تغيّرات في الأفق العربي
سليمان تقي الدين
يستشعر العرب على المستويين الشعبي والرسمي الحاجة إلى التغيير. لقد حمل العقد الأول من الألفية الثالثة تحولات كونية عميقة. النظام العالمي الجديد الذي حاولت الامبراطورية الأمريكية فرض عناصره ومقوماته اصطدم بالكثير من العقبات والتعقيدات فتوقف عن التقدم، إن لم نقل أنه الآن في طور الانكفاء الكبير.
لقد اختل الدور القيادي للولايات المتحدة الأمريكية مع الأزمة المالية الاقتصادية فعلاً. أجمع حلفاء الولايات المتحدة نفسها في الغرب الصناعي المتقدم على أن المرجعية السابقة شبه الوحيدة للاقتصادي الأمريكي لم تعد صالحة لمعالجة الاختلالات العميقة الجارية على مستوى العالم. أما النزعة العسكرية التي اتصف بها عهد الرئيس جورج دبليو بوش ومعه فريق المحافظين الجدد فقد أدت إلى انتكاسات كبرى في العلاقات بين محاور العالم الرئيسية وتسببت في نزاعات دولية.
نال العرب من هذه التطورات النصيب الأوفر. فقد شكّل احتلال العراق ضربة قاصمة للأمن القومي العربي، ذلك أن هذا البلد شكل دائماً خط الدفاع الأول عن أمن الخليج العربي والعمق الاستراتيجي لدول المشرق العربي، كما أن انهيار النظام السياسي فيه أورث مشكلات بين مكوناته العرقية والمذهبية كادت تنتقل عدواها إلى جميع ارجاء المنطقة وتنذر بمشكلات أهلية واسعة. كما أن هذه الاندفاعة العسكرية الأمريكية شكلت نوعاً من الغطاء القوي للتطرف “الإسرائيلي”. عاشت “إسرائيل” خلال هذه المرحلة في ظل الدلال الأمريكي غير آبهة بأن تقدم للعرب أي مشروع لتسوية سياسية على صعيد القضية الفلسطينية المركزية.
حاول العرب بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001 احتواء الاندفاعة الأمريكية على المنطقة التي ترافقت مع حملة من الأفكار العدائية، فقدموا مبادرة السلام العربية في بيروت عام 2002. وحاولوا في مناسبات أخرى تبرئة الذات من نزعات التطرف والإرهاب والأصولية، وقدموا الكثير من الخطوات التي كان من بينها “مؤتمر السلام وحوار الأديان” الذي أدخل “إسرائيل” في منظومة الحوار مع العرب والمسلمين.
لكن الجهود العربية هذه فشلت لأنها زادت من التصلب “الإسرائيلي”، وبتنا نسمع الآن من داخل الكيان الصهيوني دعوات إلى “يهودية الدولة” وطرد عرب 1948 وشهدنا حرباً الغائية في غزّة، وها نحن الآن نواجه التطرف “الإسرائيلي” متحداً في قيادة سياسية جديدة ما يهدد المنطقة بالمزيد من الحروب والمواجهات.
نعتقد أن حرب غزّة أظهرت لدى جميع العرب أن المسار السابق للأمور لم يعد مجدياً وأن مراجعة سياسية باتت ضرورية، وأن تكريس فكرة “الاعتدال العربي” والاتكال عليها لمنع بناء استراتيجية حقيقية لمواجهة المخاطر لم تعد سياسة نافعة. ولقد انطلقت أولى بوادر المراجعة للموقف العربي في قمة الكويت عندما قام الملك السعودي بمد يد المصالحة لسوريا متخطياً كل الاعتبارات، وأعلن أن المبادرة العربية لن تظل إلى الأبد مطروحة على الطاولة.
لكن اللافت أكثر هو الإجراءات التي اتخذتها المملكة على الصعيد الداخلي من خلال توسيع مجلس الشورى، وتجديد تشكيل مجلس العلماء المسلمين، والتغيير الوزاري، والمبادرات الإصلاحية الأخرى. هذه الخطوات تصب جميعها في ما يمكن اعتباره استجابة إلى حاجات تفعيل السياسة العربية وتطوير أدوات الحكم والممارسة السياسية.
على أي حال، يظهر بوضوح اليوم أن العرب هم قطب أساسي في الواقع الاقتصادي الدولي لأنهم يملكون سلعة استراتيجية لا يستغنى عنها، وهي سلعة تشكل فوائد نقدية تفتقر إليها الكثير من الدول الصناعية التي تواجه مشكلات حقيقية لتسويق سلعها وإنتاجها.
إلاّ أن الظاهرة الأبرز هي الاهتمام بمجالات التعاون الاقتصادي العربي التي تجلّت في قمة الكويت، والتي تؤكد أن العرب يدخلون إلى مسألة اتحادهم من الباب الفعلي أي باب التعاون ومراكمة خطوات التكامل الاقتصادي والتفاعل الثقافي. ولعل من المهم على هذا الصعيد إحياء النقاش حول دور جامعة الدول العربية لتطويرها كمؤسسة إقليمية.
لقد ظهرت خلال هذا الأسبوع دلائل وعلائم إيجابية جداً على صعيد العلاقات السعودية السورية، ومن المتوقع أن تتطور الأمور سريعاً لإحياء لقاء الدول الثلاث: السعودية وسوريا ومصر، هذا اللقاء الذي يشكل نقطة ارتكاز مهمة للعمل العربي المشترك. إذا سارت الأمور كما هو متوقع إلى المزيد من الإيجابية فإننا سنكون أمام قمة عربية في مارس/ آذار المقبل أكثر فعالية وأكثر جدية في مقاربة القضايا العربية، ولا سيّما المشكلات التي تمثل تحديات أو تهديدات لأمن العرب القومي، وفي المقدمة التطورات على جبهة الكيان الصهيوني مع صعود حكومة التطرف.
الحليج