العراق: نصر شيعي ام وطني ؟
عبدالامير الركابي
الأمر الاكيد منذ الآن، ان ما حدث في انتخابات المحافظات، قد زاد في تعقيد الموقف على مستوى العراق ككل. والديناميات التي اظهرها الناخبون، والكتل، مع دلالاتها التي لم يتوقف المتابعون عن قراءتها، ربما كانت في طريقها الى الانقلاب من هنا فصاعدا. ولايخلو المشهد التالي، حتى من احتمالات التفجر، اذا لم يعالج الموقف بروح التقدم الى الامام، فلم يعد بمقدور المالكي ان يراوح، أو ان يفكر بالتراجع. وعليه منذ بدأ رحلته الحالية الى النصر، ان يواصل عبور المزيد من الخطوات، فالشوط لا يزال في بدايته، واولئك الذين جلسوا الآن مغتبطين يريحون اجسادهم، من تعب الايام الماضية، وهم يدورون في المحافظات، سرعان ما سيكتشفون حدود وثقل ما فعلوه، فالخطوة الناجحة في حالتهم، هي مجازفة تفتح الباب على طريق ملبد بالمفاجآت وبالعوائق.
وحتى لايكون المالكي بائع اوهام، عليه ان يبلغ المحيطين به، ان ما فعلوه جيد، لكن قفزة واحدة مهما اتسعت لا تكفي، لأن الثمن الواجب دفعه، اكبر بكثيرمما جرى الايحاء به حتى الآن. كيف سيقرر المالكي التصرف بعد هذه الجولة؟ هل سيميل الى “مصالحة ” من هزمهم، ويعود الى معسكرهم من موقع القوة هذه المرة؟ ام انه سيواصل الامساك بالخيط الذي نسج عليه، كي يرتقي سلم المراتب والاحجام؟ صحيح انه استعمل المال العام، كي يؤسس مجالس الاسناد، واحاط نفسه بكتل شتى من المناصرين، ومؤكد ان قوته الحالية، هي بالدرجة الاولى وليدة وجوده على رأس الحكم. لكن ما حققه لم يكن ليتحقق مطلقا لولا موقفه السياسي، الذي واظب على التعبير عنه خلال أشهر. فلقد هاجم مرارا الطائفية، والمحاصصة، والفيدراليات ودعاواها، وطالب بحكومة مركزية قوية، وألمح لا بل قال صراحة، بأن الدستور الحالي بحاجة الى اعادة نظر، وواجه زعماء الاكراد بقوة، حول صلاحيات المركز، وحول كركوك. وكل هذه شعارات مناقضة لمشروع الاحتلال السياسي، الذي ارسي بعد الغزو مباشرة، واعتمد متحولا الى قواعد تقرر هوية الحكم والنظام، بينما ثبت تعارضه المطلق مع الحقائق الوطنية، وتصادمه مع خاصيات البلاد، ومتطلبات اعادة بناء اسس نظام جديد، يتجاوز ماضي الدولة الاحادية، ويحقق النصاب الوطني للمجتمع مجسدا في دوله.
ما فهمه العراقيون، وما اوحى به المالكي، انه مع الخروج من “العملية السياسية”، ومع ان ما صرح به تباعا، لم يتعد نطاق الوعود، الا ان العراقيين، وقسم مهم منهم استقبلوا مواقفه تلك بلهفة، وقرروا البناء عليها، لا بل حولوها من جهتهم، الى موقف عملي، علينا ان ننتبه له، وبالاخص لهذه الطاقة الهائلة، لمجتمع يثبت حتى الآن، انه خارق الحيوية والدينامية، ولا يكل مطلقا عن ان يكون مقررا وحيا. انه لا يفوّت اية فرصة، دون ان يقول رأيه، متعدياً ذلك الى تحديد الاتجاهات، واصدار احكام عمليه، وهذه نقطة على المالكي ان يقرأها الآن جيدا، اذا اراد ان لايوضع تحت رحمة جموع حساسة، بمنتهى الذكاء والايجابية الحاضرة والملحاحة، ويا لويل للمالكي، لو انه اراد ان يلعب اليوم او غداً، باصوات من منحوه اصواتهم في الجولة الحالية. فقد صرح احد النواب الاكراد، بأن الاجواء بينهم وبين المالكي تتحسن، وان الازمة بينهما في طريقها للحل، وتبع ذلك تصرف غريب ومستهجن كليا، صدر عن رئاسة الوزراء، بحق الشيخ حارث الضاري، امين عام ” هيئة علماء المسلمين “، واتسم بلهجة حادة ومتشنجه، من المستحيل ان تصدر عن جهة، تعي بالضبط آفاق مسؤولياتها، ومايترتب عليها في المستقبل القريب. واذا كانت تصريحات مثل تلك التي جاءت على لسان النائب الكردي، يمكن ان توضع في خانة المناورات، حتى يثبت العكس، فان بيان الحكومة، الذي ينفي حدوث اي حوار مع امين عام “الهيئة” هو تصرف معيب واخرق بكل المقاييس، حتى لو لم يحدث بالفعل اي حوار مع الشيخ، وهو ما تأكد بالفعل، من الرد الضعيف، والحوادث العارضة، التي اوردها اعلام “الهيئة”، ردا على بيان الحكومة.
احد المنتمين الى “المجلس الاعلى”، صرح هو الآخر بان التحالف مع المالكي ممكن، وهذا يعني ان الاطراف التي خسرت في الانتخابات المحلية، تريد القفز على دلالات هزيمتها، اي ان تلغي مسارات الخروج على “العملية السياسية الاميركية”، السبب والحافز الوحيد، الذي دفع بالناخبين العراقيين الى التصويت للمالكي. وعلى جبهة “الائتلاف الشيعي” يجري الاصرار الآن، وفي الافق القريب، على محو ونكران التباينات، لمصلحة بقاء القاعدة التي ارسي عليها حكم “العملية السياسية الأميركية”. هل انتصر المالكي؟ يقول هؤلاء: لا بأس، وماذا في ذلك اذا جرى داخل البيت الشيعي الطائفي. اي ان النتائج التي تحققت، سيتم الالتفاف عليها باعادة تسييد المنظور الطائفي، الذي جرى التصويت ضده بالذات، وبهذا يذهب هباء، كل ما حدث خلال الانتخابات المحلية، والاصوات التي قالت لا للطائفية، والمحاصصة، ولا للفيديراليات، ستجد نفسها وقد عادت الى المربع الاول، اما من يمكنه ان يوجه مثل هذه الضربة /الهزيمة للناخبين والجمهور ويخذلهم، فهو المالكي دون غيره.
فأي قبول بالعودة الى التحالف الطائفي الشيعي، سيكون بمثابة خيانة لمئات ألوف المصوتين في كل العراق، ممن املوا بانتصار آليات العراق الوطنيه، وحقائقه الثابتة، غير المتوافقة مع منطق الطائفية والفيدراليات المفتعلة، والمحاصصات. وتنكبوا طريق استكمال عمل المقاومة المسلحة، بعد ان انجزت هذه مهماتها، وحققت النصر على الجبهة العسكرية. والاحتلال كما نعلم، وكما كنا نقول دائما، هو من ذراعين متلازمين. القوات الغازية العسكرية، و”العملية السياسية الاميركية”، ولا يمكن احداهما ان تنهار، دون أن تنهار الأخرى. واذا كان الذي جرى اليوم قد جرى، فلأن الوجود العسكري الاميركي قد انهار، وهو في طريقه للاندحار، و المقاومة المسلحة بغض النظر عن عللها، هي التي حققت الفصل الاول، والأخطر، من هذه المهمة، قبل ان تنفتح الافاق امام المهمة الحالية.
على المالكي ان يختار بصراحة، هل هو مستعد للذهاب الى النهاية، في التناغم مع متطلبات التحرير السياسي، ام انه فعل ما فعله حتى الآن، من باب اثبات الوجود داخل الائتلاف الطائفي الشيعي؟ لا بد انه سيزن الامور، وستلوح له تهديدات، من نمط تلك التي تتهمه بالعمل ضد مصالح “الطائفة”، وفي هذا المجال عليه ان يكون واعيا لمثل هذه الاكذوبة، ففي العراق لا وجود فعلي لمثل هذا التعبير الجزئي عندما يتعلق الامر بالحقيقة الوطنية، والمفهوم الوحيد القابل للحياة، هو ذلك الذي يخترق الطوائف، وهذا ما تقوله التجربة الحالية بوضوح. بعد كل تاريخ الاحتلال، ومسارات وتقلبات الاوضاع بين 2003/2009، لا شك في ان الخيارات التي تواجه المالكي، خلال اللحظة الراهنة صعبة، فهو يريد حتما ان يعود لرئاسة الوزارة مرة اخرى، ومن الطبيعي في حالته، ان يفاضل بين الخيارات والاثمان المطلوبة، من أجل مثل هذه الهدف.
