تفجير يقلقل هدوء الحي المبارك…ما لم يكتبه نجيب محفوظ عن حي الحسين
القاهرة ـ حمدي رزق
الأولياء في مصر كثر، غير أن للحسين مكانة بالغة الخصوصية في نفوس أهل مصر. وحين ألف البريطاني المتصوف الذي عاش في مصر وفتن بتصوف المصريين في مطلع القرن العشرين (مكفرسون) كتابه عن الموالد في مصر قبل قرابة المئة عام، أفرد لمولد الحسين المساحة الأكبر، قائلا انه «المولد الأكبر عند المصريين «، كون وليه ـ أي الحسين ـ صاحب «الحظوة الأكبر» في قلوب المصريين.
وبعد، فهل خطر على قلب بشر أن يحصي الأولياء الصالحين في مصر؟ لو خطر له ذلك فان أول اسم سيقفز الى ذاكرته هو اسم (سيدنا الحسين بن علي) رضي الله عنهما.. هكذا يقولها المصريون، لا يقولون اسم الحسين إلا مقرونا بالسيادة، وهكذا السيدة زينب وسائر أقطاب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.. هؤلاء الذين احتضن المصريون ذكراهم وعمرت قلوبهم بحبهم من قديم جدا.
وفي القلب المصري كان الوجع من هذا المنطلق، حين فوجئ أهل مصر بتفجير في حي الحسين قبل أيام، وفي رحاب جامع الحسين لا يبعد عنه سوى بضعة مترات، اهتز الناس وتساءلوا: هل من مصري يجرؤ قلبه على أن يفعلها؟ ولماذا هنا تحديدا؟ ولماذا هذا التوقيت؟ هل هو الارهاب المسلح عاد مجددا بعد ان صار المصريون يرددون ليل نهار انه اختفى منذ مأساة قتل السياح في الاقصر ـ معبد الدير البحري ـ أواخر العام 1997؟فان كان هو، فلماذا الحسين بالذات؟ لم يكن خافيا ان المصريين خافوا عودة الارهاب المسلح الى بلادهم بعد طول امان.. وان اختيار حي الحسين زاد في فزعهم، فمناطق أولياء الله الصالحين وآل البيت (كمناطق الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة وجميعها بالقاهرة التاريخية..) هي مناطق آمنة بطبعها لم تشهد حوادث ارهابية ـ الا نادرا ـ في أوج صخب الارهاب المسلح في أواسط التسعينيات. وتكاثرت أسئلة الخوف وفزع الانفجار ـ على الرغم من تواضع العبوة الناسفة التي انفجرت في حادثة الحسين وكونها بدائية للغاية ـ لكن الضربة أتت في مكان يعز على كل مصري، مكان ينبض بالحياة وبحب الدنيا والآخرة أيضا.. منذ أكثر من ألف عام وينبض بالتاريخ قديمه وجديده.. وبالتجارة والسياحة وبلمحات من الأدب وبكنوز من العمارة الاسلامية، كتلة حية لاتنام في قلب القاهرة اسمها حي الحسين تطرح على خلفيتها أسئلة تبدو غريبة عنها.. أسئلة برائحة بارود رخيص ودم سائحة فرنسية بريئة راحت كضحية وحيدة للحادث الذي لم يكشف الأمن شأنه بالكامل الى هذه اللحظة!
[مساحة للتاريخ
نعم اسمه «حي الحسين» هكذا يقول الناس عنه، فان قال القاهري انه (رايح الحسين) فهو متجه الى حي الحسين، أما ان قال (رايح سيدنا الحسين) فهو متجه الى الجامع والضريح الذي يعد أهم مزارات الصالحين وال البيت في مصر قاطبة وأكثرها احتشادا بالخلق.
غير ان الاسم ـ على جلاله وأهميته ـ ليس دقيقا من الناحية التاريخية..فحي الحسين هو في الحقيقة القاهرة الأصلية ..بمعنى ان حدود حي الحسين ـ كما يطلق عليه الأهالي ـ ليست الا حدود القاهرة بمعالمها الأولى حين بناها الفاطميون (القرن العاشر الميلادي قبل أكثر من ألف عام ..). تنطبق حدود الحي وحدود المدينة العتيقة التي ظلت تتمدد وتبتلع عواصم مصر السابقة عليها(الفسطاط ـ العسكر ـ القطائع، على ترتيب تأسيسها التاريخي في عصور الفتح العربي ثم العصر العباسي ثم العصر الطولوني ) وفي النهاية صارت العواصم الاربعة عاصمة واحدة اسمها القاهرة واستمرت في التمدد لتلتهم الصحاري المحيطة بها وأطرافا من الريف الملاصق لها ايضا حتى صارت على نحو ما هي عليه اليوم..أما القاهرة التاريخية فهي القاهرة الفاطمية وهي ايضا وبمنتهى التحديد ما نطلق عليه اليوم حي الحسين، والذي يعده الجغرافيون والمؤرخون نواة العاصمة الحالية.
وهكذا شاءت أقدار العاصمة الكبيرة المتوحشة المبتلعة للعواصم القديمة ـ القاهرة على وجهها الحالي ـ أن يكون حي الحسين بمثابة سبورة مكتوبة عليها بطباشير لا ينمحي، سطور التاريخ الأولى للقاهرة الكبرى، ولاسيما أن هذا الحي شهد ثلاث دول توالت عليه في مصر الإسلامية، أضافت إليه الكثير وأهلته أن ينفتح على العواصم المصرية المحيطة به والباقية من العصور السابقة عليه، ليكون حي الحسين القاهرة الحالية. جوهر الصقلي ـ قائد قوات الفتح الفاطمي التي أتت إلى مصر في القرن العاشر الميلادي من المغرب وعلى رأسها جوهر ومعه الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ـ شيد القاهرة على ربع مساحة حي الحسين الراهنة، ثم أتى الايوبيون بعد ذلك بنحو مئتي عام ليتوسعوا فيها شرقا وغربا قليلا. ثم جاء المماليك بعدهم بمئة عام ليتوسعوا وليشمل حي الحسين ـ القاهرة آنذاك ـ مساحات رهيبة، أهلته للتمدد الى العواصم المجاورة حتى اتحدت أطراف هذه اللعبة في عاصمة واحدة في اواخر العصر العثماني وبصورة اوضح مع عصر محمد علي باشا (1805 ـ 1849). صالحت الجغرافيا التاريخ في حي الحسين فوحدت بين ماشيدته دولة الفاطميين الشيعية الاسماعيلية ودولة الايوبيين السنية الشافعية ودولة المماليك التي اقتلعت الايوبيين اقتلاعا والعثمانيين الذين ذبحوا المماليك بعد ان شتتوهم، وفي النهاية انصهر كل ذلك في سبيكة واحدة تتراص وتتماس فيها كنوز الاثار الاسلامية من أربع عصور متتالية، تمثل في مجملها نحو 20 بالمئة من جملة اثار مصر..وتضم أكبر جامع للسنة في العالم الاسلامي ـ وهو الجامع الازهر الشريف ـ وفي مواجهته على الرصيف المقابل أكبر مزار للشيعة ان جاءوا يزورون مصر وهو جامع الامام الحسين رضي الله عنه، وعلى بعد 500 متر منهما جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي يؤمه البهرة (من طوائف الشيعة الاسماعيلية ويتمركزون بالاساس في باكستان وافغانستان ويعتبرون جامع الحاكم مزارا بالغ القدسية..فضلا عن تقديسهم الحاكم ذاته..).
وبعد هذه المصالحة الجغرافية بين تواريخ عصور وحكام متنافرين على ارض حي الحسين، صارت ملامحه اليوم تنحصر في قلب القاهرة تماما بين منطقة الدراسة جنوبا وبين العتبة شمالا وبين الدرب الاحمر من الغرب وباب الشعرية من الشرق وجميعها أحياء شعبية عتيقة كانت نسيا منسيا ولم تظهر على الخارطة الا بعد ازدهار القاهرة واحتشادها بالسكان ـ في حي الحسين وربوعه الكثيرة ـ في العصر المملوكي بقسميه البحري والجركسي (من القرن الثالث عشر الى القرن السادس عشر الميلاديين).
والى ذلك، فان حي الحسين احتوى ولايزال في داخله احياء كثيرة جدا، كانت في القرون الوسطى تسمى احياء حين كانت مساحات المدن في العالم عموما محدودة للغاية بما في ذلك العواصم..وكل من هذه الأحياء لايتعدى بمنطق مساحات اليوم اصطلاح «الحارة «،وكل من هذه الأحياء نشأ لضرورة عملية، بمعنى ان كلا منها لم يكن سوى تجمع لاهل مهنة واحدة في بيوت متراصة متلاصقة، ومعها في نفس الحيز (دكاكين) ـ محال ـ هذه الصناعة (المهنة)، مثل حي النحاسين ـ المتخصصين بالنحاس ـ وحي الخيامية ـ المتخصصين بالخيام وصناعتها ـ والمغربلين والشرابشيين وخان الخليلي ـ المختص بالعاديات والتحف الى اليوم ـ والصاغة المختص بالذهب والمشغولات الثمينة ـ ايضا الى اليوم ـ وكثير من هذه الأحياء التي صارت حارات يفضي بعضها الى بعض في منحنيات وتقاطعات تشبه جسد ثعبان لا اول له ولا اخر، كون هذه المدينة لم تخطط بالمفهوم الحديث للتخطيط.
[ الروح والمال
غير ان هذه المصالحة الجبارة بين التواريخ المتصارعة في حي الحسين ليست المصالحة الوحيدة..فان مصالحة اخرى يمكن ان نقول انها بين الروح والجسد تحققت على ارضه.
ففي حي الحسين قرابة المئتي جامع، في مساحة محدودة نسبيا، جعلت هذا الحي هو الاعلى كثافة في جوامعه من حيث العدد..كما انها من الناحية التاريخية الجوامع الأهم في القاهرة كلها، تندرج جميعا في عداد الاثار، وأحدثها تاريخا عمره لايقل عن 150 عاما تقريبا واذا كان ثمة شارعان رئيسيان متعامدين في حي الحسين ـ شارع الازهر وشارع المعز لدين الله الفاطمي ـ فان الشارعين يحويان أهم هذه الجوامع القاهرية على الاطلاق.. شارع الازهر يكفيه احتواء الجامعين ـ الازهر والحسين ـ أما المعز فيحتوي جوامع العصور الفاطمية والايوبية والمملوكية والعثمانية، ويحتوي أهم الأسبلة والقباب والتكايا والمدارس الإسلامية في مصر قاطبة.. حسبنا منها جوامع: الحاكم بأمر الله والأقمر والسلطان قلاوون والناصر محمد بن قلاوون والظاهر برقوق والمؤيد شيخ والأشرف الغوري..فضلا عن قباب وأسبلة وخانات (فنادق) بعض هؤلاء انفسهم، وجوامع وكتاتيب واضرحة أمراء وصالحين واولياء من عصورهم.
لذا فان نحو 90 بالمئة من مشروع القاهرة التاريخية الذي تبناه وزير الثقافة المصري فاروق حسني وباشره منذ زلزال مصر الشهير 1992 والى العام الماضي كان ينصب على اثار شارع المعز بقلب حي الحسين وهو المشروع الذي دام اكثر من 15 عاما وتكلف قرابة 50 مليون دولارا أميركيا، وانتهى بانقاذ ثروة مصر المعمارية الاسلامية من الضياع المؤكد واعلان شارع المعز لدين الله والمناطق المحيطة به والتي تمثل في مجملها مساحة كبيرة من حي الحسين محمية تاريخية.
من هنا يؤم المصريون والعرب والمسلمون والسائحون حي الحسين بحثا عن الروح، يزورون الأولياء ويتبركون بهم ويتعلقون باهداب أستار أضرحتهم ونوافذها الفضية اللامعة وأضوائها الخضراء، او يتابعون بعين الانبهار فنون العمارة الاسلامية الجبارة التي وصلت الى اوج نضجها في العصور المملوكية، ويدخلون جوامع هذا الحي مصلين داعين مستغفرين، ويخرجون مع الروح متصالحين متآلفين تائبين.
لعب حي الحسين هذا الدور الروحي باقتدار ـ ولايزال ـ وفي الوقت ذاته هو حي الحياة والجسد..ففيه أكبر أسواق الذهب القديمة في حي الصاغة وفيه أكبر أسواق العاديات في خان الخليلي، وفيه صناعات كادت ان تندثر لكن من يريد منجاتها لا يجدها الا في ربوع هذا الحي وحده كمشغولات وانية النحاس والفضة والبرونز، وقماش الخيام. وفي الوقت ذاته ـ ولزوم ارضاء السائحين الاوربيين والاميركيين ايضا ـ ثمة سوق لبدل الرقص الشرقي التي يفتن بها الاجانب..فضلا عن كون حي الحسين يضم مجموعة من أروج المقاهي المصرية، التي يؤمها الناس من كل لون وجنس، حتى قيل ان من لم يجلس على مقهى (الفيشاوي) بقلب حي الحسن وعلى بعد 50 مترا من جامع الامام الحسين، لم يعرف مقاهي القاهرة على وجهها الحقيقي. من هنا فان حركة تجارية ـ سياحية كبيرة ومتعددة المستويات ومتنوعة يشهدها حي الحسين صباح مساء ومنذ ما يزيد على الف عام، والروح هنا متآلفة مع الجسد والدنيا على صلح مع الاخرة وكل يجد حاجته وكل يؤم الحي فيخرج منه راضيا سعيد، من دون تناقضات ولا تساؤلات، معادلة من التجانس العجيب يوفرها حي الحسين للروح والجسد!
