صفحات سورية

واجبات اليسار المُهملة

null


حسام عيتاني

يخفت الحديث عن اليسار اللبناني حتى ليكاد يندثر، ثم يعود فيطفو الى سطح التناول الاعلامي. سبب الخفوت أزمات اليسار التي لا تنتهي، وعلّة استئناف الكلام بحث قسم من اللبنانيين عن مخارج من مأزق الطائفية التي لا تني تتناسل بلا توقف.

لكن بين تراجع اليسار عن واجهة الاهتمامات وعودته اليها، لا يظهر ان اهله قد قاموا بما يؤهله ويؤهلهم لجذب الاهتمام العام. بل يبدو ان ضيق آفاق الحل للمطروح من الأزمات يدفع ببعض اللبنانيين الى تقليب جميع الاحجار، علّ املا ولو ضئيلا يختبئ تحت واحد منها.

لقد دعا الحزب الشيوعي اللبناني الى لقاء تشاوري قبل اسبوعين تقريبا للبحث في عدد من المسائل الوطنية وأخرى تعني اليساريين اللبنانيين. ما نُشر وعُلم من اجواء سبقت اللقاء ورافقته واعقبته، يشير الى جملة من الوقائع ليس المجال هنا لمناقشتها وتتعلق بالاوضاع الداخلية للحزب الشيوعي التي وان كانت تعني في المقام الاول اعضاءه، الا انها تنعكس على مجمل اللبنانيين الرافضين للانخراط في الاستقطاب الطائفي ـ المذهبي المسيطر اليوم على العمل السياسي. هذا ناهيك عن ان الدعوة التي وجهها الحزب لحضور اللقاء تبدو منتفخة بمواضيع ربما يصح البحث فيها بعد احياء القوى غير الطائفية وليس قبل ذلك. بمعنى ان اعتبار «التصدي للمشروع الاميركي» ـ على سبيل المثال ـ من المهمات اليومية لليساريين اللبنانيين، من الأمور التي اقل ما يقال فيها انها تشبه وضع العربة امام الحصان. فلا المشروع الاميركي، اولاً، محدد المعالم بالنسبة الى ما يريد من لبنان واللبنانيين باستثناء بعض الكلمات العامة والرنانة (الهيمنة على مقدرات لبنان، ضرب المقاومة،…) خصوصا ان ما من سياسة اميركية خاصة تجاه لبنان في معزل عن المنطقة، ولا اليسار، ثانياً، بقادر على وضع برنامج للتعامل مع مشروع غائم القسمات والملامح الى هذا الحد، ولا اليساريون، ثالثاً، متفقون على الاولوية المطلقة للمهمة هذه. باختصار، يشكل طرح هذه القضية مصادرة لحق بعض من يعتبر نفسه في صفوف اليسار بمناقشة ما يفترض ان يكون مهمات واولويات.

وليس اللقاء التشاوري وفق الصيغة التي جرى بها، مؤهلا لتقديم تعريفات عامة تهدف الى تحديد من هو اليساري في لبنان اليوم ولا التطلع الى دراسة سوسيولوجيا اليسار والجمهور الذي يتعين ان تتوجه القوى اليسارية إلى مخاطبته او فحوى الخطاب هذا وما يمكن ان يثيره ويميز حَمَلته وينأى بهم عن الاتهامات التي يتبادلها من تبقى من ابناء اليسار بالالتحاق بهذا الفريق الطائفي او ذاك.

وحتى اليوم، تدور في اوساط اليساريين نقاشات فارغة عن ايهما يسبق الآخر القضية الوطنية ام المسألة الاجتماعية؟ وتتجاذب اليساريين تصورات متباينة لماهية القضية الوطنية، حيث يريد البعض الدفع في اتجاه المشاركة في المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، برغم كل الاشكالات المحيطة بالمقاومة وسلاحها، فيما لا يرضى آخرون بأقل من اعتبار الاستقلال عن سوريا لبّ القضية وجوهرها. اما القضية الاجتماعية التي تعني الاكثرية الساحقة من اللبنانيين السائرين نحو المزيد من العوز والهجرة والمهددين بفقدان كل انواع شبكات الامان الاجتماعية، فتبدو يتيمة.

لكن هل يعني ذلك قطع الأمل من أي عمل يساري منظم؟ لا، حكما. غير ان الوفاء للطبيعة النقدية للأسس التي قام عليها الفكر اليساري في العالم بأسره (وجافاها العرب واللبنانيون وحولوها الى طقوسية بليدة)، تقتضي القول ان الارادة الفردية والجماعية وحدها لا تكفي للنهوض بتوجه سياسي ما، بغض النظر عن هويته وانتمائه. فالضرورة، على ما يقال، تتجاوز الارادة وتسبقها. اذن، يصبح السؤال المطروح على اليساريين اللبنانيين، هل من ضرورة ليسار لبناني اليوم؟

الإجابة على السؤال هذا تقتضي اولا تفحصا لما اسميناه «سوسيولوجيا اليسار» والاجتماع اللبناني بعامة واستكشاف ما يمكن ان يشكل ارضية لتبلور الضرورة، مرة جديدة. وما لا يحتاج الى نقاش هو ان العدة المعرفية التي يستخدمها يساريو لبنان اليوم، قد بليت وعلاها الصدأ وما عادت تنفع في رسم أطر جديدة للعمل اليساري في معزل عن المفاهيم السابقة التي لا تزال تدور في حلقات الحنين الى ماضٍ ولى ولن يعود.

التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي عصفت بلبنان، منذ ان توقف اليسار عن ابداع أي تفكير نقدي جديد وانصرف الى اجترار ماضيه والعيش على ذكراه، من الجسامة بحيث تكفي أي باحث او مهتم، لاعوام طويلة من الدراسة والتنقيب. ويخطئ تماما من يعتقد ان القفز الى الامام، نحو تحالف اعمى مع القوى الطائفية المهيمنة، او الى الوراء نحو استرجاع الافكار والممارسات الآفلة، يحمل تجديدا من أي نوع كان.

ليست المهمات التي ينبغي على اليسار انجازها بسيطة في أي حال من الاحوال، لكنه لن يرى النهوض من دون قيامه بواجبات اهملها طويلا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى