الأدب والكراهية
عبده وازن
لا يحتاج أدونيس الى مَن يدافع عنه إزاء القصيدة التي هجاه بها سعدي يوسف وعنوانها «رمل دبي»، ولا يحتاج سعدي بدوره الى مَن يردّ عليه، فهو يدرك جيداً لماذا يهجو وكيف. ولست – شخصياً – في موقع الدفاع عن أدونيس ولا الردّ على سعدي، لكنني كقارئ لا أستطيع أن أتجاهل هذه القصيدة، مثلي مثل القراء الآخرين الذين سيقفون حائرين أمامها. ولو لم يوقع سعدي القصيدة بإسمه وينشرها في موقع «كيكا» الالكتروني، لكان يمكننا قراءتها كمزحة شعرية مثل المزحات التي درج الشعراء على ارتكابها ضمن ما يُسمى «الأخوانيات» ولو ندّت عن كراهية.
هذه القصيدة التي تبلغ شأوها في اللؤم والسخرية والتي تتخطى فن الهجاء وضروبه، تمسّ الآخر أو المهجوّ بشخصه وترمي عليه تهمة «النخاسة» الحديثة، وكأن أدونيس ليس بشاعر بل رجل أعمال «يقلّب في دارته الباريسية/ أوراقاً ناعمة/ وحسابات مصارف». لو لم يكن سعدي يوسف هو مَن يقول هذا الكلام المقذع لأمكن الإغضاء عن القصيدة، فأعداء أدونيس كثر مثلما أصدقاؤه كثر… ولكن أن يكون سعدي من أعداء أدونيس فهذا أمر ليس مبرّراً ولا مقنعاً ما يكفي. فواحدهما يختلف عن الآخر وعالم أدونيس بعيد تماماً عن عالم سعدي، ولكلّ منهما موقعه في الريادة، وإن كان أدونيس بلغ مرتبة عالمية لم يبلغها قبله إلا جبران. فأعماله باتت مترجمة الى لغات كثيرة واسمه يطرح كلّ سنة في مفكرة لجنة نوبل.
لم تكن العلاقة بين الشاعرين لتخلو من بعض الحسد الذي يظل مُضمراً بحسب العادة، لكنّ هذا الحسد انفجر فجأة – على ما بدا – واستحال بغضاً وكراهية وحقداً… وهذا لم يُعهد لدى سعدي الذي لم يتورّع عن وصف أدونيس بـ «النخاس السوري». كان سعدي حتماً في احدى «تعتعاته» التي كثيراً ما دفعته الى ارتكاب الهفوات، وإحداها ادعاؤه مرّة بأنه هو الذي كتب رواية أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد». ولم يرمِ سعدي هذه «الفتنة» إلا بعدما راجت الرواية وتبوأت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً طوال أعوام. أما العجب العجاب فهو أن ينسى سعدي أو يتناسى أنه تسلّم في دبي مئة ألف دولار عندما فاز بجائزة العويس، وراح يقلّب تلك الأوراق الناعمة بأصابعه. ونسي أو تناسى أنه صعد الى المسرح، في الاحتفال الذي أقامته مؤسسة العويس في أحد فنادق دبي، وعلى صدره علم الامارات… وقد تناسى أيضاً كيف جاء الى قطر قبل عامين في طريقة شبه سرية ليشارك في ندوة يتقاضى منها مبلغاً وفيراً، وكاد مجيئه يحدث مشكلة سياسية بعد تهجمه على الشيخ زايد رئيس دولة الامارات غداة رحيله، ما اضطر مؤسسة العويس الى سحب الجائزة منه معنوياً وليس مادياً طبعاً.
كان في امكان عبدالوهاب البياتي، «الشاعر الشتام» كما كان يُسمى، أن يصف نزار قباني بـ «شاعر الغلمان والجواري»، وكان في مقدور نزار أن يسخر من شعراء قصيدة النثر ولا سيما الشعراء الشباب. وكان مقبولاً من محمد الماغوط أن يطلق التهم جزافاً وبحسب ما يسمح له مزاجه المتقلب… كل هذه «الصفات» (لئلا أقول الشتائم) كانت لتُحتمل، لا سيما اذا أدرجت في ما يسمى «معارك» الشعراء التي طالما عرفها تراثنا العربي والتراث العالمي. أما أن يصبح الهجاء ضرباً من التشهير المغرض الذي يؤذي الشاعر المهجوّ وينال من صورته الشخصية ويحطّم هالته التي أمضى عمراً ينسجها… فهذا شأن يأنف الشعر منه وكذلك الشعراء وإن كانوا على خصام أو عداء. بل إن السقوط الى هذا الدرك من التشهير الشخصي نادراً ما شهده المعترك الأدبي عندنا، ويمكن هنا استثناء حملات التخوين والوشاية التي قام بها بضعة كتّاب هم مخبرون وعسس، ضد رفاق لهم في «المهنة»… وقد أودوا ببعضهم الى الموت.
أتذكر ما قاله الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو في هذا الصدد: «ليس من أحقاد حقيقية سوى أحقاد الكتّاب. الأحقاد السياسية ليست بشيء». ولم ينجُ هيغو ذو «الأنا» المتضخمة من هذا الحقد، فهو سخر مرة من الناقد الكبير الذي عاصره «سانت بوف» مسمياً إياه «سانت باف» أي «اللعاب». وكتب الشاعر الكبير بودلير مرة عن الكاتبة الشهيرة جورج صاند قائلاً: «غبية، خرقاء وثرثارة». ووصف الشاعر الرقيق بول فيرلين الكاتب ألفونس دوديه الشهير بـ «الخنزير»… أما السورياليون فلم يوفّروا خصومهم من سخريتهم المقذعة، وراحوا يكيلون لهم أبشع الصفات.
ترى هل يحتاج الكاتب، كي يبني أسطورته، الى كره «الرفاق» الآخرين والى معاداتهم واعلان الحرب عليهم؟ المؤلم أن الجواب على مثل هذا السؤال لا يمكن أن يكون سلباً، بل: نعم، مع أن المعترك أوالساحة تتسع للجميع ويستطيع الجميع أن يحتلوا فيها مواقعهم!
ترى هل الكراهية وجه من وجوه الأدب نفسه؟
الحياة