المثنى الشيخ عطية حول رواية سيدة الملكوت: إنه اختبار الفاتنات، وعلينا أن نكون على قدر هذه الفتنة القاتلة
** أولاً، لماذا “سيدة الملكوت”، هذا الاسم المعبأ بالميثولوجيا؟
• لقد اقتبس الناشر قولاً صدّر به “سيدة الملكوت” على أنها “نشيد طويل طويل منحاز دون مواربة إلى أنوثة العالم”.. وأعتقد أن هذا الاسم جاء ولا أعرف لماذا من اللقاء الغريب الأول لبطل روايتي بإلهتنا السورية الأمومية “ربة الينبوع” بعد ثلاثة آلاف سنة من انتظاره لها على شاطئ الفرات، ومن قصة حبهما الحافلة بهيامات التقارب، وصراعات القهر والتباعد، وكأن قصة الحب المستحيل التي تسردها الرواية في عالمنا، تسرد تاريخ صراع الأنوثة المقهورة بعد سيادتها في المجتمع الأمومي مع الذكورية القاهرة، وندم الذكور القاهرين بعد ذلك على تدميرهم عالم الأنوثة أو مااعتبروه فردوسهم المفقود، وتوقهم المستحيل للعودة إلى هذا الفردوس.. كما أعتقد أن للتسمية علاقة بطفولة بطل الرواية وصراعات أمه المدمرة مع علاقات عالم الذكور. وأيضاً ربما لأن جيل السبعينات والثمانينات الذي تتحدث عنه الرواية والذي كان مشبوباً بأحلام التحرر وأسيراً لرغبات التملك في ذات الوقت ولا أعرف لماذا عاش استيهامات رومانسية صارخة في دمج الوطن بالحبيبة. وأيضاً ربما كان هذا لتقديري نساء الفرات ونساء العاصي اللواتي يعرفن كيف يصفعن غلو الذكورة واستيهاماتها الخادعة ولا أعرف لماذا على هذه الصورة من العنف. وأيضاً ربما كان هذا على مستوى شخصي دفين محاولة مني في استعادة طفولتي وإعادة شقيقتي وصديقة طفولتي إلى الأرض بعد أن ارتفعت ولاأدري لماذا إلى سمائها.. لكن ربما لأنني التقيت بالفتاة التي أحببتها وأكملت حياتي معها لأول مرة في كنيسة السيدة العذراء بدمشق في الواحد والعشرين من آذار.. أو ربما هناك أسباب أخرى لا أعرفها…
** إذا انطلقنا من المستوى الشخصي الدفين الذي برز بوضوح في الرواية إلى درجة أن من يعرفك قال إنك تتحدث عن نفسك.. هل يمكن اعتبار “سيدة الملكوت” هي سيرتك بامتياز؟
• يبدو لي أن أسلوب الرواية الذي جاء على صورة سرد ذاتي من بطل الرواية هانيبال العابد، لسيرة منفاه الداخلي والخارجي المتداخل والمزدوج في باريس وقبرص حيث كنت، يمتن الاعتقاد بأن ماعرضه بطلي هو على الأغلب سيرة من حياتي، ويزيد هذا الاعتقاد كذلك عرض خلفيات صريحة في الرواية عن أحداث حدثت في واقع صراعات المشروع الوطني الديمقراطي مع الاستبداد في سورية السبعينات والثمانينات، وعن شخصيات توحي بأنها معروفة في هذه المرحلة إذا تم إجراء تماثلات من قبل من يعرفون أشباهاً لها في الحياة الثقافية والسياسية السورية والليبية، وقد يزيد تحدي الرقص فوق رماح الواقعية في الرواية (بإيراد اسم رمزٍ ونبذات من حياة أحد رموز المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية صريحاً على سبيل المثال)، الاعتقاد بأن سيدة الملكوت سيرة من حياة كاتبها، وهو اعتقاد مشروع في الحقيقة، لكن الأمر كما يبدو لي ببساطة هو أن الواقع أحياناً يحدث بصورة أغرب من الخيال، وأنني رأيت أجزاء كثيرة من حياتي تحدث على هذه الصورة فداخلتها ضمن نسيج فني.. ومع إدراكي منذ البداية لإشكالات سقوط الرواية أو ارتفاعها فوق مزالق التسجيل أو مزالق النزول إلى مستوى المذكرات، حاولت تحويل مزالق السيرة والمذكرات إلى قيم وإضافات فنية للرواية عبر تداخلات الأزمنة، وتماهيات الشخصيات، وتماثلات الواقع بالأسطورة في البنية المفتوحة للنص.. وقد تدارست هذه الإشكالات في الحقيقة مسبقاً مع صديقي الباحث والناقد صبحي حديدي الذي أشكره على آرائه الفنية القيمة والصريحة التي أفادتني في ضبط الكثير من المستويات قبل إرسال الرواية للطباعة، وأستطيع القول في هذا المستوى، إن سيدة الملكوت استخدمت في نسيجها الفني قطعاً صريحة كامنة في ما تخبئه أحلامنا وهواجسنا ومخاوفنا البشرية، وبعض هذه القطع كانت متداخلة فعلاً بأجزاء من حياتي في وقت كنت أعيش فيه الواقع كفيلم سينمائي، لكنها لاتجعل مني بطل الرواية بأية حال، مع حيوات رفاق وأصدقاء وحبيبات، تداخلت لتصنع نصاً مفتوحاً متدفقاً على الحياة، ولتقول كلمة حب ببساطة، أو لتنشد أغنية شوق بشغف، أو لتومئ بنظرة توق إلى ما يجعل الحياة مقبولة، أو إلى ما يساعدنا على تحمل أعباء الحياة…
** ماجعلني أسألك هذا السؤال هو معرفتي في الحقيقة بوجود جوانب كثيرة مكثفة من سيرتك الذاتية في الرواية، فهل كل رواية ناجحة هي سيرة ذاتية بشكل أو بآخر؟
• أعتقد أن كثيراً من كتاب الرواية المحترفين يستطيعون إجراء انفصالات كاملة عن سيرتهم الذاتية المباشرة في تشكيل روايات ناجحة، لكني أعتقد أيضاً أن خياراتهم في التناول وحتى في أشد انفصالاتهم عن ذواتهم تعكس جوانب من أحلامهم وهواجسهم ومخاوفهم، وهذه بصورة ما لوحات من سيرتهم الذاتية الداخلية، وإذا كان الفن الحقيقي جوهرياً هو ما يعكس المشترك العميق بين البشر، يمكنك أن تقول في هذا المستوى أن كل رواية ناجحة هي سيرة ذاتية بشكل أو بآخر، وأن “الشيخ والبحر” هي سيرة ذاتية صارخة أراد بها هيمنغواي أن يخبرنا عن ألمه الهائل من عجزه عن امتلاك الرغبة بكمالها وإن عاد بعظام السمكة وجائزة نوبل. السيرة الذاتية بأشكالها العميقة وانزياحاتها الفنية هي الصدق الذي يمنح العمل الفني دون أن ندرك ذلك قوة الإقناع.
** هل تعتقد أن من الممكن تحميل الرواية هذا الكم الكبير من السياسة، خصوصا أنك خضت في قضايا قد حصلت بالفعل، ألا يمكن أن تثير روايتك حساسية الاشخاص الذين عاشوا هذه الحوادث، هل أردت الرواية أن تكون شهادة على وقائع زمن مضى، لكننا لانزال نعاني من آثاره؟
• أنت على حق.. فعلى الرغم من كون سيدة الملكوت رواية عن الحب فإنها تحمل الكثير من الخلفيات السياسية التي جرت معها أحداث هذا الحب، وربما أتى هذا من كوني أتحدث في الرواية عن حب يجري تحت سياط ملاحقة الاستبداد وتحت الحرب، كما أتحدث عن انعكاسات المنفى وتداخلات المنفى الخارجي الآني مع المنفى الوجودي العميق، وتأثيرات ذلك على الحب، وقد صدف أن وقعتْ بين يدي مادة تتفاعل فيها العناصر بنجاح في لحظة تاريخية استثنائية من حياة بلدي هي مرحلة نهاية السبعينات والثمانينات حيث لجأ النظام الديكتاتوري في بلدي إلى ضرب القوى الوطنية الديمقراطية وضرب الحياة المدنية السورية بما يشبه مجزرة وضعت البلد والناس أما خيارات طاحنة ومقلقة، وأكدت طبيعة النظام وجوهرية خطابه الاستبدادي الذي مازال يخدع بعض الواهمين أو بعض من تتفق مصالحهم الانتهازية وطبيعتهم الاستبدادية مع طبيعته. ويتكرر ما تتحدث عنه الرواية داخل المعارضة السورية الآن بصورة شبه حرفية، ومع الأشخاص أنفسهم تقريباً أو مع نسخ جديدة عنهم، ويكفي أن تنظر إلى اتهام البعض لسجناء الرأي في إعلان دمشق بالمغامرة لإخفاء عارهم، أو إلى تلكلك بعض قوى المعارضة ومهازل “تجميد العمل في إعلان دمشق”، ومهازل “إيقاف معارضة النظام” ومباركة هذه الخطوة بهذه الصورة البائسة المضحكة لتدرك أن مأساة الثمانينات تتكرر الآن على صورة مهزلة.. وهنا لا أريد القول إنني أردت من الرواية أن تتحرك في مساحة الشهادة على زمن مضى وسيتكرر مادام الاستبداد والخوف قرينان للإنسان، بل أردت أن أضع الخلفيات التي خلقت شروخات هائلة داخل شخصيات أبطالي ووجب علي أن أن أتحدث عنها لكشف تفاعلات الشخصية الإنسانية تحت أنياب الضغوطات أو تحت حد سيوف الخيارات المستحيلة.. وإذا كان هذا قد أثار حساسية بعض الرفاق والأصدقاء فإنني أعتذر منهم عن شرود روح الكاتب عن إرادتي وبروزها الوقح من داخلي لتكتب ما لا يرضون، وفي النهاية هم يعلمون مدى حبي لهم وحرصي عليهم.
** في الفصول الاولى يشعر قارئك بوطأة السياسة، ومن ثم تتحول السياسة في الفصول الأخيرة إلى هامش النص. أي نوع من القراء تريد ارضاءه؟
• هل سيكرهني القراء إذا قلت إنني في جميع الحالات لا آبه بالقارئ؟ وهل يفهمون من قولي هذا إن قولي يعني الاحترام العميق لهم؟… أنا لا أريد أن أرضي أحداً.. لأن في طلب الإرضاء خيانة للفن، وعدم احترام للقارئ، لكنني في ذات الوقت أريد للجميع قراءة روايتي، وإخباري عن سلبياتها وإخفاقاتها ونجاحاتها، ببساطة مثلما تخبرني أنت بشعور قارئي وأنت محق في ذلك بوطأة السياسة في بداية الرواية، كما أحب أن يقرأ النقاد الرواية لأن فيها الكثير مما يمكن مناقشته على صعيد الفن الروائي.
** الرواية هي “محاولة مد اليد للآخر، هكذا أفهم مسؤوليتي الفردية” حسب ما قاله كارلوس فوينتس، فكيف ترى أنت الرواية؟
• هذا قول جميل حقاً، فإقامة عوالم موازية يشعر فيها القارئ أنها تعنيه وتمتعه وتساعده رغم بعد المسافات والأزمنة، هو مدّ اليد بطريقة ما للآخر، وتبادل المساعدة عبر التواصل، فلطالما ساعدت الأعمال الفنية التي يتواصل معها القراء مبدعيها، وأنقذت بعضهم حتى من الانتحار، هذا إذا لم نتحدث عما تفعله الروايات الناجحة من خلق تفاعلات اجتماعية تمتد إلى السينما والتلفزيون والمسرح والمنافي، والسجون، لبناء الحياة… في رواية سيدة الملكوت أشار الناقد نديم جرجورة إلى قول بطلي إنه يريد لروايته “أن تكون نصاً مفتوحاً متدفقاً يكسر حواجز الزمن ليكشف علاقة تشابك اليومي بالميثولوجي، الواقع بالحلم كي أبلور حياة شباب جيلي في لحظة حساسة من تاريخ بلدي.. نصاً أشرك فيه قارئي بجراحات ما تشظى من حلمنا الأممي الكبير الذي يطيب أن أدعوه حلمي الأمومي الصغير، في محاولة مستورة لترميم النفس عبر الحلم”… كما أشار بذكاء إلى أن سيدة الملكوت تنهج هذا الطريق. وأنا أرى سيدة الملكوت معه على هذه الصورة، وقد أرى رواية أخرى على صورة أخرى. لاأعرف الآن كيف أرى الرواية.
** قيل أن روايتك لا افتعال فيها وهذا ما أدى إلى نجاحها، لكن برأيي اللا إفتعال لا يلغي حتماً الخيال وأهميته في المتن الكتابي الأدبي عموماً؟
• العفوية المنسابة بطلاقة انسياب مياه جدول تشكل سر نجاح القصيدة، والشعراء الطليقون عادة هم الأكثر حظاً بحبنا لهم. لكن الرواية وأوافقك على ذلك تعمل بمستويات معقدة أكثر، في البنية وبناء الشخصيات واستخدامات الخيال. وقد مرت علي لحظات في تجربة كتابة هذه الرواية كادت فيها العفوية أن توصلني إلى طرق مسدودة، وإلى انزياحات لاتؤدي إلى تقاطعات ناجحة في البنية. وأعتقد أن الشعراء الذين كتبوا روايات أدركوا أوعانوا مثلي من مخاطر الشعرية أو التدفق الشعري الذي يعتبر مقامرةً خطرة إذا لم يتناغم بدقة مع موضوع الرواية، ولقد كنت محظوظاً كما أعتقد لأن العفوية والشاعرية تناغمت مع طبيعة عملي الذي أردته أن يكون نصاً مفتوحاً متدفقاً كما الحياة، ومع طبيعة بطلي الذي هو شاعر ويحاول كتابة رواية في الرواية، كما كنت محظوظاً باكتشاف النقطة التي يلتقي بها رافدا العالم الواقعي والمتخيل كي تكتمل بنية الرواية، وإن أتى ذلك بعد عشر سنوات من جمودي أمام عقدة انفصالهما، وامتناعي عن طباعة الرواية لهذا السبب، وكان الحل بسيطاً إلى درجة مضحكة.
** هل يمكن أن نعتبر روايتك تعويضاً عن أحلامك وعن معاناتك وعن الخسارات السرية في حياتك والتي صارت علنية في الرواية التي كنت أنت البطل الحقيقي والوجودي فيها. لم يكن هناك بطل متخيل أو مفترض. إلى أي حد أنت فخور بهذا البطل (الأنت)؟
• إن اعتباري البطل الحقيقي للرواية يدفعني للغرور، كما سأحاول استغلاله لجذب أسراب المعجبات بشخصية هانيبال العابد الآسرة اللطيفة. لكنني وللأسف لست بطل الرواية، وهانيبال العابد هو بطل مركب من جميع شخصيات رفاقي وأصدقائي الساحرين الآسرين في المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية، والذين أعتز فعلاً بصداقتهم، كما أشكر زمني على معرفتي بهم. أما عن التعويض، فإن العمل الفني يشكل تعويضاً مؤقتاً وإن كان هائلاً وضرورياً للكاتب، حيث سرعان مايأتي القلق، وسرعان ما تخبو نشوة عظام سمكة هيمنغواي، وسرعان مانسمع صوت طلقة “لم أعد أستطيع الكتابة”.
** لا تقل لي أنك متوقف عن الكتابة وأنك لا تعدّ لعمل أدبي جديد؟
• لا، أنا لم أتوقف، وأعتقد أن لدي الكثير لأقوله، لكنني مازلت بطور جمع المعلومات ومنهجتها وإجراء التحقيقات، وتفريغ التسجيلات.. وقد أكتشف الجملة الأولى أو الشرارة التي سأبدأ بها الرواية خلال إجرائي لتشابكاتي وتماثلاتي وتقاطعاتي. الرواية عمل مضنٍ، ولم أعد أحسد الروائيين على عملهم، لكنه عمل ممتع وسأظل أحسدهم على عملهم.
** كيف عشت أيامك الأولى في باريس.. كيف تلقفتك أزقتها وأرصفتها، على سبيل المثال؟
• لقد كنت محظوظاً في الحقيقة، أن تتلقفني سواعد وأحضان رفاق وأصدقاء حقيقيين ساعدوني على تجاوز عذابات المنفى والحنين إلى العائلة، وأود أن أشكرهم بصورة عميقة وأن أذكر الشهداء منهم: جميل حتمل، أحمد محفل، سلطان أبازيد، والموجودين الذين يعرفون أنفسهم مع عائلاتهم التي أدعوا لها أن تظل متماسكة كما ساعدتني على التماسك… أرصفة باريس ياصديقي كانت جميلة ورأيت فيها حياتي تجري أمامي مع أجراس الماء التي تشكلها قطرات المطر المنهمرة بنشوة مفقودة على سعادتي وامتناني.
** لكنك صورت باريس كما قلت: ميدوزا هائلة الجمال وتضع عشاقها المحاربين على حد رماح خيارات مستحيلة تسقطهم كما أسقطت بطلك هاني العابد، وجعلته يهرب إلى قبرص؟
• هذا هو اختبار الفاتنات ياعزيزي، وعلينا أن نكون على قدر هذه الفتنة القاتلة.
** الجحيم الذي يعيشه الكاتب أي جحيم كان وعلى أية درجة من البؤس والألم والمعاناة هل هو كفيل دوماً بأن يثمر الروائع الأدبية أو الفنية؟
• ليس دوماً، وهو على الأغلب يقتل روائع كانت لتكون لو تحول الجحيم إلى جنة. الديمقراطية، والحرية، وسعة ذات اليد، والأمان.. هي التي تثمر الروائع كما أعتقد، وإن لم يكن الأمر كذلك فأعتقد أن أي كاتب مجنون أو عاقل سيفضل التضحية بأية رائعة كانت أمام تجربة الوقوف لحظة إذلال في سجون الاستبداد.. لهذا على الناس والكتاب بشكل خاص أن يكافحوا من أجل الحرية والديمقراطية لهم ولأولادهم ولأحفادهم وللأجيال.
** ابتدأت روايتك بفصل يحمل عنوان “لامكان”، وأنهيتها بفصل يحمل نفس الاسم. هل وجدت مكانك الآن، أم لازلت تسافر بحثاً عنه؟
• “ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض، مرة أخرى أحلق في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي. الشمس بدأت تميل للغروب، يا إلهي.. هكذا أراها من نافذة الطائرة، غروب ساحر كالعادة لكنه مخيف، يا إلهي.. لقد أصبح الأمر حقيقة، لم يعد لعبة وقوف أمام المتوسط لافتراض أنه الفرات، ولأخاطبه متكسراً “أيها المتوسط في الروح”.. ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض أمام أفق مفتوح على هاوية اللامكان”…
هكذا هي حال بطل روايتي، التي هي حالي وحال معظم المنفيين قسراً أو طوعاً عن أرض أوطانهم، لكننا نجد معادلاً عن المنفى في دفء عائلاتنا وعلاقاتنا بأصدقائنا.. وفي وعدك أن نغني مأخوذين في شوارع فنلندا، أغنيات الحنين إلى أوطاننا.
* * هناك مفصلان مهمان في الرواية هما “الملكوت” وسيدة هذا الملكوت، تدفقت طفولتك في أنحاء هذا الملكوت، كتبت صفحات كاملة من الشعر حينها، عشت بسعادة على مايبدو في تلك الطفولة، أتتذكر تلك المنابع الأولى، كيف ألهمتك، كيف كانت تلك الطفولة، كيف كانت مدينة الطفولة؟
* حديقة أمي كانت أشبه بحديقة عشتار، وقد انحفرت بأشجارها وأزهارها وكائناتها عميقاً في داخلي، وروايتي التي أعد لها الآن تتناول المنابع الأولى الملهمة والآسرة على شواطئ الفرات، وتتناول طفولة
مدينة طفولتي، ومراهقتها، وشيخوختها، وموتها وولادتها التي ستأتي من جديد.
أجرى الحوار حسين الشيخ