حبل السرّة الأجنبي والتريليونات النفطية
نصر شمالي
إلى هذا الحدّ أو ذاك من الكفاية، تتّسم اقتصاديات معظم دول العالم، الثريّة والناهضة والفقيرة، بسمة التنوّع والتكامل، والتنمية المتوازية أو المتوازنة بين مختلف فروعها، ففروع الاقتصاد التقليدية التاريخية، الثابتة والمتعدّدة، تبقى تنميتها في رأس سلّم أولويات الدول الطبيعية، والقطاع البشري الذي هو دائماً الأسمى والأغلى، باعتباره الغاية والوسيلة، يبقى الأساس في مشاريعها التنموية الشاملة التي عمادها التنمية البشرية، أمّا فروع الاقتصاد الطارئة وغير الثابتة، التي يمكن أن يتجاوزها التطور، أو أن تنضب، فلا يمكن لدولة طبيعية الركون إليها وحدها مهما كانت قيمتها وأهمّيتها واستمراريتها الراهنة، كما هو حال فرع النفط ومشتقاته مثلاً! غير أنّ الحال ليس كذلك في دول النفط العربية، خاصة الخليجية، فهي دول يبدو مصيرها مرهون بمصير النفط الذي هو فرعها الاقتصادي المهيمن، بل شبه الوحيد، والذي هو مهما استمرّ فلن يستمرّ أكثر من عشرات السنين التي لن تتخطّى القرن!
لقد تميّزت معظم أوطان دول النفط العربية بأنها أصلاً صحارى قاحلة شاسعة، تتخللها واحات صغيرة قليلة صالحة للحياة، فكان اقتصادها التاريخي الثابت، قبل اكتشاف النفط وعلى مدى آلاف السنين، هو التجارة دولياً وتربية المواشي محلّياً، وما عدا ذلك ليس أساسياً ولا مجدياً سواء أكان زراعياً أم صناعياً، وقد حدث الانقلاب الهائل في أوضاع هذه البلدان ابتداءً من القرن السابع الميلادي، حيث توحّدت تيارات الأمة في بحيرة عظيمة واحدة، فكانت الوفرة البشرية المتجانسة النامية، والتنمية البشرية العملاقة الرائعة التي أغنت العالم أجمع، وكان التعدّد والتنوع والنموّ الاقتصادي، التجاري والزراعي والصناعي، وقد دام الحال كذلك حتى نهايات القرن الخامس عشر وبدايات السادس عشر، حيث انطلقت عواصف العصر الأوروبي الأمريكي المدمّرة، فبدأ الأوروبيون بإغلاق ثغور الوطن العربي الكبير، في جبل طارق وباب المندب وهرمز وغيرها، خلال الأعوام 1492 ـ 1497، واستولوا على طرق التجارة البرّية والبحرية وحرّموا على العرب استخدامها تحت طائلة التدمير والإبادة للقوافل والأساطيل العربية، فكان الحصار الرهيب المحكم المفروض منذ حوالي خمسة قرون والمستمرّ حتى يومنا هذا، والذي استكمل باحتلال بلادنا وتجزئتها والتحكّم بأوضاعها حتى يومنا هذا أيضاً، وقد ظهر النفط مؤخّراً في الأجزاء الصحراوية من وطننا ونحن في هذا الحال من التجزئة والحصار والضعف والهوان!
ينبغي أن نذكر هنا أنّ أجداد آل سعود الحاليين، بعد قرنين من بداية الحصار الشامل والفناء البطيء، أدركوا جيّداً طبيعة المأساة التاريخية المميتة التي حلّت بالعرب في جميع أقطارهم وأمصارهم، فانطلقوا من واحة الدرعية في نجد بقيادة سعود بن محمد بن مقرن، في العقد الثاني من القرن الثامن عشر، يعملون بدأب من أجل استرداد وحدة الأمة، انطلاقاً من توحيد الجزيرة العربية فبلاد الشام والعراق أولاً، وهم نجحوا في توحيد الجزيرة العربية كلّها تقريباً، وقرعت قواتهم أبواب دمشق وبغداد، وقد استمرّت تلك العملية التاريخية الكبرى حوالي قرن من الزمان، وكادت جهودهم تتكلّل بالنجاح في أكثر من مناسبة رغم الضعف الشديد في الوسائل، غير أنّ ظهور الإنكليز لأول مرة في الخليج العربي، في مطلع القرن التاسع عشر، بعد أن استتبت الأوضاع لهم تماماً في الهند، حسم الوضع في غير صالح المشروع التوحيدي المستقلّ، فبدأت الأحوال تنقلب رأساً على عقب شيئاً فشيئاً ابتداءً من العام 1818، خاصة بعد الحملة المصرية/العثمانية ضدّ نجد، والتي جاءت نتائجها لصالح الإنكليز الذين تعاظم حضورهم في الخليج العربي، ثمّ لصالح الأمريكيين ابتداء من منتصف القرن العشرين!
اكتشاف النفط
لقد بدأ اكتشاف النفط في بلادنا منذ أواخر القرن التاسع عشر، في وقت دخلت فيه دولة الرابطة العثمانية مرحلة الاحتضار وبلغ النفوذ الأوروبي في بلادها أقصى مداه، ليكتمل هذا النفوذ بانهيار الرابطة العثمانية وبتحوّل النفوذ الأوروبي غير المباشر إلى احتلال مباشر لبلاد الشام والعراق، وليس ثمة شكّ في أنّ تجزئة بلاد الشام والعراق، التي رسمت حدودها التعسفية القسرية اتفاقية سايكس/بيكو، ومثلها تجزئة منطقة الخليج، وكذلك الإقرار النهائي لمشروع إقامة الكيان الإسرائيلي، قد حدث كلّه على ضوء مصالح الحلفاء المستقبلية النفطية على وجه الخصوص، فسنوات الحرب العالمية الأولى كانت في الوقت نفسه سنوات الثورة العالمية النفطية التي لم تبق شيئاً في الحياة الأممية على ما كان عليه قبلها،وهكذا استولى الأوروبيون والأمريكيون على النفط العربي من جهة، وصارت لهم مصلحة في المزيد من تجزئة البلاد العربية ضماناً لنفوذهم وسيطرتهم على هذا النفط من جهة أخرى، وبالطبع كان لا بدّ للتجزئة من أن تشمل جميع البلدان المتاخمة لمنابعه والممتدّة حتى مصبّاته على سواحل المتوسط، وكان لا بدّ من إقامة الكيان الإسرائيلي الذي سوف يتناغم ويتكامل وإن سلباً مع كيانات سايكس/بيكو بعد استقرارها في أوضاعها المصطنعة الجديدة! اليوم، نجد مناطق النفط الصحراوية القاحلة معزولة عن عمقها الجغرافي الشاسع الضروري الخصيب، ونجد شعوب النفط الصغيرة معزولة عن عمقها البشري الكثيف الضروري المبدع، ونجد النفط بالتالي محروماً من مجاله الحيوي الجغرافي والبشري والاقتصادي، وقد استعيض عن هذا المجال الطبيعي الأمومي بمراكز الغرب البعيدة، فهي تغذّي منابع النفط بوساطة حبل سرّة اصطناعي أجنبي، لتتغذّى منه بالمقابل بتريليونات الدولارات النفطية! والسؤال الأول الذي يطرح نفسه أمام الوقائع المأسوية هو: ترى لو نجح مشروع سعود بن محمد بن مقرن التوحيدي الذي انطلق في مطلع القرن الثامن عشر، أو مشروع محمد علي باشا التوحيدي الذي انطلق في القرن التاسع عشر (بغضّ النظر عن اختلافهما بل اصطراعهما) فأيّ حال طبيعي طيّب كانت عليه بلادنا وأمتنا اليوم، وأيّ موقع إيجابي دولي كانت تتبوأ بثروتها النفطية الإضافية الثمينة؟ أمّا السؤال الثاني فهو: ترى أليس ثمّة إمكانية لتلافي خسارة القليل المتبقّي بعد ضياع الكثير، فنستردّ شيئاً من تكاملنا الجغرافي والبشري والاقتصادي قبل فوات الأوان، خاصة وأنّ الاضطرابات التي تعصف اليوم بأركان هذا النظام الربوي الصهيوني العالمي تسمح بذلك، بدليل صعود الدول العشرين إلى القمة العالمية، وبينها من لم يكن حتى الأمس القريب أفضل حالاً منّا؟
كاتب سوري
القدس العربي