صفحات أخرىياسين الحاج صالح

الرحيل الأخير لصالح بشير

null
ياسين الحاج صالح
صالح الذي عاش سنوات في بيروت فأجاد لهجتها، فوق خمس لغات أخرى، اعتاد أن يطرق باب “المسنجر”، مسلِّما: “كيف حال البيك؟”. أجيب: “يسأل عن صحة الباشا”. ولم يقل “الباشا” في أي وقت إنه يشكو من مرض خطير. قبل أسابيع قليلة أصيب بإنفلونزا أقعدته في البيت أياما. هذا كل شيء.
لكن صالح الذي لا يشكو كان أضناه فقد ابنه الشاب في ربيع 2007. ولعل وفاة الابن هي ما دفعت التونسي المترحل إلى التفكير بالعودة إلى بلده بعد نحو خمس وثلاثين عاما قضاها بين بيروت وروما ولندن والدار البيضاء وباريس.. ففي “منازل بورقيبة”، شمال تونس، ينتظره أب لم ير حفيديه الذين رحل أحدهما، ولم ير ابنه منذ شرع بالترحال وسط عقد السبعينات. كأنما مات ابن الابن كي يحسم الابن أمره ويعود إلى ديار أبيه. يعود صالح صيف 2008. في خريف العام نفسه يستقبل ابنه الآخر ويتجول معه في الديار التونسية “للمرة الأولى بإطلاق، إذ أني غادرت تونس قبل أن أعرفها”.
في مطلع شباط 2009 أقام صالح في منزل في تونس العاصمة. “أتمنى أن يكون الرحيل الأخير”، قال متكلما على انتقاله إلى هذا البيت. لكن بعد أقل من ثلاثة أسابيع كان أمامه رحيل أخير. أخير إلى ما لا نهاية. عاد صالح إلى الدار ليموت فيها.
****
“ما كنت أتصور أني سأرتاح إلى هذه الدرجة”، قال “الباشا” متكلما على مقامه في بلده. “أقرأ أكثر مما أكتب، وهذا شيء جيد”. و”أتمنى أن أتمكن من العمل من هنا فصاعدا”. كان يخطط لأكثر من “عمل”، أما الاقتصار على الكتابة للصحف فلم يكن بالعمل الذي يرضيه أو يتسع لطاقاته التحليلية النادرة ومتانة تكوينه الفكري. “عم بشتغل هالأيام بس ما بدي أحكي كتير..حتى لحظة الإنجاز”. قبل عودته إلى البلد، كان تكلم على كتاب يأمل أن ينجزه يوما عن تونس. يريد أن ينصف البورقيبية التي لم تنصف. لكن لا أظن أن هذا هو الكتاب أو الشيء الذي كان يشتغل عليه “هالأيام” متكتما. كان أيضا يخطط لكتابة مقالات أطول ويفكر في أكثر من منبر بيروتي لهذا الغرض. قبل أيام فقط من غيابه كان أحد المنابر رحب بأي شيء يصل منه واعتبره من أهل البيت. غير أن صالح هجر البيوت جميعا قبل أن يكتب.
لا أكف عن إبداء إعجابي بمقالاته، لكن صالح يثابر على تشككه حيال “تخبيصاته”. وبخجل يتساءل: أهي جيدة فعلا؟ أسأله ما الذي جرى أواخر السبعينات فدفعك إلى هذه الدرجة من التقشف والامحاء؟ خمنت أن تجربة يأس عميق وراء إدمانه على التواري. لا يجيب، لكنه يصحح: “في الثمانينات…عقد أمقته”. أقول: “كان عقدا فظيعا على كثيرين، ماذا جرى؟” لا يحب صالح استعادة تفاصيل ما قد يكون جرى. يكتفي بالقول: “ضرب من الشك في جدوى كل شيء يبلغ درجة الإنكار”. توقف عن الكتابة وقتا في ذلك العقد المقيت، إلى أن حبسه صديق له تونسي مقيم في فرنسا في بيت وأخذ معه المفتاح، منذرا إياه أن يبقى حبيسا إلى أن يسلمه مقالة مكتوبة من تحت الباب. وهكذا كان. صالح لا يذكر عم كانت المقالة.
بالغ التواضع، نزّاع إلى حجب النفس على خلاف أكثرنا، معشر الكتاب. “توهمت دائما أنه إذا كان لما أكتب قيمة فسيتنبه إليه الناس”. وهم بالفعل. يضمر أن “الصحيح” سيصح في النهاية، وأن العالم عادل بعد ورغم كل شيء. يحدث أن يخرج صالح على عالم الوهم هذا، فينشئ لنفسه مدونة (لن يتأخر في إهمالها)، يخطط لكتاب (لن يعمل فيه)، يعتزم جمع مقالات له عن الشأن الفلسطيني الإسرائيلي، أو عن مفهوم الدولة، وتوثيقها ونشرها مستقلة أو في كتاب (لكن يرجئ العمل..).
غير أن هذا كله كان قبل العودة إلى تونس، وقبل الإقامة في بيت مريح مناسب في العاصمة.
****
كتب صالح عن لبنان أو العراق أو فلسطين بنفاذ نادر. ورأيي أنه كتب بعض أرفع المقالات العربية عن القضية الفلسطينية وإسرائيل في بضع الأعوام الأخيرة. كتب كذلك عن قضايا فكرية وثقافية وسياسية عربية. وعن أميركا وأوربا والعالم. لكن ليس أبدا عن تونس. وعلى تنوع ما تداولنا فيه منذ خريف 2006 لم أطرح عليه سؤالا في هذا الشأن. ويبدو لي أن هذا تناقض عاشه صالح بصبر، ولم يحله إلا بالعودة إلى تونس. فأن تكون غير قادر على العودة إلى بلدك، رغم أنك غير منخرط طوال سنوات في نشاط معارض، أمر تفوق مشقته مشقة العيش داخل الوطن وأنت معارض. قبل عودته كان صالح يحل تناقض وضعه عبر المستوى الرفيع لما يكتب، عبر تجنبه نزاعات “المنفيين” التي لا تنتهي ولا تثمر شيئا، عبر ترفّعه ونبل خلقه وقدرته على إدارة الظهر لما هو قبيح.
لكن هذه كلها حلول جزئية. الحل الصحيح هو العودة إلى تونس والبدء مجددا. كان صالح مؤهلا لذلك، قادرا عليه وراغبا فيه. في أيلول 2008، قال: “أنا في فترة نقد ذاتي ومراجعة للذات هذه الأيام”. تصورت أن الوقت طويل أمامنا، فلم أتجاوز أن أسأل: هل كتبت شيئا في هذا الشأن؟ “بصدد إنضاج المراجعة، ولست أدري بعد إن كنت سأكتب شيئا”. أخمن أن المراجعة تطال توجهات وأفكارا، لكنها تطال أكثر نمط حياة وتملٍّ للعالم لطالما شارفت درجة تجردهما ونزاهتهما حد الانسحاب منه. أكاد أجزم أن صالح عقد عزمه على حياة أكثر إنجازا إن لم تكن أكثر اقتحاما أيضا. ولقد كان مهتما بأن يكون له بيت مستقل في تونس، وفرحا حين حصل عليه بعد محاولة فاشلة واحدة على الأقل. فلا بد للكاتب من “غرفة خاصة”.
لكن كان للموت الذي يأتي دوما في الوقت الخطأ عزم آخر. بالضبط حين كان صالح يمنح نفسه بدايات جديدة. وشبابا جديدا.
وداعا يا باشا!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى