عدالة دولية: أين المفارقة!؟
عبد الحسين شعبان
هل يمكن الاستعانة بنظام محكمة روما لرفع دعوى ضد الجناة الاسرائيليين لما ارتكبوه في غزة من جرائم؟ وما السبيل الى ذلك؟ وما هي الآليات التي يمكن اعتمادها؟ وقد سعت منظمات حقوقية وسياسية مؤخراً باعلان انضمامها الى حملة مقاضاة المرتكبين الاسرائيليين. ولعل أسئلة كثيرة أثيرت حول حيثيات نظام محكمة روما، ولماذا لم توقع أو تصدق عليه سوى 3 بلدان عربية هي الاردن وجيبوتي وجزر القمر؟
وقبل الاجابة عن العديد من الاسئلة المهمة، لاسيما وقد شغلت الاعلام منذ العدوان على غزة وحتى الآن، وكانت منذ زمن ليس بالقصير، ولعله يزيد على 60 عاماً دون إجابات عملية، بحيث تستطيع العدالة الدولية جلب المتهمين الى قفص الاتهام، وهنا لا بدّ من معرفة نظام المحكمة وفحص أسلوب عملها واختصاصاتها.
في تموز (يوليو) 2002 بدأ العمل بنظام المحكمة الجنائية الدولية، بعد مصادقة 60 دولة، مثلما جرى اعلان ذلك في نيويورك في مقر الامم المتحدة. والمحكمة التي تأسست في روما في العام 1998، اتخذت من لاهاي مقرا” لها.
وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية( International Criminal Court ICC) أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الانسانية وجرائم إبادة الجنس البشري. فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الانسان، بما توفّره من إقرار الدول الموقعة عليها وبالتالي المجتمع الدولي مبدأ العدالة الشاملة وعدم الافلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطيرة بحق الضمير الانساني على المستوى الدولي.
ان وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الاشخاص دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية، أمر في غاية الاهمية في تطور الفقه والقضاء الدولي على الصعيدين النظري والعملي. لكن وجود مثل هذا القضاء لا ينفي ولا يلغي مسؤولية القضاء الوطني بل يعني التعاون بينه وبين القضاء الدولي، خصوصاً بشأن الجرائم التي ورد ذكرها، بالتوقيع والمصادقة على النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتطلب تعزيز كفاءة القضاء الوطني من جهة وتفعيل وتنشيط فكرة السيادة القضائية بأبعادها الدولية من جهة اخرى، ليس كنقيض للسيادة القضائية الوطنية، بل كحقل واحد للعدالة.
ويمكن القول ان العلاقة بين النظام القضائي الدولي والنظام القضائي الوطني “هي علاقة تعاون وتكامل وليس علاقة تنافر أو تعارض”. وهي الدعوة التي يمكن توجيهها الى الانظمة القضائية العربية للتعاون مع الانظمة القضائية الدولية المنبثقة من نظام محكمة روما والتسريع بالتوقيع والمصادقة، وهو ما يقتضي الامر مواءمةَ وتكييفاً للتشريعات الوطنية مع التشريعات الدولية، خصوصاً عندما تنضم الدولة أو تصبح طرفاً من اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.
ولعل هذا الأمر لا يقتصر على الاعتبار الاكاديمي، بل هناك اعتبارات قانونية وسياسية، إضافة الى الاعتبارات الانسانية والحقوقية التي تتطلب دراسة معمقة، سواءً ما له علاقة بالقانون الدولي الانساني وحقوق الانسان، أو تأثيرات الحروب واعمال العدوان التي حفلت بها الساحة الدولية، وبخاصة بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية وما تبعها من غزو افغانستان واحتلال العراق وانعكاسات ذلك على مجمل نظام العلاقات الدولية، فضلاً عن تأثيراته على النظام القضائي الدولي، لاسيما بعد ما حصل من أعمال مشينة في سجن ابو غريب في العراق وسجن غوانتنامو وكذلك في السجون السرية الطائرة في اوروبا والسجون العائمة، التي اظهرت مدى الاستخفاف بحقوق الانسان وبنظام العدالة الدولية.
ان جعل ولاية هذا القضاء دائمة سيعطيها فرصة الملاحقة عن الجرائم وانزال العقاب بمرتكبيها، علماً بأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. ومع ان العديد من الدول الكبرى بما فيها بعض اعضاء مجلس الامن الدولي الدائمين، عارضوا انشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية او تحفظوا عليه او لم يصادقوا حين وقعّوا، الاّ ان انشاء المحكمة ودخولها حيز التنفيذ، رغم المعارضات الشديدة وبعض النواقص المهمة في نظامها الاساسي، يعتبر بحد ذاته أحد التطورات المهمة في بداية هذا القرن وأحد تحدياته المستقبلية الكبرى.
لقد سعت الولايات المتحدة الى معارضة تأسيس محكمة دولية جنائية دائمة الاّ انها فشلت في ثني المجتمع الدولي عن المضي في هذا الطريق، فاضطرت الى التوقيع في اللحظات الاخيرة قبيل اغلاق باب التوقيع في يوم 31/12/2000 لكنها بعد ذلك إمتنعت عن التصديق، وأعلنت ان من غير المطروح ان يتم صرف “دولار واحد” من موازنة الامم المتحدة لتمويل المحكمة.
وقد عبّر السفير الاميركي لشؤون جرائم الحرب السيد ريتشارد بروسبر عن معارضته الشديدة تلك امام لجنة من الكونغرس وذلك حين قال “ان الولايات المتحدة لا يمكنها ان تدعم محكمة لا تملك الضمانات الضرورية لمنع تسييس العدالة”، ثم قامت الولايات المتحدة بخطوة غريبة، حين أعلنت انسحابها من معاهدة روما في رد فعل غاضب يعكس حراجة الموقف الاميركي (12 نيسان 2002)، خصوصاً وان دول الاتحاد الاوروبي كانت داعمة لتأسيس محكمة روما.
وتعتقد واشنطن ان من الافضل في كل الحالات اعتماد الهيئات القضائية الوطنية لمحاكمة جرائم الحرب ومساعدتها إنْ اقتضت الضرورة للقيام بمهماتها، وان لم يتسنَ ذلك فمحاكمة مثل محاكمات يوغسلافيا ورواندا تصبح ممكنة وولايتها محدودة وزمنها مرتبط بحدث محدد وبقرار محدد.
والأنكى من ذلك ان الولايات المتحدة بعد احتفالية الامم المتحدة بدخول معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ بتصديق 60 دولة عليها (نيسان)2002، أقدمت على خطوة انفعالية بسحب توقيعها من المعاهدة في محاولة لاضعاف دور المحكمة الجنائية الدولية بعد ان سعت في البداية لعدم انشائها، ثم وقعت عليها لكي تساهم في وضع قيود وعراقيل في نظامها الاساسي تمنع انسحاب صلاحياتها واختصاصاتها على الحاضر ووضع سبع سنوات لامكانية الملاحقة وغيرها، ثم عادت واعلنت سحب توقيعها.
ورغم مرور اكثر من عشرة اعوام على إنشاء نظام المحكمة، فإن روسيا هي الاخرى لم تصدق عليها، في حين انّ الصين لم توقعها أصلاً. ويعود أحد الاسباب لهذه المواقف هو الانتهاكات الصارخة التي حدثت في الشيشيان وكذلك في التيبت، اضافة الى سجل حقوق الانسان في كلا البلدين.
وكانت اسرائيل من الدول التي عارضت انشاء المحكمة ولكنها اضطرت للتوقيع عليها عشية اغلاق باب التوقيع ولم تصادق عليها، خصوصاً في ظل الدعوات الدولية التي تصاعدت لمحاكمة شارون واعتباره “مجرم حرب”، ليس لأعمال ارتكبت في الماضي بما فيها صبرا وشاتيلا، بل نظراً للجرائم المستمرة بحق السكان المدنيين العزّل في جنين ونابلس ورام الله وغزة والعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها محاصرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حتى رحيله وعدد من المقاومين الفلسطينيين في كنيسة المهد، فضلاً عن تدمير البنية التحتية وهدم المنازل والقتل العشوائي بما في ذلك للاسرى والاصرار على بناء جدار الفصل العنصري وبالضد من اتفاقيات جنيف عام 1949، وبخاصة الاتفاقية الرابعة وملحقها البروتوكول الاول لعام 1977 بشأن “حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة”، وحتى بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية يقضي بعدم شرعية بناء الجدار، فإن اسرائيل لم تكترث لأي رأي قانوني دولي كما أنها لا تحترم قواعد القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة او قراراتها.
ولعل عدوانها على غزة واستخدامها الاسلحة المحرمة دولياً بما فيها الفسفور الابيض، باعتراف الامين العام للامم المتحدة بان كي مون، يعيد الى الأذهان الارتكابات السافرة لحقوق الانسان والقانون الدولي الانساني، الأمر الذي يجدد مرة أخرى موضوع الملاحقة القانونية للمرتكبين الاسرائيليين والآليات المتاحة لذلك ويجعلها أكثر راهنية وإلحاحاً.
واذا كان موقف اسرائيل مفهوماً، فإن غير المفهوم هو مواقف الدول العربية باستثناء الاردن وجيبوتي وجزر القمر التي لم تصدّق نظام المحكمة الجنائية الدولية، كما لا تزال 8 دول عربية خارج نظام التوقيع، أليس في الامر غرابة أو مفارقة أو التباس، بل وعدم قدرة على فهم طبيعة الصراع الدولي وبالتالي ايجاد مواقف متوازنة، منسجمة مع التطور الدولي من جهة ومن جهة اخرى حماية مصالح دولنا وشعوبنا والاستعداد للتعاطي مع المتغيرات والمستجدات، وتوظيفها بشكل مناسب خدمة للمصالح العربية والاسلامية العليا.
وتظل هذه المسألة تثير تساؤلات كبيرة حول جدية الحديث عن العدالة الدولية بالنسبة للعديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي أعيد طرحه ما بعد العدوان على غزة!! ولذلك ظل التفكير باقامة نظام قضائي دولي يؤمن محاكمة مرتكبي الجرائم على نحو قانوني أمراً في غاية الاهمية، مع انه مسألة صعبة المنال في الوقت الحاضر، لاسيما في ظل هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي، رغم انها ليست مستحيلة، لكن حلم العدالة الدولية يبقى قائماً طالما هناك انتهاك للحقوق وتجاوز على الحريات، من منظور العدالة الدولية، وهو ما كان موضوع حديث معمّقاً ومهنياً في إطار ندوة أقامها مركز الدراسات القانونية والقضائية في الدوحة مؤخراً، لبحث آليات وسبل ملاحقة مرتكبي الجرائم الاسرائيليين، والذي هو بحاجة الى جهد جماعي ومعرفي متخصص وباحثين متفرغين ودعم مادي ومعنوي وإشراك منظمات المجتمع المدني، واستراتيجية طويلة المدى على جميع المستويات السياسية والقانونية والدبلوماسية والاعلامية وغيرها.
() كاتب وحقوقي عراقي