[ نجيب محفوظ
أكسبت علاقة نجيب محفوظ بحي الحسين طبيعة خاصة الى هذا الحي.. لوهلة يبدو لمن يجالس المثقفين المصريين لأول مرة، انهم اصحاب ولع خاص بمقاهي الحسين. ولاعجب في ذلك..كون شيخ الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ، استن بينهم سنة الجلوس من وقت الى وقت على مقهى الفيشاوي، والغريب انه حتى من يناصبون ادب نجيب محفوظ الخصومة يملكون نفس الولع بمقاهي نجيب محفوظ في حي الحسين.
غير ان علاقة نجيب محفوظ بالحي لم تبدا بالمقاهي وانما انتهت بها..فهو من مواليد منطقة النحاسين بحي الحسين، وعاش في هذا الحي طفولته، وفي حي الحسين اختار نجيب محفوظ أن يعيش معظم أبطال رواياته وقصصه الأكثر شهرة، من الثلاثية (بين القصرين ـ قصر الشوق ـ السكرية) والأسماء الثلاثة لمناطق ثلاثة بحي الحسين يتنقل بينها الأبطال ويعيشون حياتهم التي تدور في مساحة زمنية نحو اربعين عاما.. و(زقاق المدق) وهو درب صغير مسدود في حارة متفرعة من شارع المعز، و(خان الخليلي)، أي أن نجيب محفوظ لم يختر فقط ان تدور الاحداث في الحي وانما سمى روايات متعددة له باسماء مناطق معروفة من حي الحسين.. وفي روايات اخرى ـ كملحمة الحرافيش مثلا ـ اجواء نفس الحي واسماء حاراته، وفي تحفته الأشهر(أولاد حارتنا ) الأحداث تجري بين الدراسة وحارات الحسين.. وفي (حديث الصباح والمساء) تجري الاحداث بين حي الحسين وبين حي القلعة ـ شرقي القاهرة وعلى مقربة من الحسين ـ وهي ظاهرة معروفة مرصودة في مجمل انتاج نجيب محفوظ.
حي الحسين عند محفوظ هو خلاصة الحياة المصرية التي عاينها وأحبها وتعلق بها برغم سكنى اسرته بعد ذلك بحي العباسية ـ شرق القاهرة ـ ثم سكناه هو في حي العجوزة على ضفاف نيل الجيزة.. يبدو ان محفوظ توصل قبل الجميع الى هذه المعادلة التي تقول ان حي الحسين هو نموذج للصلح بين الرغبة الاكيدة في الحياة وبين التمسك بالرحمة الالهية المرجوة في الاخرة..وبين تواريخ متصارعة في دول قديمة وحدت بينها جغرافيا المكان.. هذه هي دنيا نجيب محفوظ التي حلق فيها خياله وتأسس عليها واقعه، فان كان نجيب محفوظ هو الذي نقل الحارة المصرية بتفاصيلها الحقيقية الى الرواية المصرية والعربية الحديثة، فان هذه الحارة ليست سوى حارات حي الحسين التي لا تعد ولا تحصى.. وشكلت معا دنيا نجيب محفوظ السحرية الخالدة.
ولعل هذه هي الصورة الكلاسيكية الراسخة لحي الحسين، التي لم تغيرها المتغيرات الكثيرة ولا المياه التي جرت في النهر، لم تعبث به القاهرة الاوروبية التي أنشأها الخديو اسماعيل (1863 ـ 1879) في منطقة وسط البلد، وتجاورت «القاهرتان» وتصالحتا، الغربي مع الشرقي في انسجام تام..ولا عبث بها احتلال انجليزي (1882 ـ 1956) حاول ان يغير روح مصر العربية والاسلامية، ولا غيرت فيها اشتراكية عبد الناصر ولا داهمها انفتاح السادات، وفي عصر الارهاب المسلح في التسعينيات، ظل حي الحسين حيا امنا بعيدا عن اية ضربات.. وكأن هذا الحي مشدود بأواصر لاتنقطع الى التاريخ البعيد السعيد، وكأنه مشدود الى معنى التصالح طوال الوقت لا تنفصم عراه أبدا.. وكأنه حلم يوتوبي وليس حقيقة من لحم الجغرافيا ودم التاريخ!
ولعل هذا الامان الفريد الذي امتد في حي الحسين سنوات طويلة، هو ماجعله هدفا للارهاب هذه المرة.. وكأن المطلوب رسالة ترويعية، تؤكد ان الارهاب يستطيع ان يطال أعز الأماكن على قلوب المصريين، ويطال في الوقت ذاته تلك المنطقة التي تشهد رواجا سياحيا متدفقا طوال العام تقريبا بين سياحة عربية واجنبية، وهكذا يفيق الأحبة ومريدو الصالحين والسائحون الهائمون بجمال الحي على حقيقة هذا العصر القبيح الذي يجتاح الحياة بمفرداته التي تتلون بحمرة الدم وتفوح منها روائحه!
المستقبل