفضي إلى رفض الموقف ذاته لأن قوة أرفضها تتخذه. فهذا عين المنطق الصوري. رغم أن هذا التشابه لا يفرض ضرورة التحالف، وربما يفرض التحالف كذلك، وهذا يتعلق بتحديد طبيعة القوة التي نناقش. وما أثار كل هذا النقاش هو الموقف من المقاومة، وفي لحظة حرب صهيونية على غزة، حيث بات الدفاع عن المقاومة هو دفاع عن حماس، رغم أن هذا غير ذاك، لأن لحظة الحرب تغلّب الدفاع، والانخراط في المقاومة (وليس بالضرورة تحت لواء حماس، أو ليس على الإطلاق تحت لواء حماس، كما فعلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، لكن هذا لا يلغي كل التقييم الممكن لحركة حماس أو حزب الله، ولست هنا في وارد تكرار موقفي، لكن لا يجوز الوقوف ضد المقاومة في هذه اللحظة من قبل ماركسي هو أولاً ضد قوى الاحتلال والنهب، وهذا مؤسس على الرؤية الطبقية والوطنية معاً، دون أن يتجاهل رأيه في قوى أصولية وتمثل شرائح تجارية ليبرالية، وهو في كل الأحوال ضد القوى التي تمارس الطائفية، سواء كانت بالعنف أو بالسياسة. ولا يجوز تحميل هذه القوى مسئولية الحرب رغم أن أساس الحرب هو وجود الاحتلال ووجود الدولة الصهيونية. فمثلاً أنا لا أرى ضرورة للتحالف مع القوى الأصولية، حتى التي تمارس المقاومة، إلا خلال المعارك، لكن من حيث المبدأ ليس من الممكن التحالف مع قوة طائفية ليبرالية في السياسة الاقتصادية ومحافظة، وحتى رجعية، في القيم الاجتماعية. وهنا يجب أن نمارس صراعاً أيديولوجياً مستمراً، لكن التناقض الرئيسي ليس مع هؤلاء، بل مع قوى الاحتلال ومع النظم القائمة. وسيكون مع هذه القوى حينما تطور هي الصراع، لكن دون أن نتجاهل التناقض الرئيسي. هل حديثي واضح في هذا المجال؟ إنني هنا أميز بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، التمييز الضروري لكل فعل سياسي، ومن أجل الوصول إلى الانتصار.
التحرر من الاحتلال:
أشرت في البدء إلى أن الرفيق حميد قد أكد على أن “مصطلحات – حركة المقاومة – واشتقاقاتها القومية” غير واردة “في قاموس اليسار الماركسي العمالي”، ولقد أحال كل ما يتعلق بالمقاومة أو بالمسألة الوطنية إلى البرجوازية، والقوى القومية. لكن كيف يمكن التحرر من الاحتلال وفق رؤيته؟
يحدد بأن “أممية الطبقة العاملة والسياسة الشيوعية وإستراتيجيتها، توجب رؤية المشكلة…. رؤية سياسية، والبحث عن طريق حل سياسي. وإن مسير العمل على معالجة المسائل يسهم في توضيح الرؤية في درب النضال الطبقي”. أيضاً شكراً لهذا الموقف الواضح، كما لهذا الخلط، حيث أن الرؤية السياسية هي غير الحل السياسي، لأن كل رؤية تتعلق بموضوع سياسي هي رؤية سياسية، لكن هل أن الحل يجب أن يكون سياسياً بالتحديد؟ وما معنى السياسي هنا؟ أليست الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل عنيفة كما كرر لينين؟
هنا يطرح حميد الحل السياسي بديلاً للمقاومة، والذي يعني كما يبدو الحل غير العنفي، غير القائم على المقاومة كونها فعل عنيف. وبالتالي يسقط العنف من التاريخ، وربما لم يقرأ فكرة أن “العنف هو قابلة التاريخ”. وأن الماركسية قامت على مبدأ تطوير الصراع الطبقي بكل الأشكال الممكنة بما فيها العنف، لأنها انطلقت من أن الطبقة المسيطرة، كما أن الاحتلال، لا يزولان بالحوار والمهادنة، بل بالحرب. وبالتالي إذا كان “اليسار الماركسي العمالي” يرى الحل في السياسة فقط عليه ألا يستند إلى ماركس أو لينين لأنهما دعاة “عنف”، وربما يمكنه أن يقول بأن “ماركسيته” توصلت إلى نبذ “العنف”، وبالتالي رفض المقاومة والنضال الطبقي العنيف لمصلحة “الحل السياسي”، أما أن يحمل ماركس ولينين موقفه “الذاتي” فهذه فرية عليهما. طبعاً هنا يمكن أن أورد نصوصاً لماركس، إنجلز ولينين حول هذه المسائل، لكن يمكن العودة إليها في كتبهم المنشورة (يمكن مثلاً العودة إلى مختارات من كتابات لينين في “نصوص حول المسائل العسكرية” إصدار دار الطليعة في بيروت. أو كتاب إنجلز “دور العنف في التاريخ” إصدار دار دمشق، والذي هو جزء من كتاب إنجلز “ضد دوهرنغ”). الماركسية لا تحسم ذاتياً أشكال الصراع كما يفعل “اليسار الماركسي العمالي”، لأنها تنطلق من فهم موضوعي للواقع، وبالتالي تحديد الأشكال الممكنة فيه. وحين تمارس طبقة العنف، أو حين تفرض دولة احتلالها بالقوة، ليس من “العقلاني” أن نقرر خياراً “سلمياً”، أو “سياسياً” هي ترفضه وتمارس عكسه. كما ليس من “العقلانية” أن نواجه قوة الاحتلال (التي هي بالطبع قوة عسكرية) بنشاط “سياسي”، دون العمل العسكري.
ربما كان من حق حميد أن يختار “الحل السياسي”، فهذا شأنه، لكن يجب أن لا يحمّل هذا الموقف للماركسية من جهة، كما لا يجب أن يظهر أنه يرفض المقاومة لأن قوى أصولية تمارسها من جهة أخرى. فهو ضد المقاومة ومع الحل السياسي لوضع مثل فلسطين والعراق، وبشكل عام. وهذا ميل ظهر في الماركسية نهاية القرن التاسع عشر مع بيرنشتاين، وبداية القرن العشرين مع تشكل الاشتراكية الديمقراطية، ولقد انتهى خارج الماركسية، وفي حضن الرأسمالية. لأنه كان ينطلق من ثلم حدة الصراع الطبقي مع الرأسمالية، وأشكال سيطرتها السياسية/ العسكرية، وبالتالي المناداة بالحل السياسي والمفاوضات. وربما كان ذلك ممكناً في أوروبا الرأسمالية حيث نزعت هذه الرأسمالية إلى عقد “المساومة التاريخية” مع الطبقة العاملة من أجل تحسين ظروفها المعيشية، وبالتالي حل المشكلات عبر التفاوض، لكنه لم يكن ممكناً في كل الأمم المستعمرة، وفي البلدان التي لم تتحقق فيها هذه “المساومة التاريخية”.
وهو الأمر الذي يطرح سؤال حول: كيف يحسم الصراع الطبقي مثلاً؟ وهل أن الصراع، كل صراع، يجب حتماً ألا يتخذ وجهة “عنيفة”؟ وهل نحن فقط الذين نقرر شكل الصراع؟ أليس من صراعات مفروضة، ليس في طابعها بل في شكلها كذلك؟
من حق الرفيق حميد أن يقرر الحل السياسي كخيار له ولـ “اليسار الماركسي العمالي”، لكن المسألة أعوص من ذلك. حيث أن الماركسي لا يمكنه أن يلغي شكلاً للصراع على هواه، وبرغبته الذاتية، وإلا تجاوز كونه ماركسياً ينطلق من وعي الواقع ووعي ممكنات التغيير فيه، إلا إذا قفز عن مسألة التغيير وقبل التكيف مع ما هو قائم كما فعلت الأحزاب الشيوعية تاريخياً، وكما يفعل الحزب الشيوعي العراقي راهناً.
هل تحرر شعب دون مقاومة؟ حتى الهند تحررت عبر المقاومة السلمية، وهي مثال “شاذ” لأنها لم تتكرر. وهنا أشير إلى أن المقاومة لا تعني العمل المسلح فقط، بل تعني كل أشكال النضال الشعبي، من أشكال الاحتجاج إلى التظاهر والإضراب، إلى العمل المسلح حينما يكون ذلك ضرورياً. وهو ضروري في مواجهة قوى الاحتلال بالترافق مع كل الأشكال الأخرى. هذه هي خبرة التاريخ، التي لا نستطيع تجاهلها. وهذا هو الموقف الماركسي المكرر تاريخياً.
إذن، الماركسية تقرر حق المقاومة المسلحة ضد الاحتلال (حتى الشرعة الدولية تقرر ذلك)، وتقرر ممارسة كل أشكال المقاومة في الصراع الطبقي. ومن يتجاهل ذلك يتجاوز منطق فهم الماركسية لمسألة التناقض، ولطرق حله. وكذلك لفهمها للصراع الطبقي وكيف يجب أن يتحول إلى ثورة من أجل الوصول إلى السلطة. هذه بديهيات في الماركسية، ويبدو أنها ليست بديهيات في مصطلحات “اليسار الماركسي العمالي”، الذي يميل إلى “الحلول السياسية”. وبالتالي يمكن انطلاقاً منها أن نشطب لينين من صفوفها، وكذلك ماركس، حيث أنهما طرحا المسألة القومية، ودعما مقاومة الاحتلال، حتى أن لينين أيّد “ملك الأفغان” وسعد زغلول. وإذا كان لم يسمع بذلك سابقاً فأرجو أن يشطبهما الآن من قائمة “اليسار الماركسي العمالي”.
هنا نختلف في عمق معنى الصراع الطبقي، وأيضاً الصراع القومي، رغم أن حميد يرتعش من سماع تعبير قومي لأنه يوحي له بالقوى القومية (وخصوصاً حزب البعث ودكتاتورية صدام حسين، التي أشاطره الموقف منها لكن ليس إلى حد الهوس الذي يفرض شطب المسألة الوطنية). حيث أن حل الصراع يتوقف على تحقيق تراكم في الطرف الذي يسعى إلى إلغاء الاضطهاد، أو إزالة الاحتلال. وهو تراكم في القوة مقابل القوة المحتلة. ولهذا، ولكي يصبح “اليسار الماركسي العمالي” “قوة فعالة” يجب أن يراكم في هذا المجال ضد الاحتلال. وإلا لا يكون قد فهم جوهر التناقض القائم، ورفض تنظيم صفوف الشعب للنضال ضد الاحتلال. هنا يكون الاحتلال، الذي يمثل مصلحة الشركات الاحتكارية الإمبريالية هو طرف التناقض الذي يجب أن نسعى إلى هزمه. لأن الشعب يحس بظلم المحتل، ويرى أن تناقضه هو معه، بغض النظر عن كل أشكال التشويش والتمويه، وإدخال أشكال الصراع العتيقة. وهو إذا لم يلمس المسألة منذ البدء فإن ممارسات الاحتلال تفرض عليه أن يلمسها، وبالتالي أن يتحول من مؤيد أو محايد إلى “مقاتل” ضد الاحتلال. هذا ما حدث ويحدث في فلسطين، وهذا ما حدث ويحدث في العراق، ويمكن أن يحدث في أي بقعة تتعرض للاحتلال. وهذه مسائل يمكن أن تلمس بالعين المجردة، وتلحظ في إطار تجريبي، ولأنها كذلك بنت الماركسية عليها أشكال صراعها، ولم تخترع هذه الأشكال من ذهنيات “مثقف منعزل”.
الصراع أس الجدل المادي، وهو صنو التناقض. والشكل المسلح له هو جزء من طبيعة فهم التناقضات وكيفية حلها. وبالتالي هو الأساس، أما الحل السياسي فثانوي، ويخضع للممكنات القائمة. وأصلاً فإن تطوير الصراع يهدف إلى الوصول إلى حل سياسي، لكن عبر تغيير ميزان القوى، العسكري في ظل الاحتلال.
حول طبيعة المهمات:
من كل ما سبق نلحظ بأن العزيز حميد قد قسم المهمات إلى مهمات برجوازية (وبالتالي قومية) وأخرى عمالية، ووضع حاجزاً إسمنتياً غليظاً بينهما. رغم أنه تاه بين المهمات ومن يحققها، لهذا نجده يشير إلى أن اليسار الماركسي العمالي يمتلك برامج ورؤى واضحة لحل أي قضية، لكن دون أن يحدد القضايا التي على هذا اليسار حلها، فنحن هنا لا نتكلم في المجردات، حيث كان الحديث هو عن فلسطين والعراق، فهنا توجد مسألة وطنية وهنا توجد مقاومة.
فحميد ينتقد “اليسار القومي” أو يرفضه (واليسار القومي هو نحن الماركسيين) لأنه “وضع حل المسألة الوطنية والقضايا القومية على رأس جدول أولوياته السياسية، في إطار أهدافه الديمقراطية”. هل في ذلك عيب؟ أم هل أنه بذلك يخالف الواقع؟ أليس لأن المسألة الوطنية، التي تتحدد في الاحتلال، والقضايا القومية، التي تتعلق بتحقيق الوحدة القومية وحل مسألة الأقليات والقوميات المتداخلة مع العرب، وتحقيق التطور الاقتصادي والحداثة والدمقرطة والعلمنة، هي المسائل الجوهرية التي يطرحها الواقع؟ التي نعاني منها، والتي منها استمرار الأصولية عبر استمرار الوعي التقليدي، ومنها الطائفية، والتخلف الاقتصادي، ونشوء الدكتاتوريات؟ أيمكن أن تتحقق الاشتراكية في ظل الاحتلال مثلاً؟ أو ننتظر إلى حين زوال الاحتلال عبر الحل السياسي لكي نحقق الاشتراكية؟ وهل تتحقق الاشتراكية في مجتمع مخلّف، لازال دون صناعة أو حداثة أو علمنة؟
إن عجز البرجوازية عن حل هذه المسائل يفرض حتماً أن تلعب الطبقة العاملة دوراً أساسياً في تحقيقها، لأن تحقيقها الاشتراكية ليس ممكناً دون تحقيق هذه الأهداف. وبالتالي فإن بديل ذلك هو ترك الأهداف دون تحقيق، وترك الواقع بما هو عليه، لأن “اليسار الماركسي العمالي” خجل من تحقيقها، خشية أن يتلوث بلوثة قومية. أنا لست خجلاً، ولا أخاف من اللوثة القومية لأن الطبقة العاملة هي قومية قبل أن تكون أممية، أي أنها تحقق مهمات قومية في صيرورة سعيها لانتصار الأممية. وهذا اختلافها عن قومية البرجوازية. هذا ما ورد في “البيان الشيوعي” وليس قولي أنا. لهذا أشير إلى أن الطبقة العاملة باتت معنية بتحقيق المهمات الديمقراطية قبل مقدرتها على تحقيق الاشتراكية (ولقد فهم الرفيق حميد المسألة التي أطرحها بالمقلوب، حيث يشير إلى أنه وفق منهجية اليسار القومي “يتم تحويل مهمات حل هذه القضايا إلى البرجوازية”، ما أقوله بصفتي ممن ينعتون باليسار القومي هو أن هذه المهمات مهمات تحققها الطبقة العاملة، أي يجري تحويلها إلى الطبقة العاملة).
وهذا خلاف طويل في الماركسية، لكن بالتأكيد كان ماركس ولينين مع “اليسار القومي”، حيث اعتبرا بأن على الشيوعيين انجاز المهمات الديمقراطية (مثل الوحدة التي وضعها ماركس على رأس جول أعمال الحزب الشيوعي الألماني سنة1850 ، وحق تقرير المصير القومي المبدأ الذي تمسك به لينين، إضافة إلى تشديده على تحقيق المهمات الديمقراطية). وحده تروتسكي طرح غير ذلك، وهو ما يشبه ما يطرحه الرفيق حميد. وستالين طرح العكس، أي التسليم للبرجوازية لحل هذه القضايا. وأظن موقفي من هذا الحل واضح، حيث أنني لا أسلم للبرجوازية لأنني أعرف بأنها غير معنية بتحقيق هذه المهمات، لهذا أصرّ على أنها باتت مهمات يجب أن تحققها الطبقة العاملة، وبالتالي الشيوعيين. وهذا يوضح الخلاف بيننا: فهل تبقي هذه المهمات دون تحقيق أم ننتظر من البرجوازية تحقيقها؟ وأجيب بأنه يجب أن نقوم نحن بتحقيقها، لأن تحقيقها هو الخطوة الضرورية لتحقيق التطور وصولاً إلى الاشتراكية. وبالتالي يجب أن نخوض نحن المقاومة في كل البلدان المحتلة، وأن ندعو لتحقيق المسألة القومية، وأن نسعى للوصول إلى السلطة من أجل تطوير الصناعة وتحقيق الحداثة، وقبلها ومعها، الوحدة والاستقلال. المقاومة بكل أشكالها شرط أساسي في مواجهة الاحتلال، وتطوير الصراع الطبقي ضرورة من أجل إسقاط النظم القائمة. وهذه هي الوسائل التي تحوّل الشيوعيين إلى قوة فاعلة، وتوصلهم إلى أن يصبحوا هم السلطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى