التسامح وأوروبا: فصل الخيط الأسود عن الخيط الأبيض!
عبدالحسين شعبان(*)
لعل من أعظم انجازات الاتحاد الاوروبي هو استطاعته فتح صفحة جديدة في العلاقات الاوروبية ـ الاوروبية بعد حروب ونزاعات أزهقت عشرات ملايين من البشر في حربين عالميتين الاولى 1914 ـ 1919 والثانية 1939 ـ 1945. وقد تأسس الاتحاد الاوروبي في البداية كسوق منتج للفحم والصلب من قبل فرنسا وألمانيا وإيطاليا وثلاث دول اخرى (هولندا، بلجيكا واللوكسمبورغ) التي سميت بالبنلوكس.
لم يكن هذا الانجاز الواعد يسيراً لاسيما في إسدال الستار على مآسي الماضي وبخاصة الحروب الطاحنة، فضلاً عن عوامل الكراهية والكيد والانتقام التي سادت، لكن مجرد البداية كانت خطوة مهمة، وخصوصاً في تبادل المنافع وتوازن المصالح بين بلدان وشعوب اوروبا، تلك التي بدأت فوائده تظهر سريعاً.
وكان لجهود جان مونيه وروبرت تشومان وكونراد أديناور وقادة آخرين لاحقاً الدور المهم في هذا الانجاز وفي الارادة السياسية والإصرار على تجاوز الماضي وإخضاع ما هو عابر وطارئ وظرفي لما هو ستراتيجي وثابت وبعيد المدى، لاسيما المشترك الانساني لعبور مرحلة الحروب والنزاعات والتأسيس لمرحلة السلم والتعاون بين بلدان وشعوب أوروبا التي احتربت لعشرات السنين وكان العنف والرغبة في الهيمنة التي تتحكم في علاقاتها.
يكمن السبب الاساسي في انتهاج سياسة التسامح في الإصرار على أن ما حصل لن يتكرر وأن المآسي ينبغي أن تكون سبباً إضافياً في الوصول الى السلم والتسامح والعيش المشترك، لا العكس!! وقد استمرت هدنة اوروبا وتعززت خيوط السلام والتعاون ومداواة الجراح وإطفاء بؤر الصراعات والنزاعات، باستثناء الحرب التي اندلعت في يوغسلافيا، وكانت لها أبعاد دينية واثنية، وبخاصة ما حصل للمسلمين في البوسنة والهرسك.
كان التسامح هو الفكرة السائدة عند تأسيس الاتحاد الاوروبي لاسيما وقد ورد ذكره في ميثاق الامم المتحدة وفي الديباجة تحديداً عندما نص: نحن شعوب الامم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال القادمة من ويلات الحروب التي في خلال جيل واحد جلبت على الانسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف… وفي سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار وأن نضم قوانا كي يحفظ السلم والأمن الدولي…
وسواءً كانت مسألة التسامح “اختياراً واضطراراً” فهي ليست مجرد عواطف أو تمنيات، خصوصاً وأنها تستند الى قاعدة واعية ومعرفية أخلاقية وحقوقية وانسانية، لاسيما وان غياب التسامح عرّض الأمم والشعوب الى ويلات وعذابات لا حدود لها، الأمر الذي يجعلها في أشد الحاجة اليه لتجاوز المحن والآلام، وهو ما دفع قادة أوروبا للتفكير بتأسيس إطار للاتحاد الاوروبي يأخذ بالاعتبار التنوّع في العقائد الدينية والانتماءات القومية، خصوصاً بتوفر “الروح المعنوية” المشتركة والهادفة الى إظهار أوروبا كياناً اقتصادياً وفيما بعد سياسياً موحداً.
وإذا كان التسامح ضرورة بالنسبة للجيل الأول ـ جيل الحرب الذي عايش الويلات والآلام وربما كان من الصعب نسيانها، فالجيل الثاني والثالث من الاوروبيين يستطيعان الادعاء اليوم بأن بمقدورهما نسيان التاريخ لاسيما بعد مرور 60 عاماً ونيف على انتهاء الحرب العالمية الثانية وهي آخر حرب عاشتها أوروبا.
يتشبث بعضهم بالتاريخ لكنّ وجود المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ضرورة أكبر، وبخاصة إزاء الحاضر والمستقبل، فالسياسة كانت على الدوام صراعاً واتفاق مصالح، وهي هكذا على مدى التاريخ، وإذا كان جيل المآسي ساهم في إعادة اللحمة وبناء جسور الثقة، فإن جيل ما بعد الحرب الثانية كان قد سار على هذه الجسور وأنشأ المؤسسات والمشاريع والأنشطة المشتركة، ولعب التبادل الثقافي والتفاعل الحضاري دوراً مهماً في تعزيز وتوطيد المصالح الاقتصادية والتجارية وترسيخ التعايش السياسي الانساني. وبلا أدنى شك فإن تأسيس الاتحاد الاوروبي كان فرصة إيجابية لتعزيز الفاعليات الانسانية وحقوق الانسان وتشكيل المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان.
لم تعد الذكريات الحزينة والآلام الدفينة تحول دون العمل والتعاون المشترك، ولعل نجاح اسبانيا في الخروج من ظلام دكتاتورية فرانكو والاندماج في الاتحاد الاوروبي عام 1975 ونجاح البرتغال عام 1974 في النهوض بعد فترة دكتاتورية سالازار وخليفته كيتانو الطويلة الامد، شجعها على الانخراط في الاتحاد الاوروبي.
وكان إعلان الاتحاد الاوروبي يعني استبدال الأحزان والآلام بالصمت وإسدال الستار على الماضي ومآسيه، والتفكير ببعد نظر بالمستقبل مداواة للجروح وإطفاءً للحرائق والاعتراف بالمشترك الانساني، بدلاً من الاستغراق في المُختلَف أو نبش الماضي.
واستطاعت أوروبا، رغم المآسي، تضميد جراحها وتجاوز محنتها بحيث أصبح السلام والتسامح يرفرفان فوق ربوعها، لكن المجازر التي ارتكبت في البوسنة والهرسك وما حصل في كوسوفو من احتدام أثار شكوكاً ومخاوف حول صدقية ومبدئية تلك السياسة، الأمر الذي في حاجة الى مراجعة جدية لمدى التمسّك بالمعايير الانسانية وليس بالمصالح الانانية، ليس على صعيد أوروبا فحسب، بل وعلى نحو أشد إزاء كل من أفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان والصومال وغيرها!
أليس في ذلك مفارقات في ازدواجية المعايير وانتقائية المواقف والتمييز بين البشر، ولعل هذه الأسئلة الساخنة تلاحق القادة والزعماء الاوروبيين، مثلما هي مصدر قلق لكثير من المثقفين رغم أن بعضهم مناصر لحقوق الإنسان وقضايا العدالة على المستوى الدولي، لكنها أسئلة ستظل تؤشر الى أن قضية العدالة وحقوق الانسان وسلم ورفاهية الشعوب واحدة ولا يمكن تجزئتها أو إهمال جوانب منها أو التمييز بينها.
التسامح يتطلب الإقرار بالمشترك الانساني والاعتراف بالآخر، ويُعدُّ إعلان المبادئ بشأن التسامح الصادر عن منظمة اليونسكو تطوراً دولياً مهماً بخصوص فكرة التسامح باعتبارها من المرتكزات الاساسية لكل مجتمع مدني، وعملاً من أجل السلم، يقتضي الاعتراف بالآخر وتقديره حق قدره. فالتسامح يستوجب القدرة على التعايش والتواصل مع الآخرين والاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدى البشر، ويتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد“!!
(*) كاتب وحقوقي عراقي
المستقبل – السبت 5 نيسان 2008