ولا يوجد امام الرجل غير طريقين، فإما المناورة من موقع القوة، والقبول بخيانة الاصوات التي منحته النصر، وحينها سنرى عودة المالكي الى الصف قويا، لكي يحظى باتفاق موثق يضمن عودته لرئاسة الحكومة، او يقرر الذهاب بعيدا، ويختار طريق تغيير مسار الوضع السياسي وعموم التحالفات جذريا، ويقرر ايجاد قاعدة انتخابية وطنية، عابرة للطوائف، ذات منحى وطني وديموقراطي شامل. والخيار الثاني يساوي مجازفة خطرة، ستواجه من جانب الاطراف الطائفية باعنف رد يمكن تخيله، بينما سيحتاج المالكي وقتها، الى ثقة ودعم وتحالف القوى العلمانية المناهضة للاحتلال مجتمعة، ولايبدو ان الاحتلال سوف يعرقل ظهور كتلة لاطائفية، تصبح هي ركيزة الوحدة الوطنيه، وميول اوباما، والازمة الاميركية المتفاقمة، يمكن ان تزكّي مثل هذا الميل، خاصة ان وجهة كهذه، من شأنها ان تقلص النفوذ الايراني، لمصلحة عودة وطنية عراقية توافقية، ولكن انتقالا خطرا كهذا، لايتوقف نجاحه فقط على رغبة المالكي وحده، فالوقت ضيق، وهو يحتاج الى كسب الثقة سريعا، خاصة من القوى الوطنية المناهضة للعملية السياسية، وهذا مقصد يمكن ان يتحقق، او لا يتحقق كما يجب، وبالكيفية التي تؤمن المطلوب، مع ان الاحتمالات قد تزكّي نجاح مثل هذا الخيار، اذا هو درس بدقة، وتم التوجه له بصدق وسرعة.
اسوأ ما يمكن ان يحدث الآن، هو اختيار التأجيل، اي تفضيل المناورة الاستراتيجية، بالقول بان دورة ثانية على رأس الوزارة، هي الضمانة للعبور الى المرحلة الثانية من التغيير، وهو مايعني قبول المالكي بالتفاوض مع الاحزاب الطائفية، بالعودة اليها، بشرط موافقتها على ترئيسه لدورة اخرى، وبهذا يضمن استمرار امساكه بالوسائل، التي تتيح له الانقلاب على “العملية السياسية”. وهذا الخيار اذا تم اعتماده، سيسقط المالكي في عين مناصريه، وان هو وعدهم سرا، بأنه يريد استكمال السير على الطريق نفسه، انما بعد ضمان موقع الرجل الاول في السلطة. ولابد هنا من أن نأخذ في الاعتبار، تنبه الاطراف الاخرى، من امثال المجلس الاعلى، والمتزعمين على الاكراد، وان نتوقع شروطا، واستدراكات، مقابلة للشروط التي قد يطلبها المالكي ويحصل عليها، هذا عدا الاحتياطات الأخرى، والاستعداد لأي طارىء، قد يفرضه المالكي مستقبلا على الوضع، ويومها سيعم التوتر والصدام، بتوازنات مختلفة، وتداخلات اقليمية لا احد يستطيع منذ الآن تقدير طبيعتها ولا حجمها. وما قد يفكر المالكي بتحاشيه الآن، سوف يقع مستقبلا في ظروف، الأرجح انها ستكون اسوأ بالنسبة له، من الظروف الحالية، حيث دفق الاستعداد الجماهيري، ووضوح الموقف الشعبي النسبي، وامكانات تطويره، على قاعدة تنمو باطراد، ولاتعاني من انتكاسات، او تشويشات، من نوع تلك التي ستصيب الموقف الوطني الشعبي العفوي، لو ان المالكي عاد الى الحظيرة الطائفية، ولو مؤقتا، او من باب التقية.
اللحظة دقيقة للغاية، والقوى المناهضة للعملية السياسية، قد تكون هي العنصر الفاعل المستجد فيها، الامر الذي يتطلب من هذا المعسكرتنبها ومبادرة غير عادية، أول وجوهها مغادرة منطق الورق والنظريات ومحاكاة الوقائع الحية، واتجاهات الحراك الاجتماعي الحي. اما المالكي، فهذه لحظة اختباره الحقيقية، وعليه ان يختار بعد ما تحقق له من نصر انتخابي باهر، بين ان يكون قائدا، والقائد في العراق يحتاج الى حساب النتائج برؤية وحساسية سياسية وتراجيدية، وبين ان يظهر بمظهرالسياسي البراغماتي، ومثل هذا النمط من السياسيين، لا يحبه العراقيون، ولا يحترمونه، مهما فعل. الآن ايضا، يقف العراق كعراق، على خط خيارات تاريخية كبرى. اما الافراد، فيختارون حسب احجامهم وحقيقتهم، وهؤلاء ليسوا هم في نهاية المطاف، من يقررون مصير البلاد، ابدا.
(كاتب عراقي)
المستقبل