صفحات ثقافية

‘مليونير العشوائيات’ على طريق مرصع بالجوائز: تنويعات على القدر والمكتوب وأحلام المهمشين والفقراء

null
د. عماد عبد الرازق
أهم ما يميز فيلم ‘مليونير العشوائيات ”Slumdog Millionaire’ او ‘مليونير مدن الصفيح’ أنه يغترف من تراث بوليوود، ويحتفي بهذا التراث ليعيد إنتاجه في قالب درامي مشحون بالمشاعر الانسانية، ومترع بالدلالات والمفارقات الدرامية والاجتماعية المضحكة المبكية، على نحو يترك المشاهد مشدوها، ومتوحدا بأبطاله القادمين من أسفل قاع المجتمع في مومباي، عاصمة بوليوود، والتي صارت اليوم عاصمة المال والأعمال الهندية.
ذهبت لمشاهدة الفيلم تسبقني إليه سمعة طنانة وإشادات نقدية وحفنة من الجوائز حصدها بدءا من ‘الغولدن غلوب’ الى رابطة مخرجي السينما، ورابطة المنتجين، وممثلي الشاشة (لأفضل فريق تمثيل متجانس)، فضلا عن حفنة أخرى من الجوائز تنتظره ليلة الأوسكار. لكنني رغم ذلك لم أستبعد كلية أن يكون الفيلم تنويعا على الوجبة الرئيسية للسينما الهندية الحافلة بقصص الميلودراما الغنائية الراقصة دون أن نغفل النهايات السعيدة. لم يكن الفيلم هكذا على وجه التحديد، لكنه من ناحية أخرى لم يتنكر لهذا التراث وإنما استند إليه في إعادة إنتاج خلطة سينمائية جديدة تستجيب أكثر للذائقة العالمية وبالأحرى ‘العولمية’، خاصة وأنه إنتاج أمريكي بإخراج بريطاني لقصة من صميم الواقع الهندي.
هناك اولا المرتكز الرئيسي الذي تنطلق منه أحداث الفيلم ويعمل كذريعة درامية بارعة تستدرجنا إلى حبائل القصة الإنسانية الآسرة، ونعني النسخة الهندية لـ’من يريد أن يصبح مليونيرا’ البرنامج التليفزيوني العولمي بجدارة، الذي أعيد إنتاجه بعشرات اللغات حول العالم، ولكن بنفس القالب والبناء المشهدي للنسخة الأصلية (أحد شروط الشركة مالكة حقوق البرنامج). والمذيع الذي يقدم البرنامج، نموذج آخر للاستلاب للثقافة الغربية، سواء في حرصه على تحدث الانكليزية بلهجة بريطانية مصطنعة، وهي في حد ذانها سمة تعكس حرصه الشديد على التنصل من ماضيه الفقير البائس، وهذا بالضبط هو الشيء الوحيد الذي يجمعه مع بطل الفيلم ‘جمال’، الذي نجح في اختراق كل العقبات التي تحول دون وصول الملايين الى التصفيات النهائية للمسابقة. وهذا أيضا هو ما يثير حنق المذيع وذاته المتضخمة بفعل نجاح برنامجه الجماهيري، حين يرى ان ‘جمال’ أوشك على الوصول لنهاية المسابقة والفوز بجائزتها الكبرى، فيقول في أحد المشاهد إن هناك شخصا واحدا فقط فعل ذلك من قبلك ‘جمال’ هو أنا. (موقف يكشف عن الحقد الدفين الذي يسكن أعماق المذيع وعجزه عن التصالح مع ماضيه حتى بعد أن تجاوزه بالنجاح والشهرة والثروة، وكأنه يرى في نجاح جمال المماثل انتقاصا من نجاحه وتقليلا من إحساسه بالتفرد الذي تحيا عليه ذاته المتضخمة). ولهذا يسعى المذيع قبل نهاية المسابقة الى الخلاص منه بإبلاغ الشرطة بأنه نجح بالغش، لكن مؤامرته تبوء بالفشل، إذ لم يجد ضابط المباحث الذي حقق معه دليلا يثبت غشه المزعوم فيعيده لاكمال المسابقة، وسط اهتمام إعلامي كاسح، ومتابعة ميليونية للبرنامج، وخاصة في أوساط الفقراء والمعدمين والطبقات الدنيا من المجتمع وما أكثرها في الهند.
يكشف الفيلم أيضا عن صور متناقضة للهند من خلال تسليط الضوء على مومباي بين الماضي والحاضر، فـ ‘جمال’ الذي نشأ في مقالب القمامة في حزام البؤس الذي يلف مومباي، يعمل ساعيا لتقديم الشاي ‘شاي والا’ بالهندية، في إحدى شركات العولمة العابرة للقارات في مجال الاتصالات توظف آلاف الهنود للرد على مكالمات المشتركين في أوروبا وامريكا، حيث يزداد هذا الاتجاه في الشركات الرأسمالية للتوظيف خارج الحدود أو ”OUTSOURCING، وهو مثال جدل كبير في أمريكا. وعمل ‘جمال’ في شركة الاتصالات هذه، هو نفسه ما يقوده بالصدفة الى ان يخترق العوائق ويصل الى مقعد المتسابق في برنامج المليونير.
يستخدم سيناريو الفيلم اسلوبا حاذقا ومشوقا لرواية الأحداث، فينتقل طوال أكثر من ساعتين بين الحاضر والماضي، بين بث البرنامج التلفزيوني وبين تحقيق الضابط مع البطل، ليعود بنا الى طفولته ثم يرتد الى صباه، ومن جديد الى الحاضر القريب. كما يتنقل الفيلم في لقطات سريعة ومتتابعة بين الملايين من مشاهدي البرنامج في المنازل والشوارع والمقاهي والساحات العامة التي يتحلق الفقراء فيها حول التليفزيون. هذا البناء المتوازي المتتابع المتلاحق لأحداث الفيلم هو ما يصنع توتره الدرامي المثير اللاهث، وينجح في أسر المشاهد طوال الوقت.
الحياة أعظم مدرسة
يتوسل الفيلم باستخدام نجاح ‘جمال’ في الوصول الى مقعد المتسابق في برنامج المليونير ليقص علينا قصة حياته. فكل سؤال أجاب عليه الشاب الفقير الحاذق، كانت اجابته مرتبطة بحادثة او واقعة مرت به في حياته البائسة. سؤال عن نجم السينما الهندية الشهير أميتاب باتشام، يردنا الى طفولة البطل حين هبطت مروحية ‘باتشام’ في حي الصفيح الذي كان يقطنه ‘جمال’ يهرع مئات الأطفال والصبيان لاستقباله والفوز بتوقيعه على إحدى صوره.
واقعة محفورة في ذاكرة البطل ليس فقط لهوسه بالنجم الهندي، وإنما لأن حظه العاثر شاء في هذا اليوم ان يكون محبوسا داخل مرحاض عمومي في وسط صحراء الحي العشوائي وقد أغلق بابه من الخارج، بعد ان هرع الجميع لاستقبال باتشام، فلا يجد ‘جمال’ أمامه من مخرج سوى القفز الى ‘مجرور’ المرحاض ليخرج من الناحية الثانية ويهرع مندسا بين الجموع وقد غطى جسده كلية بالبراز وتفوح منه رائحة بشعة، لكن كل هذا لا يمنعه من الاندساس وسط الجموع حتى يصل الى باتشام الذي يوقع له على الصورة. سؤال آخر عن صورة الرئيس الأمريكي المرسومة على ورقة المئة دولار، تقوده الى أول مئة دولار تحصل عليها في حياته، من سائح أمريكي وزوجته أشفقا عليه حين انهال عليه شرطي هندي ضربا مبرحا، بعد أن سرق رفاقه من الفقراء سيارة السائح.
نفس هذه المئة دولار يمنحها ‘جمال’ لأحد رفاق طفولته وقع ضحية لبلطجي يدير ‘مصنعا للعاهات’ حيث يقوم باستدراج الأطفال بالمال والحلوى الى مكمن عصابته، وبعد تخديرهم يقوم بإحداث عاهة لهم (كفقء عين، أو بتر ساق أو ذراع) لجبرهم بعد ذلك على التسول والعودة بمحصولهم اليه مقابل بضع دراهم يعطيها لهم.
نفس هذا المصير كان يمكن ان يكون مصير ‘جمال’ لولا أن أخاه ‘سليم’ أفاق ضميره فجأة وهرب بهم من الفخ الرهيب، وكانت ثالثتهم في ذلك الوقت’ لاتيكا’ الفتاة التي احبها ‘جمال’ منذ أن انضمت اليه وأخيه في كوخهم ذات ليلة ممطرة باردة في حي الصفيح، وظل يبحث عنها طوال الفيلم، وكلما وجدها اضاعها ‘القدر’ منه، أو ذلك ‘المكتوب’ التيمة الهندية – وبالأحرى الشرقية – التي يتردد صداها طوال الفيلم.
هذه هي الرسالة النبيلة التي يحملها الفيلم في ثناياه، وتمثل القيمة الأخلاقية الأبرز في قصة حافلة بتيمات معروفة (بل ومستهلكة) في السينما الهندية، إلا أنها هنا مقدمة في معالجة مشوقة ومبتكرة، ومترعة بالدلالات. فـ’جمال’ البائس الذي لم يتلق أي تعليم ولا دخل اي مدرسة، تعلم في مدرسة الحياة، وكل المعلومات التي تحصل عليها واستخدمها في إجاباته على أسئلة البرنامج، تحصل عليها من هذه الخبرة الحياتية المكتظة بالمآسي. وفي هذا نوع من العدالة الشعرية النبيلة تمثل عزاء ولو بسيطا للمعذبين في الأرض من أمثال جمال.
يحسب للفيلم أيضا كشفه التناقضات الصارخة في المجتمع الهندي، بين الفقر المدقع والثراء الفاحش. فحي اكواخ الصفيح الذي كان الأطفال يقطنونه في بداية الفيلم يقع على مقربة من ‘تاج محل’ مفخرة الهند السياحية، لكن علاقة أطفال الشوارع بهذا الأثر الذي يعد من علامات الهند الفارقة وإحدى عجائب الدنيا السبع، معدومة وكل ما يبقى في ذاكرتهم منها شقاوتهم الطفولية سواء في التسول من السياح او سرقة ممتلكاتهم، أو التقاط الصور لهم، او التظاهر بانهم مرشدون سياحيون في سبيل الفوز ببضع دولارات. ولا يبدو ان هذا الأثر يعني لهم أي شيء على الاطلاق، وهم المطحونون في مستنقعات الفقر والبؤس والجوع والمرض وبأبشع أنواع الاستغلال، فضلا عن التوترات العرقية الدموية بين المسلمين والهندوس، والتي نرى عينة من تبعاتها المأساوية في بداية الفيلم.
هناك أيضا تيمة سينمائية هندية مأثورة هي تيمة الأخوين اللذين تفرق بينهما ‘الأقدار’ في الطفولة، ويصبح أحدهما شريرا (غالبا مجرما او لصا او زعيم عصابة) والثاني خيرا (قد يكون ضابط شرطة او رجل أعمال ناجحا او سياسيا). التنويعة هنا أكثر ذكاء. الأخوان جمال وسليم ليس كل منهما شرا خالصا او خيرا محضا. فالأخ الشرير يستيقظ ضميره في نهاية الفيلم ويدفع ‘لاتيكا’ التي يحبها أخوه للهرب من فيلا مخدومه الثري الفظ الفاسد (شخصية نمطية مألوفة في السينما الهندية أيضا)، وكأنما أراد التكفير عما ارتكبه في حق أخيه، وفي حق فتاته حين اغتصبها بعد ان انتزعها من ‘جمال’ تحت تهديد السلاح. أما ‘جمال’ فيبدو مستعصيا على فقدان البراءة ويظل خيرا حتى اللحظة الأخيرة، بمثل تشبثه بحبيبة الطفولة على الرغم من ‘سقوطها’ الأخلاقي الذي دفعت اليه دفعا على أيدي أباطرة العالم السفلي في مومباي، وهو ذاته ما يثير دهشة الجميع بمن فيهم أخوه، حتى ‘لاتيكا’ نفسها تحاول ان تقنعه بالكف عن ملاحقتها وقد دفعت الحياة كلا منهما الى طريقين لا يلتقيان، حتى تشبثه بحبها ترد عليه بالتساؤل ‘وماذا بعد’؟
النهاية السعيدة، والتقاء شمل الحبيبين، وانتصار الخير الحتمي على الشر رغم كل العقبات والمستحيلات التي تضعها الأقدار في طريق الأبطال، والهوس الجماهيري بنجوم السينما والتليفزيون، كلها تيمات مألوفة في السينما الهندية.
الموسيقى التصويرية من أجمل عناصر الفيلم وأجودها تواكب الحدث طوال الوقت من ذرى الميلودراما المتعددة، إلى صخب المدينة الحافل بالتناقضات من الأحياء التجارية وملايين الساعين الى اعمالهم في وسائل المواصلات في الشوارع الخانقة، إلى حي الدعارة المكتظ، الى لحظات الاثارة والتوقع، وفراق العشاق ثم اجتماع شملهم، ليعاودوا الفراق من جديد فتبتلعهم أحشاء المدينة بقساوتها وانشغالات أهلها وسعيهم المحموم اللاهث من أجل لقمة العيش. حتى الرقصة الختامية التي وإن بدت مقحمة على نسيج الدراما وغير متولدة منه بالضرورة، وأقرب الى الزائدة ‘الميلودرامية’، لكنها تأتي كتتويج لفرحة الحبيبين بلقائهما الأخير دون فراق هذه المرة، وهي تجمع بين كونها جزءا أصيلا من تقاليد السينما الهندية الحافلة بالرقص والغناء، وبين تصميمها الغربي على إيقاعات هندية صاخبة، في مزيج يشي بتلاقح الثقافات والتقائها الذي كثيرا ما يراه البعض أحيانا مستحيلا بين الشرق والغرب، ويظل هذا التلاقح بالذات من مميزات العولمة القليلة.
ناقد من مصر يقيم في واشنطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى