الشعر السويدي والفرد المعزول في الثلج والظلام
دمشق – ابراهيم حاج عبدي
تتعرض الانطولوجيا الشعرية (المختارات) للانتقاد، غالباً، ويتحجج المنتقد بأن المختارات تخضع لذائقة المُعِد، ولذائقة المترجم، كذلك، إذا كانت المختارات مترجمة. وعلى رغم انطواء هذا الكلام على حقيقة تتفاوت من مختارات إلى أخرى، فإن المختارات، ومهما بدت مزاجية، وعشوائية، فإنها تقدم لمحة عن المشهد الشعري في هذا البلد أو ذاك، وتتيح للقارئ فرصة التعرف على أحوال الشعر في اللغات المختلفة. بهذا المعنى، فإن «انطولوجيا الشعر السويدي» التي صدرت عن دار المدى (دمشق – 2009) تسهم في تعريف القارئ بمزاج الشعر في بلد قصي، كالسويد، عبر «إطلالة من حواف النهائي»، بتعبير الشاعر والروائي سليم بركات الذي قدّم للمختارات، وراجعها بعد الترجمة.
تضم المختارات 21 شاعراً وشاعرة، وُلِدوا باستثناء اثنين، في مطالع النصف الثاني من القرن العشرين. ووفقاً لذلك، فإن هذه الانطولوجيا تغطي المرحلة الممتدة من سبعينات القرن الماضي، وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة. وتأسيساً على هذا التصنيف التاريخي، فإن القارئ لن يعثر في هذه الانطولوجيا على أسماء لشعراء سويديين حققوا حضوراً، ليس، فقط، على مستوى بلدهم السويد، بل، كذلك، على المستوى العالمي، مثل بير لاغركفست، وايديث سودر غران، وهاري مارتنسون، وغونار ايكيلوف، وكارل فينبيرغ، وروت هيلارب، وتوماس ترانسترومر، وايريك بيكمان، ويوران سونفي… وغيرهم.
سنسمع، هنا، الأصوات الشعرية التي برزت في العقود الأربعة الأخيرة، في محاولة لإعطاء «صورة واضحة الملامح عن الشعر السويدي» خلال الفترة المذكورة، بحسب ما يقول المترجمان جاسم محمد، وإبراهيم عبدالملك اللذان استعانا، في اختيار الشعراء، بالشاعر السويدي ماغنوس ويليام اولسن الذي خص هذه المختارات بمادة نقدية لافتة، أدرجت كخاتمة.
وفي ظل تزايد عدد الشعراء في السويد بما يفيض عن أي انطولوجيا، مهما بدت شاملة، فإن الاختيار وقع على الشعراء الذين «تمثل تجاربهم علامات دالة على أبرز معطيات المشهد الشعري السويدي «الحديث»، وتدلل على خصائص هذا الشعر وأغراضه وملامحه. وفي حين ينفي المترجمان أن يكون «للذوق الشعري الشخصي» الدور الحاسم في الاختيار، ويقرّان، كذلك، بأن هذه الانطولوجيا «غير وافية تماماً»، فإنهما يشيران إلى معايير جرى اعتمادها لإنجاز هذه الانطولوجيا وتحريرها: «تميز الصوت الشخصي للشعراء المختارين، وخصوصية الأسلوب، والتجربة الأدبية، وحضور الاسم والاتفاق عليه في الساحة الشعرية السويدية»، خصوصاً ان معظم الشعراء، هنا، قد منحوا جوائز أدبية عدة.
وإذا كانت ترجمة إبداعات لغات سائدة، كالانكليزية مثلاً، لا تشكل مناسبة ثقافية نادرة، فإن هذه الصفة الأخيرة تنطبق على ترجمة الشعر السويدي التي تكاد تكون استثناء. وتنبع أهمية هذه المختارات التي تعانق اللغة العربية من دون لغة ثالثة؛ وسيطة، لكونها قادمة من بلد ناء، ومن لغة لا ينطق بها سوى تسعة ملايين (عدد سكان السويد). ولم يؤثر ذلك في حركة الترجمة من السويدية إلى لغات أخرى فحسب، بل كذلك فرض على الناطقين بها هواجس وأساليب محددة، إذ «توجّب على كتّاب هذه اللغة الصغيرة طلب الإلهام لدى كتاب لغات أخرى»، كما يذهب أولسن.
السويد بلد أوروبي، اسكندينافي، لم يعش معارك ونزاعات، ولم يخض الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت الدول الأوروبية تخرج من رماد الحرب منهكة، كانت السويد تتباهى برخائها، ورفاهيتها، وخصوصاً في العقود الأخيرة، غير أن عزلة سلبية رافقت هذه الحياة الرخية؛ الهانئة.
السويد كانت بعيدة، في رفاهيتها، عن السجالات والنزاعات والمعارك التي كانت تشهدها العواصم الأوروبية القريبة مثل لندن وباريس وبرلين، ولعل كل ذلك منح الشعر السويدي مذاقاً خاصاً، ذلك أن النص الإبداعي يزدهر في مناخ مأزوم ومضطرب. أما في مناخات الهدوء، فثمة نبرة مغايرة، أو بتعبير بركات: «هدوء ذو أجراس هائلة تقرع في مكان ضيق: في العظام»!
الفترة التي تغطيها هذه الانطولوجيا شهدت نشوء «ما بعد الحداثة» في السويد، وتطورها والانقلاب عليها أيضاً، وظهرت، خلال ذلك، أصوات نافرة ومتمردة، وتبلور هذا الاتجاه بعد «سقوط جدار برلين»، وهو تعبير رمزي عن تحول أصاب القارة الأوروبية، وأحدث شرخاً واسعاً بين الأفكار والأحلام وبين الممارسة العملية، بل انه هدم القناعات المطمئنة! انعكس كل ذلك على النتاج الأدبي في السويد، وتعددت الأفكار، والمنابع التي يستقي منها الشاعر السويدي فحوى قصيدته. في هذه القصائد نصغي إلى أصوات «متعددة الاتجاهات، والعقائد، والأيديولوجيات التي أثّرت في الشعراء الباحثين، أساساً، عما يميز تجربة كل منهم عن أبناء جيله، وتحميه من صفة تقليد سابقيه». اختلفت الأساليب حد الهوس، ونشبت صراعات بين من يؤيد هذا الاتجاه، وبين من يؤيد سواه، فجاءت القصيدة انعكاساً لهذا الانقسام، وهذا التعدد. يكتب بركات الذي يقيم منذ أكثر من عقد في السويد: «كثير من الهمس. كثير من براعة النطق همساً، أو الصخب باعتدال»، ويضيف مستخلصاً مضامين القصائد: «لا نزعة، في الكثير من هذا الشعر، إلى تدوين يقينه الفاره، المتكتم، ككسب لـ «الشاسع». إنه يضيِّق حوامات الماء على مركز لا يتسع لأكثر من ذات في غرفة كونية، تلقي، من النافذة، نظرتها على المحدود، الصغير، المحير – أعني أعماق الشاعر بلا تزويق، أو بتزويق».
إذا، نحن إزاء نصوص خافتة النبرة، تستطلع أعماق الشاعر، وتروي حكايته في بلد يقع على «حافة النهائي»، يعيش شجونه، ومباهجه بأناة، وصمت. قصائد الشعراء، هنا، متخففة من الايديولوجيا، وهي لا تبتعد كثيراً عن أفقها المحلي، وعن طبائع لغتها السويدية التي «تفتح بوابات القلب كلها» حينما تتحول شعراً، كما يقول أولسن الذي يرى ان «الشعر السويدي لم يكن إلا آخر العنقود، المتخلف عن الركب الأوروبي دوماً».
لا يمكن أن ننكر، طبعاً، أن ثمة من يولي اهتماماً بالقضايا الإنسانية الكبرى، ويدين بشاعة الحروب هنا وهناك، ويسجل موقفاً من قضية مثارة، غير أن السمة الطاغية تتمثل في البوح، والتداعيات الوجدانية، والتعبير عما يعانيه الفرد المنعزل في بيئة غارقة في الثلوج والأمطار والظلام لأشهر طويلة، وفي مدن تؤمّن لقاطنيها كل شيء باستثناء الإبداع.
من الشاعر برونو ك اوير الذي تتحرك «أشعاره، غالباً، في عالم سحري ليس فيه حدود واضحة بين الحلم واليقظة، بين الواقع والخيال»، إلى إيفا رونيفيلت التي «طورت أسلوباً تصعب نسبته إلى نزعة، أو موضة». ومن كاتارينا فروستنسون التي «تستخرج الكلمات من معانيها وتتركها تولد من جديد تحت حماية تعبيرها الشخصي، طارحة أسئلة وجودية عن الكيان الإنساني»، إلى الشعر الفلسفي العميق لدى اولف ايركسون، الذي يبرع في الإشارة الضمنية والتلميح. ومن الحساسية البالغة لمستويات معاني اللغة لدى آن يادرلوند، وصولاً إلى ماغنوس ويليام اولسون، وماري لوندكفيست، وبتر ليندغرين، ويوهانس آنيورو، ويني توندال، ودافيد فيكغرين… وسواهم، يجد القارئ نفسه مدعواً لوجبة شعرية عامرة.
هذه المختارات تحاول اختزال الخريطة الشعرية في بلد يعد مثالاً نموذجياً للديموقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الفرد… ولكن يبدو أن أماني الشاعر، وتطلعاته تتجاوز هذه «الإجراءات الحضارية»، فيعود إلى ذاته الهشة؛ الجريحة ليطرح الأسئلة المشتركة، ذاتها، في كل زمان ومكان، فهل ثمة فارق كبير بين شاعر سويدي، وآخر أفريقي، وثالث عربي أو ياباني؟
الحياة