في وداع صديق افتراضي جاء من تونس وعاد اليها
بكر صدقي
أكثر ما يفجع في موت صالح بشير هو العزلة التي داهمه فيها. «وجد ميتاً في شقته في تونس» هكذا كتب الخبر.
صالح الذي أتعبته المنافي لم تقبله تونس إلا جثة في بيته… لم يمض وقت يذكر على عودته إلى بلده للاستقرار حين داهمه الموت وحيداً بصورة مرعبة.
عرفته متأخراً، متأخراً جداً، إذا جاز تسمية ما حدث بالمعرفة. يعرف الكاتب مما يكتب، لكن الشخص يعرف بأكثر من ذلك. عليك أن تراه يتحدث ويضحك ويغضب ويبكي، لتزعم بحق أنك عرفته.
عرفته أولاً على صفحات الحياة، في مقالته الأسبوعية كل أحد. أسرتني لغته الباذخة، جملته المنسوجة من خيوط الذهب، و «حرفنته» في كل موضوع يتناوله بالنقد والتحليل، ثم وضوح الفكرة عنده. لقد وجد الراحل طريقته الخاصة في المزاوجة الصعبة بين العمق والوضوح، فلم يتحول الثاني إلى بساطة أو تسطيح، ولا انزلق الأول إلى غموض، بيد أن كثافة جملته كثيراً ما أرهقتني، إرهاق المتعة والتذوق، كدت أكتبها «التلمظ».
مع تجربة موقع الأوان تحولت علاقتي بالراحل من علاقة قارئ بكاتب، إلى علاقة كاتب بمحرر. لكنه لم يتعامل يوماً مع موقعه كسلطة مكتسبة، سلطة الإباحة والمنع، بل كان أقرب إلى الخدمة، وما أصعبها حين يتطلب الأمر إرضاء طرفين، القارئ والكاتب معاً، ناهيكم عن الجهة الراعية للموقع توجهاً فكرياً وتمويلاً. في غضون تسعة شهور، تمكن الراحل من إدارة منبر فكري شهد كثيرون بأهميته وسويته الرفيعة وغناه الثقافي والسجالي ورحابة صدره مساحة وتنوعاً. فإذا أضفنا إلى عبء إدارة موقع الأوان، استمراره في الكتابة بتلك الأناقة والغنى، عرفنا حجم خسارتنا برحيله المبكر، وهو في ذروة العطاء.
عرفته، بحدود ما تسمح به العلاقة الافتراضية، من خلال الرسائل الإلكترونية التي كنا نتبادلها بصدد الشغل. خاطبته بلقب «أستاذ» فلم يستسغه، وخاطبني بـ «عزيزي»، فقوّض بهذه الكلمة الدافئة كل حاجز وأخجلني من خطابي الرسمي البارد. ليس فقط أنني لم أره قط، بل لم أسمع صوته أيضاً عبر الهاتف. لعل هذا من حسن حظي، لأنه بغياب الصورة والصوت معاً تكون الفجيعة أقل بخبر موته، يبقى شخصاً «افتراضياً» عرفته في ذلك العالم الافتراضي. بيد أنني خبرت شيئاً من أمزجته. من يقرأ كتابات صالح بشير قد يتوقع شخصاً مفرط الجدية لا يجيد المرح. في اتصال وحيد عبر الماسنجر عرفت براعته في الممازحة ورفع الكلفة وخفة الدم.
أكثر مساهماتي في موقع الأوان كانت ترجمات لمقالات سياسية من الصحافة التركية. معرفة الراحل بعدد من اللغات أثارت جشعي، فطلبت مساعدته مرات لترجمة بعض المفاهيم (المشتركة بين عدد من اللغات) كنت وجدت صعوبة في نقلها إلى العربية، فلم يبخل عليّ بوقته ولا ضنّ عليّ بشيء من ثقافته الرحبة. لا شيء يمنعني من الافتراض أنه كان هكذا في تعامله مع جميع الكتاب الذين ساهموا في الموقع، لأن علاقتي به لم تحمل أي خصوصية أو امتياز.
انقطع عن الكتابة بضعة شهور بعد وفاة ابنه الشاب، فكتبت إليه أحثه على العودة إلى الكتابة. رد بحياء جم أمام كلمة إطراء طفيفة استخدمتها بحق كتاباته.
وها هو الآن ينقطع نهائياً عن الكتابة، ولن يكون قادراً على التعبير عن ذلك الحياء أمام من سيكتبون الآن عن قيمته الفكرية والأدبية.
قد تمكن قراءة موت صالح بشير بتحميله دلالةً تتجاوزه كفرد إلى حال الثقافة العربية: في العام 1975، تقول سيرة الراحل، غادر تونس إلى بيروت، بؤرة التاريخ العربي في ذلك الزمان، وبرز كمثقف مناضل في بيئة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. استقطبته «السفير» كما فعلت مع أبرز المثقفين اللبنانيين والعرب، ثم افترقت الدروب بينه والمقاومة بعد حرب 1982، فهربت قيادتها إلى وطنه تونس، في حين فضّل بشير الاغتراب في أوروبا. كانت تلك هي اللحظة التي بدأت فيها تحولات موسكو التي ستفضي، بعد سنوات قليلة، إلى تقويض النظام الشيوعي ونهاية الحرب الباردة وانتصار اليمين الأقصى عبر العالم (ريغان – ثاتشر)، وستتسارع التحولات في المنطقة العربية بدءاً بالاحتلال العراقي للكويت، فاتحة الانقسامات العربية الحادة التي ستخترق داخل أكثر من دولة، فضلاً عن الاستقطابات بين المحاور العربية. وستشهد الثقافة العربية تحولات في الإشكاليات وعلى الصعيد الفردي معاً، فيملأ المناخ الإسلامي العدمي الفراغ الذي خلّفه انحطاط الأيديولوجيا القومية – اليسارية، وتميل الثقافة إلى الانحدار إلى المستوى الإعلامي والمؤتمراتي، فتصبح بوقاً للاستبداد والظلامية من جهة، وتغرق في نقاشات عقيمة حول إشكاليات زائفة (الأصالة والحداثة مثلاً) من جهة أخرى. بموازاة ذلك ستطرأ تحولات فكرية حادة عند مثقفين أفراد، من العروبة إلى الإسلام، أو من الماركسية إلى الليبرالية، أو من كليهما إلى ضروب من الشعبوية المسطحة مع الحفاظ على اليافطة الإيديولوجية القديمة والتشديد عليها. كل ذلك مع غلة ثقافية عجفاء وغياب الآفاق أو انسدادها، وانحدار المشروعات الكبرى إلى الانغلاق داخل حدود هويات تزداد ضآلةً بإطراد مع ارتفاع نبرة صوتها.
صالح بشير الذي جذبته المقاومة الفلسطينية، في طورها الصاعد في السبعينات، يغادرنا وقد انقسم الوطن الفلسطيني الافتراضي إلى كيانين.
صالح بشير الذي أغوته الثورة في السبعينات، يغادرنا اليوم بعدما باتت الدولة طموحاً، والتفتت تهديداً واقعياً في المشرق الذي اجتذبه في أول شبابه.
الحياة