صفحات مختارةعبدالله تركماني

محاولة تحديد أهم قضايا المسألة القومية

عبدالله تركماني
الجزء الأول
تبدو أهمية تعاريف ومصطلحات المسألة القومية حين ندرك غياب الآليات السياسية التي تضبط إدارة الصراعات في العالم العربي، إذ أنّ القدرة الأكثر غيابا هي إدارة الاختلاف بين التيارات والرؤى العربية المتباينة، أي غياب الاعتدال والوسطية والحوار، مما يؤدي إلى النزاعات والانشقاقات المدمرة.
ومن هنا تبدو أهمية العقل الحضاري الحديث الذي زوّدنا، ليس بتصورات عامة فقط، بل بطريقة لقراءة الواقع، بطريقة من أجل أن نعرف. فمثلا أعطانا القدرة على التمييز بين الثورة الفرنسية الكبرى، بتراثها الديمقراطي والعقلاني، وبين الاستعمار الفرنسي. ثم أنّ الحضارة ظاهرة مركّبة ومتغيّرة، فكل حضارة تكونت تاريخيا من روافد متعددة انصهرت وتفاعلت، دون أن تضيّع – بالضرورة – كل معالمها. فكل حضارة انعزلت اندثرت، لذا لا فرار من التعامل مع الحضارة الغربية، وتأكيد الهوية العربية يكون في أسلوب التعامل ومحتواه.
ولا شك أنّ أهم عنصر في هذه الرؤية هو ربط التاريخ بالحضارة، وتحرير الوعي التاريخي العربي من إشكالياته الماضية التي كانت تدفعه إلى الاكتفاء بما هو عليه، وإلى الشعور بصلاحية أنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي النظر إلى نفسه في إطار الحركة الكونية العامة. ولا شك أيضا أنّ فهم التاريخ هو الشرط الأول لفهم عملية إعادة الانخراط فيه والعودة إليه، خاصة بالنسبة للجماعات التي شعرت بأنها مُستبعَدة منه، وقد أدرك رواد النهضة العربية في القرن التاسع عشر هذه الحقيقة، فها هو خير الدين التونسي يقول: سمعت من بعض أعيان أوروبا ما معناه: ” إنّ التمدّن الأوروباوي تدفّقَ سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيُخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار إلا إذا حَذَوهُ وجَرَوا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق “.
إنّ فكر عصر النهضة العربية، بتعدد تياراته، تمكّن من التوغل والانتشار في الثقافة العربية المعاصرة، وأنتج وعيا سياسيا واجتماعيا كان كفيلا بصياغة حس سليم بالهوية الثقافية العربية، وقد ظهر ذلك في انخراط قطاعات واسعة من الشعوب العربية في النضال التحرري الوطني لنيل الاستقلال السياسي لأقطارنا العربية.
ويبدو أنّ ثمة غيابا للنظرة التاريخية إلى التقدم في الوعي العربي المعاصر، فالنظرة التاريخية لا تعني مجرد النظر في التاريخ ولا مجرد استحضار وقائعه، بل تعني إدخال الزمان كعنصر محدد يجعل من تسلسل المراحل التاريخية صيرورة وليس مجرد تعاقب. كما كان المكان غير واضح المعالم في الوعي العربي، فالوحدة أو الاتحاد شعار رفعه العرب داخل الإمبراطورية العثمانية، ثم رفعوه للتعبير عن الرغبة في وحدة سورية الطبيعية، ثم للتعبير عن الطموح إلى توحيد بلاد العرب في آسيا… ثم صار شعارا لوحدة تمتد إلى مصر، ثم إلى الجمع ما بين المحيط والخليج.
ومن هنا تبدو أهمية إعادة صياغة المفاهيم النظرية المرتبطة بالمسألة القومية العربية، وبفصل المعرفة عن السياسة، وتمييز الثقافة، الموجهة إلى حقل أوسع بكثير من السياسة بمعناها التحزبي الضيق، عن السياسة. ولعل اتخاذنا هذه المسافة النقدية من السياسة يساعدنا على المساهمة في الغربلة الثقافية المطلوبة لإعادة تأسيس المشروع السياسي على أقدام قادرة على النهوض بالأمة.
وفي سياق ذلك يبدو التساؤل مشروعا عن موقع الحداثة في كل من مشروعي التيارين القومي والماركسي في العالم العربي.
إننا نتطلع إلى الكشف عن الأبعاد النهضوية ( العقلانية، التقدم، التنوير، الديمقراطية، العلمانية)، التي كانت تنطوي عليها حركة النهضة العربية الحديثة، والتي أُهدرت لاحقا في مشروعي التيارين القومي والماركسي، واختُزلت إلى مستوى خطاب سياسوي محكوم بالاعتبارات الديبلوماسية الدولية، لا بضرورة الوعي بإشكالية التأخر العربي التي قادت إلى الهزائم المتكررة.
إنه من المفارقات الملفتة للنظر أنّ القضايا الأساسية، التي شكلت عماد فكر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، مازالت حية قائمة كمطالب وطموحات عربية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. والسؤال هو: لماذا هذا الانفصال بين الخطاب المُعلَن والممارسة السياسية في المشروع العربي خلال التاريخ المعاصر ؟ هل ثمة تعارض بين مصالح وطموحات المحكومين والحاكمين ؟ هل ثمة تعارض بين خطاب الوحدة والتقدم وإرادة الحاكمين ؟ هل ثمة انفصام بين القول والعمل لدى التيارات السياسية العربية ؟
إنّ التساؤلات السابقة تفرض علينا أن نعيد طرح قضايا المسألة القومية العربية على نحو جديد، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الأمة – الدولة الحديثة هي جوهر تلك القضايا. ومن هنا تبدو أهمية تجديد الخطاب النهضوي العربي على قاعدة: أنّ الدولة الوطنية/ القطرية الديمقراطية تشكل أساس دولة الأمة الحديثة. فمع التوحد تتاح إمكانية نجاح مشاريع التنمية العربية، ويشتد الإحساس بالأمان لدى الشعوب العربية. كما أنّ الكيان القومي الأكبر يتحمل أشكالا للتعددية واختلاف التيارات الفكرية والسياسية، بما فيها تلك الأقليات القومية والطائفية التي يمكن أن تكون مصدر إغناء وتنوع مرغوبين.
وتبدو أهمية إعادة طرح قضايا المسألة القومية العربية، من وجهة نظر تحاول أن تكون جديدة، حين نعرف أنّ بداية الألفية الثالثة سوف تشهد إعادة طرح واسعة لمشكلة الأمة والقومية. ففي مقابل العولمة تبرز النزعات القومية بشكل كبير، ففي الوقت الذي ينزع فيه العالم، أكثر من أي وقت سبق، إلى أن يتعولم وإلى أن يخترق حدود الدول وسياداتها، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه التبعية المتبادلة ما بين أمم العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعلاميا، وفي الوقت الذي تتسارع فيه حركة الرساميل والبضائع وتتضاعف السيولات المالية العابرة للقومية، وتتحكم الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي إنتاجا واستهلاكا. وبكلمة واحدة في الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى ” قرية كبيرة “، في هذا الوقت يُرَّدُ الاعتبار، على نحو لم يسبق له مثيل، إلى عدة مصطلحات قومية مثل: الهوية، والأصالة، والخصوصية. وتدب حيوية في النزعات القومية والإثنية التي يبدو أنّ قلق العولمة قد أيقظها في كل مكان من العالم.
كما أنّ العالم يتجه نحو قيام تكتلات بشرية كبرى، سواء على مستوى قومي أو قاري، تشكل مجالا حيويا في الاقتصاد، وعنصرا رئيسيا في الأمن، وضمانة فعلية للاستقلال السياسي، وشرطا ضروريا للتحرر من الهيمنة الخارجية. وقد أصبح واضحا أنه في القرن الواحد والعشرين لا مكان للشعوب والدول الصغيرة التي لا تنضوي في كتل بشرية ضخمة تزيد في عددها عن مائة مليون نسمة على الأقل، وتزيد في مواردها عن حجم معين يمكّنها من الصمود والاسقرار.
لذلك نعتقد أنّ الحاجة تزداد إلى بحوث ودراسات عديدة، تتناول إشكاليات المسألة القومية العربية من الوجهتين التاريخية والنظرية، وقد يساهم ذلك في منح الوعي والعمل السياسيين رؤى مستقبلية مفيدة. وتبدو أهمية ذلك، إذا عرفنا أنّ استعمال المفاهيم والمصطلحات قد أُحيط بالغموض والالتباس، فاستُعملت المفاهيم في غير محلها، وساد الاضطراب بعضها الآخر. فمفاهيم مثل: الأمة، القومية، الوطن، الحركة الوطنية، الحركة القومية، لم تُستعمَل بدلالاتها الحقيقية دائما. ولم يكن هذا الخلط للمفاهيم بريئا تماما، بل ارتبط – في أغلب الأحيان – بتغطية موقف سياسي لدى استعمالها .
الجزء الثاني
الأمة:
ظاهرة تاريخية، يمكن تجريدها على شكل عاملين محسوسين: أولهما، طبيعي – بشري ( الأرض وجماعة من البشر ). وثانيهما، ثقافي ( اللغة – الثقافة )، إضافة إلى عامل الصيرورة التاريخية التي تتحدد بالتطور الاقتصادي – الاجتماعي – السياسي. وهذه العوامل الثلاثة أساس معظم النظريات في الأمة، بغض النظر عن اهتمام كل نظرية بعامل من هذه العوامل، واعتباره العامل الأساسي في تكوين الأمة.
فما هي إذن ” المجموعة من البشر ” التي تشكل الأمة ؟ إنها المجموعة البشرية التي تتميز بأصل ” إثني ” واحد، رغم أنّ التطور البشري جعل الاختلاط والتداخل بين المجموعات البشرية مسألة ممكنة. فلقد حدثت لدى الأمم المختلفة، لكن دون أن تفقد صلتها بأصلها، بل اكتسبت بعض السمات التي استفادت منها في حركة تطورها. وهنا تبرز اللغة كعامل تفاهم فيما بينها، وبالتالي تؤسس، في سياق تفاعلها مع الطبيعة، ثقافتها المشتركة. وهذا يوضح شيئا من التداخل بين مفهوم الأمة ومفهوم الشعب.
وهكذا نلاحظ، أنّ المعنى الاصطلاحي للأمة يفيد بأنها جماعة من الناس يعيشون على أرض متصلة ينطقون بلسان واحد، كوّنوا تاريخيا حضارة مشتركة، ويرغبون في العيش معا لتحقيق الاستقلال والمصالح المشتركة.
ولكي تكوِّنَ مجموعة بشرية أمة يجب أن تحظى بالاستقرار، أي أن تغدو الأرض وسيلة الإنتاج الرئيسية. وإذا ما توفر هذا الشرط فإنّ الأمة يمكن أن تتكون في مراحل مختلفة من التطور التاريخي، كما أنّ الأمة يمكن أن تتفكك بفعل انهيار الدولة المركزية وتشكّل دويلات وإمارات ومناطق منعزلة، وذلك تحت تأثير عاملين: أولهما، داخلي، يتمثل في انهيار البنى الاقتصادية والاجتماعية للدولة. وثانيهما، خارجي، يتمثل بقوى خارجية، طامعة بالمجال الجغرا – سياسي – اقتصادي للدولة، قادرة على التأثير في الوضع الداخلي. ولا شك بأنّ ذلك التفكك لا يعني، بحال من الأحوال، تصفية نهائية للأمة. إذ من الممكن أن تنهض الحركة القومية وتعيد توحيد الأمة، ثم أنّ إزالة بنى تأسست في مرحلة ما من تاريخ الأمة لا يفترض إزالة كل البناء الفوقي الذي تأسس على ضوئها.
ومن جهة أخرى، فإنّ الأمة الحقيقية لا يمكن تمييزها إلا بشكل استدلالي، مما يستوجب إيلاء اهتمام خاص لتغيّرات المفهوم، خاصة منذ القرن التاسع عشر. والمفاهيم متجذرة، اجتماعيا وتاريخيا وإقليميا، ويجب متابعتها بلغة هذه الحقائق. لذا، فإنّ الأمة والظاهرات المرتبطة بها: ” يجب تحليلها في ضوء الشروط والمتطلبات السياسية والتقنية والإدارية والاقتصادية وغيرها “. فقد كان المعنى الأساسي للأمة، والمعلن بالشكل الأكثر تكرارا سياسيا، مرادفا للشعب والدولة بمفهوم الثورتين الأمريكية والفرنسية. لقد كانت الأمة والدولة القومية، كما كان يراها أيديولوجيو عصر الليبرالية الظافرة (1830-1880) ، جزءا من الإيديولوجية الليبرالية بطريقتين:
1- لأنّ نشوء الأمم كان طورا من أطوار التطور، أو الارتقاء البشري، من المجموعة الصغيرة إلى مجموعة أكبر، من العائلة إلى القبيلة إلى المنطقة إلى الأمة، فـ : ” إنّ الأمة مرحلة من التطور تم بلوغها في منتصف القرن التاسع عشر “. وكان الوجه الآخر لهذا المنظور الليبرالي ” الأمة كارتقاء ” من الناحية العملية ” استيعابا لمجتمعات وشعوب صغيرة في مجتمعات وشعوب أكبر “.
2- ارتبطت الأمة الحديثة ببقية الشعارات الليبرالية الكبيرة عن طريق الترافق الطويل أكثر مما ارتبطت بفعل الضرورة المنطقية، مثلما ارتبطت الحرية والمساواة بالأخوة.
ولكنّ أيديولوجيي الليبرالية لم يبرزوا الحاجة الماسة للاقتصاد الرأسمالي إلى السوق القومية الموحدة، بل إلى التوسع الاستعماري لتأمين المواد الخام للصناعة الرأسمالية والأسواق لتصريف منتجاتها.
هكذا كان مفهوم الأمة، كما رآها المفكرون الليبراليون، وفي العصر الذي أصبح فيه أيضا مبدأ القومية قضية كبرى في السياسة الدولية، يختلف عن المبدأ الويلسوني لتقرير المصير القومي، الذي هيمن على السجال الذي دار حول المسألة القومية منذ الحرب العالمية الأولى.
على كل حال، إنّ الشعوب الصغيرة التي كان حقها في السيادة وتقرير المصير مكفولا طبقا لمبادىء ويلسون، لم يكن – من الناحية العملية – مسموحا لها، من قبل جيرانها أو مستعمريها الأكبر والأقوى منها، بممارسة هذا الحق. لذا، من الضروري أن نضع في اعتبارنا أنّ بناء الأمة، مهما يكن مركزيا بالنسبة لتاريخ القرن التاسع عشر، كان ينطبق على بعض الأمم فقط.
ولذلك فإنّ معظم الدول – الأمم الراهنة يتألف من شعب سائد وبقايا شعوب أُخضعَت وحُلّت ثقافتها في الدولة الجديدة. إذ أنّ ” الفرق بين الدولة – الأمة الحديثة والدولة – الإمبراطورية القديمة ليس في حقيقة الأمر فرقا جوهريا فيما يتعلق بقوانين النشوء والتطور والانحلال، ولكنه قائم في إنكار الدول القومية، التي نشأت على إثر تفكك الإمبراطوريات الكونية السابقة، لطابع التعدد الأقوامي، وإكراهها الشعوب الصغيرة المُخضَعة والأقليات إلى التخلي عن هويتها وتميّزها “.
كما أنّ الدارس لمعاني وأبعاد الأمة لابد أن يميّز بين مرحلة الدولة – الأمة، التي كانت فيها الأسبقية للدولة على الأمة، ومرحلة الأمة – الدولة، حيث كانت فيها الأسبقية للأمة على الدولة. وفي كلتا الحالتين فإنّ الأمة تشير مباشرة إلى ” سلطة الدولة القومية “، وعلى هذا فإنّ ” تكوّنَ الأمة ونشوءها هو تكوّنُ الشعب … مضافا إليه عملية بناء الدولة وتكوّنُ السلطة. فالأمة ليست مجرد الشعب بل الشعب مضافا إليه سلطة الدولة القومية أو مبرر قيام هذه السلطة على الأقل “.
فبالرغم من أهمية العوامل الطبيعية والثقافية والصيرورة التاريخية في تكوّن الأمم، فإنّ العنصر الأساسي لهذا التكوّن يكمن – أساسا وأولا – في الشعب، باعتباره علاقة اجتماعية وسياسية، أي مركز ومكانة ووظيفة، تحددها العلاقة القائمة بين الشعب وسلطة الدولة القومية، وبمعنى آخر هو العلاقة بين الدولة والمجتمع. إنّ الذي ينقل الشعوب من حالة التشتت السياسي إلى حالة الوحدة، هي تلك العلاقة التي تعطيها قيمة وتجعل الدولة تجسيدا لها ولهذه القيمة. أي تلك العلاقة التي تجعلها تجد تعبيرها وتنظيمها وتحقيقها لذاتها في الدولة، لا تلك التي تجعل من تحقيق الدولة نفيا لها وتنكيلا بها.
وطبقا للمفاهيم التي ذكرناها، فإنّ الأمة العربية ” موجودة بالإمكان، لا موجودة بالفعل “. فلماذا الأمة العربية موجودة بالإمكان وليست موجودة بالفعل ؟ هنا لابد من طرح ثلاثة جوانب: أولها، يتعلق بتكوّن الأمم، ودرجة ” النضج ” التي تسمح بذلك. وثانيها، يتعلق بدرجة التطور الاقتصادي – الاجتماعي التي تؤسس لنضج تكوّن الأمم، وبالتالي تفرض تحقيق الوحدة القومية. وثالثها، يتعلق بالأسباب التي جعلت تأسيس دول وطنية/قطرية ممكنا.
إنّ العرب أمة قديمة ” تبلورت في التاريخ، وتوحدت وأسست حضارة كبيرة. ولذلك، وفي سياق التطور التاريخي الذي امتد عشرات القرون، تحددت حدود الوطن، وأصبح موطن العرب محددا. لكنّ الأمة العربية تجزأت وتفككت، وجرى احتلالها مفككة في المرة الأولى من قبل الأتراك، ومجزأة في المرة الثانية من قبل الاستعمار البريطاني والفرنسي والإسباني والإيطالي. لكنّ معظم أقطارها قد تحرر واستقل وغدت هناك دول مستقلة “.
إذن ما هي المعوّقات التي منعت تطور الأمة إلى كيان الدولة الموحَّدة:
1 – منها ما هو متأتٍّ من صلابة وعراقة الهياكل الترابية التي تسمى بالأقطار، فالفتح الإسلامي غطّى أقطارا مكتسبة لتاريخ قديم، وبالتالي لخصوصيات قوية: مصر، العراق، الشام، المغرب.
2- في خصوص الحاضر والماضي القريب، من البداهة أنّ مصالح الحكام وشبكة المصالح المرتبطة بالدولة القطرية تحول دون ذوبان هذه الدول، مهما صَغُرَ حجمها، في كيان أضخم. النخب، بصفة عامة، إذا ما فقدت دولتها تفقد امتيازاتها داخل المجموعة الوطنية وخارجها.
3- صعوبة بناء هياكل اقتصادية واجتماعية وإدارية منسجمة.
4- هناك أخيرا النظام الدولي، والمقصود بالأساس نظام الأمم المتحدة القانوني الذي يضمن بقاء الكيانات الموجودة فعلا.
كما أنّ ثمة رؤيتين عربيتين مختلفتين لمفهوم الأمة:
أولاهما، تلك التي تنظر إلى الأمة بالمعنى التقليدي ( الأمة = الملة )، تلك التي تنظر إليها بوصفها عملية استعادة للماضي، الذي يُختزَل إلى لغة مقدسة، أو تاريخ مُؤَقنَم ومُنتَقى ومُجَزّأ، أو إلى ” جوهر ” عربي ميتافيزيقي محلّق فوق التاريخ، والمتجسد في رسالة خالدة.
وثانيتهما، تلك التي تنظر إلى المشروع القومي في منحى عصري ومستقبلي، ليس همه استعادة الماضي، بل بناء المستقبل على ضوء الخبرات التاريخية للماضي، وعلى أسس الحاضر، وتعيد الاعتبار إلى دور الدولة القومية في بناء الأمة وتطويرها، ولا تحصر دور الدولة في مجرد تتويج المسار القومي.
والواضح أنه لا يمكن للأمة أن تستكمل وجودها بالفعل إلا بالدولة، فالدول طوال تاريخ الإنسانية إما خلقت الأمة تماما أو أطّرت قدراتها أو أعطتها مقوماتها. ولا شك أنّ ثمة فرقا كبيرا بين ” قيام الدولة ” و ” وجود الأمة “، فالأمة العربية موجودة بالإمكان وعوامل وجودها قائمة، والتجزئة ليست ناتجة عن عدم اكتمال عوامل وجود الأمة، بل عن السيطرة الإمبريالية، وعن تشكّل مصالح قطرية.
القومية:
لا شك أنّ القومية واقع تاريخي له وجود حقيقي وفعّال وتعبيرات واضحة، تتجلى في جميع مستويات الحياة الاجتماعية واليومية للشعوب. فمعظم الناس ” يعترفون دون تردد بانتمائهم إلى قومية ما، ويقصدون من وراء هذا الإعلان أنهم يرون أنّ ثمة قاسما مشتركا يجمعهم مع غيرهم من مواطنيهم في وحدة القومية، وذلك على الرغم من التمايزات التي قد تفرّق بينهم وتقسّمهم إلى مجموعات اجتماعية متميزة، مثل الطبقة أو الديانة “. وبما أنّ المسيرات التاريخية التي مرت بها مختلف الشعوب متباينة.
ويقوم مفهوم القومية على تناقض جوهري داخلي له، شأنه في ذلك شأن جميع المفاهيم المحددة لمجموعات إنسانية. هذا التناقض يتجلى هنا، من ناحية، بين العمومية الإنسانية، أي الطابع المشترك للبشر بأجمعهم، سواء أكان من حيث المميزات البيولوجية والنفسية والذهنية، أم من حيث مغزى المشروعات المجتمعية المستقبلية، وبين الذاتية الخصوصية التي تتجلى في واقع تاريخ المجموعات الإنسانية تجليا واضحا، من الناحية الثانية.
مما يستوجب تطوير مفهوم القومية، في اتجاه ديمقراطي وإنساني، من أجل إنجاز التوافق المناسب بين العام والخاص. وقد أنشأت فلسفة الأنوار التفكير والعمل في هذا الاتجاه، وعلينا أن نواصل المسيرة لنحقق تقدما إضافيا يساعدنا على تكييف تساؤلاتنا وإجاباتنا مع مقتضيات العصر.
والقومية هي ” مجموعة الضوابط المتمثلة في الحياة العقلية والوجدانية على السواء. وإن كنا نرى الضابط العقلاني يتمثل في الاقتصاد والاجتماع والنزعات والمواقف التاريخية، فإنّ الضابط الوجداني يتمثل في الآداب والفنون على اختلافها، وهذه الضوابط جميعها تستمد كيانها من ضمير الأمة العفوي والأصيل “. وهكذا، فإنّ القومية بالنسبة للأمة هي بمثابة الصورة للمادة.
لقد تميزت القوميات الأوروبية بتكاملها التاريخي المتدرج، وإن كان التاريخ الظاهر لهذه القوميات لا يرقى إلى أبعد من القرن الثامن عشر، فإنّ تاريخها غير المنظور يتجاوز حدود هذا القرن إلى ما سبقه من عصور. فما نلحظه من مظاهر تطور هذه القوميات في القرن التاسع عشر هو محصلة تدرج تاريخي طويل، في الصناعة والعلوم والآداب والفنون والفلسفة، في كل متناسق موحَّد.
ومن جهة أخرى، فإنّ القومية هي إرادة العيش معا، وهي عملية تاريخية تنجزها جماعة بشرية تعيش على رقعة جغرافية معينة، تتكلم لغة واحدة ويربطها تراث ثقافي مشترك. فالقومية إذن عملية تاريخية يمكن أن تنشأ وتنمو وتنضج وتزدهر، كما يمكن أن تضعف وتذوي وتتحلل، بل وتندثر تماما. فالمقومات القومية ( اللغة، السمات الثقافية، الوحدة الاقتصادية، جهاز الدولة المركزي ) ليست إلا متغيّرات تخضع عبر التاريخ لعوامل قوة وضعف لا تتوقف.
في حين أنّ الحركة القومية هي السعي لتحقيق قيام الدولة القومية، المعبرة عن نضج العملية القومية. وبمقدار ما يكون هذا النضج فإنّ العملية التاريخية تبشّر بقوة القومية والأمة – الدولة المعبرة عنها. ويتم ذلك حين تكون القومية تحقيقا لذاتية الأمة، أي حين تحقق ذاتية أفرادها الأحرار المسؤولين أمام القانون ” إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها، وإطار هذه السيادة الديمقراطية “.
لقد عرف التاريخ الحديث نوعين من القوميات: القوميات الإمبريالية، كما تطورت في أوروبا خلال القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، وما رافقها من هيمنة استعمارية وتناحر وحروب. وهناك قوميات قيد التبلور، بدأت تحس بذاتها، بحقيقتها، من خلال جدل التناقض مع القوميات الإمبريالية المتمثلة في الدول – الأمم التي كانت مسيطرة والتي لا يزال لها نفوذها وتأثيرها. وهي تحتوي جميع القوميات المضطهَدة، القوميات التي لم تتمكن من الوصول إلى الدولة – الأمة. وقد بدأت اعتبارا من القرن التاسع عشر، واتسع دورها وتعاظم في القرن العشرين الذي تميّز بيقظة شعوب المستعمرات وانتفاضاتها التحررية وبلوغها مرحلة الاستقلال السياسي.
إنّ القومية العربية، بمفهومها الذي ساد في التاريخ العربي المعاصر، هي حركة حديثة، نشأت وتطورت تعبيرا عن حالة جديدة ميّزت العالم بأسره – تقريبا – خلال القرنين الماضيين. وهي ” رابطة تاريخية تضمُّ وتجمع وتوحِّد المجموعة السكانية القاطنة في هذه البقعة من العالم، اعتمادا على اللغة والتاريخ والخصائص النفسية والمصالح المشتركة، وهي في مرحلتها الحالية حركة تحرر وطني وتغيير حضاري، تهدف إلى توحيد الشعب والطاقات، وإلى تحرير الأرض والإنسان، وإلى بناء صيغة جديدة لعلاقات داخلية وخارجية تعتمد الحرية والمساواة والعدل، وتساهم في إقامة عالم أفضل “.
ومن المحقق أنه لاوجود لعرق عربي صافٍ، فقد تمخضت الفتوحات والغزوات عن امتزاج معقد للشعوب والثقافات. ووجود اللغة العربية يبقى، منذ العصور القديمة، هو المعيار التاريخي المتميّز والمتواصل للقومية العربية. ومن المؤكد أنّ هناك ثقافة عربية واحدة، تختلف مستوياتها، تغذّي المجتمع الممتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، أيا يكن تنوّع السكان وأيا تكن خصائصهم. وإذا كانت اللغة الكردية في الشرق الأوسط واللغة الأمازيغية في شمالي أفريقيا، بلهجاتهما المتعددة، ما تزالان تحافظان على بعض حيويتهما، فإنّ اللغة والثقافة العربيتين تشكلان رابطا جوهريا غير قابل للزوال.
ونخلص إلى التأكيد بأنّ فكرة القومية ” ليست ظاهرة مرحلية وإنما هي ظاهرة باقية، في منظور الإنسان والإنسانية، إلى زمن لا يمكن تقديره. ولكنها، بالمقابل، ليست مفهوما ميتافيزيقيا أو مثاليا يكون مرة وإلى الأبد، وإنما هي مفهوم متحرك ديناميكي بمثابة ” الأنا ” لجماع البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والروحية، وللعلاقات الدولية والتعاون بين الأمم من خلال مصالحها المتبادلة، أو التناحر من أجل مصالحها الأنانية “.
وأخيرا، من المؤكد أنّ دور النزعة القومية في أواخر القرن العشرين، مقارنة بدورها السابق، سيبدو منحسرا من زاوية حملها للتغيير التاريخي. فالأمة اليوم هي في طور فقدان جزء هام من وظائفها القديمة، أعني تكوين ” اقتصاد قومي ” محدد إقليميا يشكل لَبنَة بناء في ” الاقتصاد العالمي ” الأكبر،على الأقل في المناطق المتطورة من الكرة الأرضية . لقد تمَّ إضعاف دور ” الاقتصادات القومية ” منذ الحرب العالمية الثانية وخصوصا منذ الستينيات، حتى صار موضع تساؤل بفعل التحولات الكبرى في التقسيم الدولي للعمل، الذي تشكل المشروعات العابرة للقوميات أو المتعددة القوميات من كل الحجوم وحداته الأساسية، وما يقابلها من تطور للمراكز والشبكات العالمية للمبادلات الاقتصادية التي تقع، لأغراض عملية، خارج سيطرة حكومات الدول.
كل هذا، صار ممكنا بفعل الثورات التكنولوجية في النقل والاتصال، وبفعل عهد طويل من الانتقالات الحرة لعوامل الإنتاج فوق مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، التي نشأت منذ الحرب العالمية الثانية، وتبلورت – أكثر فأكثر – في تسعينيات القرن العشرين. ومن المؤكد أنّ الأمم والحركات القومية، خاصة المضطهَدة منها، ستكون حاضرة في هذا التاريخ، ولكن بأدوار ثانوية.
الدولة القومية:
عندما يتحدث الكثيرون عن الدولة في الأدبيات السياسية المعاصرة، فإنما يدور بأذهانهم – بصفة أساسية – ظاهرة الدولة القومية، كما تبلورت وتطورت خلال التاريخين الحديث والمعاصر، وكما نظّر لها مفكرون روّادٌ ( ماكيافللي، بودان، هوبز، هيغل، ماركس … وغيرهم ). لقد ظلت طبيعة الدولة ووظائفها ودورها في المجتمع وعلاقاتها بالدول الأخرى محل جدل كبير في الفكر السياسي. فقد أكد أصحاب الفكر الليبرالي على علاقة مفهوم الدولة بفكرة السيادة وبحقوق المواطنة، واستكمل روّادُ الفكر الديمقراطي الحديث هذا التوجه بالتركيز على أهمية فكرة المسؤولية السياسية. بينما اتجه الفكر الماركسي إلى إبراز صلة الدولة بالهيكل الطبقي وعلاقاته، ودورها كأداة للضبط الاجتماعي والقهر السياسي.
تتبلور الدولة في فكر هيغل كتعبير عن انتصار الروح على المادة وانتصار الوحدة على التشتت، وكتجسيد لأرقى القيم المعنوية العامة. أما ماركس فقد رأى أنّ هذا المفهوم يمثل فكرة الدولة (البيروقراطية) عن نفسها والتي تحاول ترويجها بين بقية فئات المجتمع، مدّعية أنّ البيروقراطية هي الغاية النهائية للدولة لأنها التعبير عن فكرة المصلحة العامة. وعند ماركس أنّ جهاز الدولة هو بالفعل مصدر مستقلٌّ للعمل السياسي، ولكنه في جوهره جهاز طفيلي منعزل عن المجتمع المدني. ولكنّ ماركس، في كتابات لاحقة، أظهر الدولة كانعكاس، يكاد يكون مباشرا، لقاعدة العلاقات الاقتصادية في المجتمع. وقد أدى هذا التناقض إلى إثارة جدال خصب في الأوساط الماركسية حول طبيعة الدولة وعلاقاتها بالمجتمع المدني.
لقد رأى أنطونيو غرامشي أنه على حين تنتظم الدولة ويتجدد هيكلها بالاستناد إلى القوى الاقتصادية، فإنّ الدولة ليست مجرد انعكاس فوقي لهذه القوى والضرورات، بل هي أكثر من ذلك أداة للترشيد والعقلنة الاقتصادية. وقد ثار الجدل الماركسي، من جديد، حول طبيعة الدولة، حين قام رالف ميليباند بنشر كتابه الهام حول ” الدولة في المجتمع الرأسمالي ” في نهاية الستينيات. حيث شكك فيما إذا كانت الدولة بالفعل، وكما يعبّر عنها الفكر الليبرالي، هي الحكم بين المصالح المتنافسة في المجتمع وأداة محايدة إزاء الصراعات فيه.
لقد انتقد نيكولاس بولانتزاس هذا التشكيك، وبدأ جدالا حاميا، حيث رأى أنّ الانتماء الطبقي للقائمين على جهاز الدولة ليس ذا أهمية كبيرة بالنسبة للعمل الملموس لهذا الجهاز، وإنما الأهم هو المكوّنات الهيكلية للدولة الرأسمالية. فالدولة، عند بولانتزاس، هي العنصر التوحيدي في النظام الرأسمالي، وعلى هذه الدولة أن توفّر التنظيم السياسي للطبقات المسيطرة . كذلك فإنّ على الدولة القيام بـ ” التنظيم السياسي ” للطبقات العاملة لكي لا تسمح لها، في ظروف تركيز الإنتاج، بتهديد سيادة الطبقات المسيطرة. وخلص بولانتزاس إلى أنّ حماية الدولة ضرورة أساسية للحفاظ على مصالح جميع الطبقات. ولا تستطيع الدولة أن تقوم بهذه المهمة ما لم تتمتع بدرجة من ” الاستقلال النسبي ” عن المصالح الخاصة للشرائح الطبقية المختلفة. أما درجة الاستقلال الفعلي ،الذي تتمتع به دولة معينة، فيعتمد على العلاقات بين الطبقات وشرائح الطبقات وعلى وحدة الصراعات الاجتماعية فيها.
إنّ الدولة القومية الحديثة هي نتاج ضروري لفوضى التنافس القائم في المجتمع المدني، ولكنها أيضا قوة رئيسية في المحافظة على هذا التنافس والانقسام وإعادة إنتاجه.
وهكذا، هناك أربعة توجهات نظرية رئيسية تعالج موضوع الدولة والسلوك السياسي في المجتمع هي:
أ- المدرسة ذات التوجه المكيافيللي، وهي تعتبر أنّ الدولة و(النظام السياسي) تقوم على الفصل الكامل بين الحكام والمحكومين، وتركّز على أهمية القهر في علاقات القوة، وتعتبر سيطرة النخبة ( المكونة من الأقوى أو الأفضل ) أمراً مسلّماً به مهما كان نوع النظام السياسي.
ب- المدرسة ذات التوجه الماركسي، التي تعتبر إما أنّ الدولة أداة في يد الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، وإما أنّ الدولة متغيّر بنائي في الصراع الطبقي تخدم، من خلال القيام بوظائفها، الطبقة المسيطرة في النظام الرأسمالي.
ج- المدرسة ذات التوجه الفيبري، وتركز على استقلالية الدولة ( فيما عرف بالفصل بين الطبقة والمكانة والقوة ) التي تجسدها مؤسسات ذات طبيعة عقلانية، بحيث تكون ممارسة القوة نتاجا للتنظيم البيروقراطي.
د- المدرسة ذات التوجه التعددي، ونقطة الانطلاق في هذه المدرسة هي تبرير الدولة الدستورية في ظل الليبرالية التجارية، مدّعية أنّ القوة الاجتماعية موزعة بشكل واسع في المجتمع بين فئات وتنظيمات متفاوتة الأنصبة من القوة الاجتماعية.
على أنّ الدولة القومية الحديثة تبقى أهم شكل من أشكال التنظيم السياسي، باعتبارها دولة حقٍّ وقانون. كما أنها ضرورية لبقاء المجتمعات التعددية، التي تتميز بأشكال متنوعة من الإدارة والمعايير الاجتماعية. إنّ دور الدولة كمصدر لـ ” التنظيم الدستوري، الذي يحدُّ من سلطانها ومن سلطان الآخرين، وكموجّه للنشاط من خلال الحقوق والقواعد، هو دور أساسي لحكم القانون “.
وقد تكون سلطة الدولة استبدادية مبنية على تسيّد الدولة على المجتمع، من خلال توسيع إشرافها على البنى الاقتصادية، بحيث تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتدادا لسلطتها، وتحقق بذلك الاحتكار الفعّال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع، وهذا هو الحكم التسلطي.
إنّ الدولة البيروقراطية التسلطية في عالم الجنوب هي ” تشويه للدولة البيروقراطية الليبرالية الحديثة، من حيث افتقارها إلى القيود والضوابط الدستورية الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، فإنّ النظام الاقتصادي للدولة البيروقراطية التسلطية وهو رأسمالية الدولة التابعة ( تابعة لدول المركز الإمبريالي ) هو تشويه لنمط الإ نتاج الرأسمالي “.
وفي حين أنّ الدولة التسلطية تحتكر مصادر السلطة والقوة، فإنّ المجتمع المدني هو ” تحويل الاختلاف والتناقض الحقيقيين إلى عنصر فاعل في إنتاج ما هو أرقى في علاقة المجتمع بالدولة. أي القيام بعملية تنظيم التناقضات الطبقية والإيديولوجية والمهنية، بإعطائها شخصية فاعلة في طرح أهدافها وتحديد مصيرها. بحيث تغدو الدولة ثمرة فعل هذه التناقضات وخلق حقل للاختلاف يقوم على فكرة الحرية “. وهذه الشخصية، في فاعليتها الحرة، هي التي تنتج نمط الدولة ” المطابقة للعقل “. وعندها يغدو المجتمع المدني أكبر ضمان لكبح فوضى إكراه الدولة التسلطية، ولجم نزعتها نحو الهيمنة الشاملة. مما يخلق إمكانية تجاوز الدولة لذاتها على نحو دائم، فيحررها من صنميتها.
ومن جهة أخرى، ثمة خلط بين الجوانب السياسية للفكرة القومية ودور الدولة كعامل تكوين للأمة، فالتصور السياسي للأمة لا يدور على سياسة الأمة أو على النتائج السياسية المحلية والعالمية لتكوين الأمة أو لفعاليتها بعد تكوينها، وإنما يدور على قضية تكوين الأمة بالذات، ويجعل من عامل الدولة العامل الرئيسي الأول لتكوين الأمة، ففي هذا التصور لا توجد الأمة قبل الدولة أو بدون الدولة. إنّ الخلط بين ” قيام الدولة القومية ” و ” وجود الأمة ” ناجم عن عدم فهم حقيقة أنّ الأمة يمكن أن تكون سابقة على النظام الرأسمالي.
وفي العالم العربي يبدو أنّ الخطوة الأولى الضرورية، لتجاوز الخلط السابق ذكره، هي إدراك الوعي السياسي العربي حقيقة إشكالية بناء الدولة الحديثة، بما تنطوي عليه من الآليات المجتمعية اللازمة لتجاوزها. وفي هذا السياق، نسأل مع الأستاذ الياس مرقص أولئك الداعين إلى ” موت الدولة القطرية “: أنتم ضد قطرية الدولة أم أنتم ضد فكرة الدولة من أساسها ؟ إنّ الوحدة العربية لن تكون في يوم من الأيام اتحاد قبائل أو لنقل جماهير قبائل وأمصار وبلدان، ولا إمبراطورية أرياف.
وهنا نشير إلى أنّ التشوهات، التي حدثت في مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم العربي المعاصر، قد أدت إلى تكوينات اجتماعية غير متسقة. إذ نجد التكوينات الاجتماعية الحضرية، في عدد قليل من الأقطار العربية، أكثر نزوعا إلى التمركز حول ” الطبقة ” كوحدة أساسية للتنظيم الاقتصادي – الاجتماعي، ومن ثم السلوك السياسي. بينما نجد أنّ التكوينات الاجتماعية الريفية أكثر تمركزا حول العشيرة أو الطائفة، والتكوينات الاجتماعية البدوية أكثر تمركزا حول القبيلة أو العشيرة كأسس للتنظيم الاجتماعي، ومن ثم للولاء والسلوك السياسي.
إنّ الدولة التسلطية في العالم العربي المعاصر، كما تجسدت في العراق وسورية على الخصوص، طرحت نفسها بديلا عن مؤسسات المجتمع المدني، وسعت كي تصبح الرابطة الوحيدة بين بنى المجتمع التقليدي، بين العشائر والملل والعائلات، كتنظيمات لرعايا مفتتين إلى ذرات تحكمهم المصلحة الآنية وغريزة النجاة بالذات، إزاء استشراء عنف سلطة الدولة. وقد وصلت الدولة إلى هذا المستوى من التسلط بفعل مجموعة إجراءات وتدابير، في الاقتصاد والمجتمع.
ولا شك أنّ ضعف دور الطبقات الاجتماعية، وضعف الطبقات ذاتها، قد أكدا الحاجة إلى أدوار مؤسسات أخرى، هي في العالم العربي سلطة الدولة. هكذا كانت قوة الحسم الاجتماعي الحقيقي هي الدولة، باعتبارها سلطة سياسية منظمة، منبثقة عن الفئات البينية في المجتمع ( الطبقات الوسطى ). وفي الواقع، ومع مرور الزمن، بدأت تبتعد وتتغرب عنها، إلى أن غدت سلطة سياسية واجتماعية مستقلة تمام الاستقلال عنها، رابطتها بها سلبية وليست إيجابية.
الجزء الثالث
الأدوات والمفاهيم النظرية تشكل أهمية كبيرة لمقاربة قضايا المسألة القومية، إذ أنها المدخل اللازم لإجراء قراءة تاريخية نقدية مقارنة لأفكار وممارسات الأحزاب السياسية في العالم العربي تجاه قضايا المسألة القومية. ومن أجل ذلك، فإننا نتناول هنا مجموعة مفاهيم تشكل أسسا هامة للمسألة القومية (فلسفة التنوير، الحداثة، العقلانية، الليبرالية، الديمقراطية، العلمانية، الماركسية).
1- التنوير: وهو خروج الإنسان من حالة القصور، التي هي حالة العجز عن استخدام العقل خارج قيادة الآخرين. فقد كان شعار التنوير، حسب كانط ” لتكن لديك الشجاعة على استخدام عقلك بنفسك “.
وبمعنى آخر فالتنوير هو امتلاك نظري للواقع ونقد للفكر بارتباط مع هذا الامتلاك، إنه وهو يمارس مهمته على هذا النحو فإنما يطمح لأن يكون الشكل الأرقى للوعي، وأن يتحول إلى وعي مهيمن منطلقا من أهمية الوعي بوصفه عنصرا من عناصر تغيير العالم. وبذلك، فإنه ” يؤسس لحرية ارتياد الإنسان للواقع بكل عناصره “.
إذ يطرح التنوير السؤال الأساسي: هل الدولة القائمة متطابقة مع مستوى تطور المجتمع بكل أبعاده وفي حاضره، فتقوم بدور الدافع لحركة الحاضر نحو الأعلى، إذ ذاك تكتسب صفة الدولة العقلانية. أم أنها على العكس من ذلك متخلفة عن مستوى تطور المجتمع فتكبح حركة الحاضر وبالتالي تغدو دولة لا عقلانية ؟
لقد جددت فلسفة الأنوار الوعي كي يستجيب للإطار المجتمعي، الذي أخذ في التكون انطلاقا من عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر، فهي لم تتطلع إلى تكوين الدولة – الأمة على أنه ناتج ” طبيعي ” للتطور، بل اتخذت موقفا مبدئيا وأنمت خطابا آخر، فأعلنت أنّ الدولة – الأمة هي فعل عقد اجتماعي يربط مواطنين أحرارا بعضهم ببعض، ولا وجود لها في غياب هذا العقد، أي من دون القرار الواعي من قبل ” مواطنين ” وليست ناتج تطور ” طبيعي ” يفرض نفسه من دون عمل الوعي.
كُنْ شجاعا واستعمل ذهنك: هذا هو ” رصيد التنوير “. وعصر الأنوار يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، وخصوصا ألمانيا وفرنسا، التي تجلت في عدة جوانب، منها: النقد الديني الذي تجلى في حركة الإصلاح البروتستانتي، التي دعت إلى حرية تأويل النصوص المقدسة، وحاربت الطغيان الكنسي، ورفضت فكرة التوسط بين الرب وعباده. كما قامت هذه الظاهرة على تأكيد أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية.
لقد مثّل عصر الأنوار نقطة تحول كبرى في النظام المعرفي، وشكّل – في الآن نفسه – قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات:
1- العقلانية، التي ترى في الذات مصدر المعرفة.
2- التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحول، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحل لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم ويبشّر به كسلاح أيديولوجي.
3- الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد، كما توفر المقولة ذاتها محددات الممارسة الاقتصادية، وتشكل أيضا منطلقا للتعبئة الأيديولوجية.
4- العلمانية، أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة النظرية والسلوك الأخلاقي والسياسي.
لكنّ مشروعَي ” فلسفة الأنوار ” و ” الثورة الفرنسية ” اصطدما بواقع التوسع الرأسمالي الذي تحدد مغزاه في بعدين اثنين: أولهما، ما ترتب على أساليب انتشار الرأسمالية في أوروبا نفسها. فلم تفتح الرأسمالية سبيلا لها خارج بريطانيا وفرنسا وهولندا من خلال ثورات بورجوازية، بل بالاعتماد على إقامة الدول الوطنية (الدولة – الأمة) لأوروبا الحديثة. ففي حالة ألمانيا مثلا كان تكوين هذه الدولة ناتجا مركّبا لاستخدام القوة لمملكة بروسيا وانضمام أرستقراطيات الدويلات الألمانية لمشروع بسمارك، وإن تحققت ثورة بورجوازية تدريجيا.
وثانيهما، يخص التوسع الرأسمالي في الأطراف الآسيوية والأفريقية. فلم يخطر ببال أصحاب الحكم الاستعماري أن يعاملوا شعوب المستعمرات طبقا للقيم الديمقراطية لفلسفة الأنوار. بل وجد هؤلاء الحكام من مصلحتهم إبقاء تلك الشعوب خاضعة لـ ” تقاليدها “، وتوظيف هذه التقاليد من أجل تكريس حكم الاستعمار.
وفي سياق تعرّفنا على انعكاسات فلسفة الأنوار على المسألة القومية يجدر بنا التعرف على كيفية تعامل الفكر العربي معها، وهنا يمكن أن نميّز ثلاثة مواقف:
1- لقد بلور المصلحون المصريون والسوريون والمغاربة اختيارات فكرية تدعو إلى قيم التنوير، وتسلّم بأهمية المفاهيم التنويرية في تطوير الفكر العربي والواقع العربي.
2- مقابل حماسة الموقف الأول للأنوار نعثر في الفكر العربي على مواقف رفض ومعاداة فكر الأنوار، ففي نصوص النزعة الإصلاحية السلفية نجد رفضا صريحا للأطروحات التنويرية.
3- في العقدين الأخيرين ثمة اتجاه في الفكر العربي لإعادة إنتاج فكر الأنوار بطريقة تتميز عن الموقفين السابقين، وذلك في إطار تدعيم العقلانية والحرية والتقدم في الفكر العربي والواقع العربي. ففي الأعمال النقدية لمحمد أركون ومحمد عابد الجابري ملامح للبعد الأنواري في فكرهما، رغم تنوّع نتائج أبحاثهما. إنهما يساهمان في توسيع مساحة التنوير في الفكر العربي، كما يساهمان في بلورة تقاليد البحث العقلاني. أما في المسائل السياسية، فإنّ الجهود الفكرية التي بذلها عبدالله العروي والياس مرقص وياسين الحافظ وسمير أمين وغيرهم في الدفاع عن دروس الحداثة المتشبعة بفلسفة الأنوار، قد ساهمت في بلورة دعوة سياسية مستوعبة لأهم دروس الأنوار في المجال السياسي.
2- الحداثة والعقلانية، ليس من نظرية للحداثة بل ثمة منطق وأيديولوجية للحداثة، ففي الغرب وُلدت بعد التحولات العميقة الاقتصادية والاجتماعية، وهي تتجلى في كل الميادين: دولة حديثة، تقنية حديثة، آداب وفنون حديثة، عادات وأفكار حديثة. ولا نستطيع تجاهل أثر التطور السريع للعلوم على مفهوم الحداثة، فالحديث عن الإنتاجية القصوى وعالمية الانتشار وتسارع الأدوار واتساع المشاركة هو حديث يحمل معه قيما أخرى للحياة، ونمطا جديدا للحضارة.
أما العقلانية فهي ” الطرائق الجديدة التي يبتدعها الإنسان على صعيد الواقع أو النظرية لتحسين مردودية جهده ورفع فعاليته “، وهي ببساطة ” القدرة على الترشيد في العمل والنظر الإنسانيين، وهي القدرة الناجمة عن تراكم الخبرة البشرية والحضارية “، وأنّ اقتصاد الجهد الذي هو المعنى الوحيد للعقلانية ” يقوم على التنسيق والترتيب والتنفيذ وتنظيم المعطيات الموجودة في الواقع، بما في ذلك الواقع الإنساني والاجتماعي بحسب منطق يقلل من الهدر في الوقت والجهد “.
وبمعنى آخر، إنها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ. إنها تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة بواسطة العقل وحده، ومع هذه الحركة الفكرية انخرط المجتمع والدولة في طريق العقلنة.
ومن جهة أخرى، لابد أن نلمس حقيقة الوجه المزدوج للحداثة الأوروبية، إذ أنّ حملة نابليون بونابرت على مصر والشام (1798-1801) نقلت معها الدعائم الثلاث التي قامت عليها الحداثة الأوروبية: القوة، والمنافسة، والمعرفة ( التوسع الاستعماري، التنافس الأوروبي البريطاني – الفرنسي، الفكر التحديثي ).
لقد ساد فكر ” الأنوار”، الذي أعلى من شأن العقل ومجّد القيم الإنسانية المثلى ( إخاء، حرية، مساواة )، وجه الحداثة في أوروبا خلال القرن الثامن عشر. ولكنّ الوجه الآخر سرعان ما أخذ ” يزاحم هذا الوجه التنويري داخل أوروبا نفسها، بل وفي أوساط الثورة الفرنسية ذاتها، التي كانت التعبير العملي لأيديولوجيا الأنوار، والتي امتزج مجراها بما يتناقض مع مبادئها … لقد بدا واضحا منذ أواخر القرن الثامن عشر أنّ قيم الحداثة هذه تفقد، عند أهلها والمبشرين بها، صبغتها الإنسانية المطلقة عندما يتعلق الأمر بمجال آخر غير مجال الصراع مع القوى صاحبة الامتياز في الداخل “.
وإذا كانت حملة نابليون على مصر والشام قد كشفت للعرب عن حقيقة هذه الازدواجية ( التنوير- الاستعمار )، فإنّ المشروع النهضوي العربي قد قُدّر له أن ” يعيش في عصر انحسار الوجه التنويري وطغيان الوجه الآخر في الحداثة الأوروبية “. وبتحليل مضمون الخطاب التحديثي العربي يتبين أنّ مقولة الحداثة قد اكتسبت ثلاث دلالات متباينة، تختلف بحسب السياقات النظرية:
(1)- دلالة تقنية، تتلخص في مقتضى الأخذ بأسباب القوة التقنية، واستيراد العلوم الحديثة واستنباتها، وعيا بأنّ هذا المسلك هو الكفيل بتدارك الغرب المتطور، الذي لم يصل إلى موقعه الريادي المتقدم إلا بفضل هذا النهج العلمي التقني.
(2)- دلالة تاريخية، تماهي بين مفهوم الحداثة ومرجعيتها الغربية، باعتبار نشأته الأصلية في المجال الأوروبي، وارتباطه بمجموعة من العوامل النظرية والمجتمعية، أصبحت بالضرورة داخلة في تعيين معاييره ومقوماته، ومن ثم فإنّ أي مشروع تحديثي لابد أن يستلهم هذه الرؤية الغربية، التي تمسكت بها المجتمعات التي سلكت المسلك التحديثي.
(3)- دلالة تصورية نظرية، تضبط مفهوم الحداثة في حقله الدلالي، الذي تعبر عنه مقولات التقدم والتنوير، وقيم العقلانية.. وغيرها من المفاهيم المؤسِسة للفكر الحديث، مع تباين واضح في ضبط وتوظيف هذه المقولات والقيم، مما يعكسه اختلاف التيارات الفكرية العربية.
ومن هنا تبدو أهمية الاستعادة العقلانية النقدية لفكر النهضة العربية الحديثة، خاصة ما يتعلق منه بمعنى الدولة الحديثة والفرد والمجتمع، إضافة إلى أدواتها المفاهيمية ( حقوق الإنسان، المواطنة، الأمة، المجتمع المدني، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية القانونية، العقلانية، الديمقراطية، التنوير). وتبرز أهمية مثل هذه الاستعادة إذا علمنا أنّ الحداثة عندنا جاءت عبر نخب تأثرت بالأفكار الغربية الحديثة، ولم تحاول تكييفها مع واقع البنية المجتمعية العربية، بل حاولت فرضها مجتزئة على هذه البنية، عبر السيطرة على جهاز الدولة أو استغلاله. وقد ولّد هذا انفصاما بين البنيتين الدولاتية والمجتمعية، لم نجده في الغرب.
ولعل العودة إلى مفاهيم ” الوعي المطابق ” لياسين الحافظ يساعدنا في هذه الاستعادة العقلانية النقدية، فالمستوى التاريخي في إنتاج وعي مطابق للواقع ” يوميء إلى أنّ الواقع العربي لم يحقق الثورة القومية الديمقراطية، فهي هدف لابد منه لتحقيق الاندماج القومي في وجه التكسّر الاجتماعي .. فالثورة الديمقراطية ضرورة داخلية تستدعيها ” المواطنية ” لتجاوز” الرعوية ” و ” الأموّية ” لتجاوز ” الملية “، حيث تحديث السياسة بالديمقراطية، وتحديث الثقافة بالعلمنة، من أجل صياغة وعي وطني حديث قادر على القبول بالتعدد والتنوع والمغايرة “.
3- الليبرالية والديمقراطية، فالليبرالية هي منظومة الأفكار والقيم والمبادئ المتكونة في الغرب خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، حاربت بها الطبقة البورجوازية الأفكار والأنظمة والقيم والمؤسسات الوسطوية – الإقطاعية. وبكلمة ” هي التي تشكل المجتمع الحديث والفكر الحديث “. ولا يمكن أن تُختزل إلى نظرية في الاقتصاد ” إنها أبعد وأشمل بكثير من مجرد دعوة إلى حرية المشروع الاقتصادي، بل يمكن القول أنّ موقفها على الصعيد الاقتصادي مجرد تظاهرة فرعية من تظاهرات موقفها السياسي، موقفها من حرية الفرد “.
أما الديمقراطية فهي ” منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكّن الجماعة السياسية من إدارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي. وتمكّن المجتمع – بالتالي – من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية “.
أما السياسة الحديثة، التي يمكن أن تقوم بدورها الراديكالي – التقدمي، فينبغي أن تتوفر على عدة شروط، من أهمها:
أ- استيعاب معطيات السياسات الحديثة، وتفهّم منطقها وآليات عملها.
ب- الانطلاق من الواقع، وليس من الرغبات والأوهام والتصورات الأيديولوجية. وفي الوقت نفسه، رؤية إمكانات الواقع ومسارات تطوره، ورؤية الطاقات القائمة والكامنة. وبعبارة أخرى، إدراك الصيرورة التاريخية لحركة الواقع ليس بهدف تفسيرها أو فهمها فقط، بل من أجل السعي إلى تغييره.
ج- أن يكون الوعي مطابقا لحاجات تغيير الواقع المتغيّر باستمرار، والسياسة المستندة إلى وعي مطابق بعكس السياسة المستندة إلى الأوهام، لها الحظوظ الكبرى في التقدم وخدمة الأهداف التي تضعها لنفسها.
د- إنّ سياسة عربية قومية ديمقراطية يجب أن تنطلق من المصلحة القومية، المفهومة فهما صحيحا في علاقتها بالخصوصيات القطرية والأوضاع الدولية، وبناء على ذلك تتحدد استراتيجيات العداء والصراع، واستراتيجيات الحوار والتحالف، حيث تكفُّ السياسة عن كونها نيات حسنة أو شريرة، بل تصبح صراعا للمصالح بين دول، يربح القوي ويخسر الضعيف، وخسارة الضعيف هي ضريبة لا بد منها، حتى يتدارك عوامل ضعفه.
4- العلمانية، نظام عام عقلاني ينظّم العلاقات بين الأفراد والجماعات والمؤسسات، فيما بينها وفيما بينها والدولة، على أساس مبادئ وقوانين عامة مستمدة من الواقع الاجتماعي، يتساوى أمامها جميع أعضاء المجتمع وفئاته بصرف النظر عن الانتماءات والخلفيات وتشمل:
ا- فصل الدين عن الدولة وإقرار حيادها تجاهه، والامتناع عن تحديد هويتها الدينية.
ب- إلغاء الطائفية السياسية.
ج- تعزيز المحاكم المدنية العامة، لضمان المساواة التامة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم.
د- إقرار توحيد قانون الأحوال الشخصية، بحيث يساوي بين المرأة والرجل، ويمنح المواطن حق الاختيار بين الزواج المدني أو الديني أو كليهما.
هـ- اعتبار القوانين نسبية لا مطلقة، مصدرها المجتمع، فتُعدَّل بضوء حاجاته ومشكلاته، وبمقتضى الأحداث التاريخية الجارية وحسب مشيئة الشعب الذي يُحكَم باسم هذه القوانين.
و- اعتبار الحاكم حاكما باسم الشعب، يستمد سلطته من الناس ويمثل إرادتهم، ولا يستمدها من أية إرادة فوق المجتمع.
ز- تعزيز الثقافة العلمية العقلانية.
ح – الإقرار بحقوق مختلف المذاهب والطوائف والجماعات.
ط – تحرير الدين من سيطرة الدولة، والدولة من سيطرة الدين.
وهكذا، يبدو أنّ العلمانية ليست شعارا يُرْفَعُ، بل هي اتجاه تاريخي، وجملة مواقف، وقوى اجتماعية ونظرية، تُلِّمُ بالتاريخ، وتتوافق مع الترقّي، ومع التحولات الاجتماعية على الصعيد العالمي. ومن ثم، فالعلمانية – بما يُراد لها أن تكون تشخيصا عربيا – ” ترى في إقصاء التناقضات والصراعات الطائفية والمذهبية والإقليمية والإثنية، التي تُؤجَّج وتُسَعَّرُ في العالم العربي، أمرا حاسما في صالح الخطوة الأولى باتجاه فعل تاريخي عربي مفتوح. وبهذا، فإنّ العلمانية المعنية هنا لا علاقة لها بما تلصقه الأصولية الإسلامية من مماهاة بينها وبين الإلحاد، ومن الاعتقاد بأنها مؤامرة غربية لتدمير الإسلام من داخله “.
ولما كان الأمر كذلك، فإنّ العلمانية ” تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانيا وتنويريا، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها “.
إنّ العلمانية ارتبطت بأكثر من معنى، فهي ليست فقط بمعنى فصل الدين عن الدولة كما هو شائع في العالم العربي، بل كان الارتباط الأوثق بين العلمانية والفكرة القومية، حين ” انبثقت من ثقافة ديمقراطية وصراع في سبيل التقدم وكرامة الإنسان، وجاءت بمثابة تأكيد على قدرته على تنظيم شؤونه تنظيما عقلانيا، بلا قبليات. لذا فالمبدأ الأساسي في العلمنة يؤكد أنّ الدين أمر شخصي، وينبغي، بالتالي، فصله عن الدولة والمدرسة والأحوال الشخصية “.
وتعتبر العلمانية منظومة متكاملة، فهي على المستوى المعرفي، مُعَادلٌ للعقلانية، والرؤية الدنيوية إلى الكون، والإنسان، والمجتمع، والثقافة. وعلى المستوى القومي، تغدو العلمانية الشرط التاريخي لـ ” الاندماج القومي ” الذي يتجاوز التكسير الاجتماعي، ويُصَفّي تناثر الأمة. وعلى المستوى السياسي، تبدو شرطا ضروريا للديمقراطية، فلا يمكن دمقرطة المجتمع دون علمنته، فالوجه الأول لأي مشروع قومي هو العلمانية والثاني هو الديمقراطية.
إنّ الكثيرين لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفا لمعاداة الدين ” أزعم أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أزعم أنّ العلمانية من شأنها أن تحرّر الدين من استغلال السلطة له. وبالتالي فإنّ العلمانية من شأنها أن تقوّي بُعْدَ القناعة الفردية الحرة من العقيدة، وذلك من خلال فك الربط بين الدين والسلطة “.
وعندما تُطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها – في هذه الحالة – أقرب لأن تكون مفهوما سياسيا، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحدُّ من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة.
إنّ العلمنة منظومة عقلية منطقية غير قابلة للتجزئة، فليس ثمة نصف علمنة، كما أنه ليس هناك إمكانية لعلمنة حيّزٍ من المجتمع دون الآخر، فهي لا تكون فاعلة في المجتمع ما لم تتناول كل بناه الثقافية والاجتماعية والسياسية.

5- الماركسية، لا ريب أنّ فكرة التطور والتقدم والارتقاء هي من أهم وأبرز معطيات العقل الحديث، وبالرغم من أنّ الماركسية جاءت قبل عصر التطور الكبير للعلوم الإنسانية، فإنه من الصعب الحديث – اليوم – عن علم إنساني لم تُخصّبه ماركسية ماركس. فقد أثّرت على تفكير المؤرخين – مثلاً – من ست نواحٍ:
ا- قدمت توجّها جديدا للبحث التاريخي نأى به عن وصف الأحداث معزولة عن بعضها وعن واقعها، وانتقلت بالمنهج إلى بحث مركّب من عمليات اجتماعية واقتصادية متصلة ومترابطة، وبذلك كانت المقدمة للمدرسة البنيوية أو المنهج القائم على اختصاصات متعددة .
ب- جعلت المؤرخين يدركون الحاجة إلى دراسة الظروف المادية لحياة الناس، وبذلك ساعدت على تطور علم اجتماع المعرفة.
ج- حفّزت البحث فيما يختص بدور الجماهير في التاريخ، خاصة إبان التحركات الاجتماعية والسياسية.
د- أبرزت مفهوم البنية الطبقية للمجتمع، والصراع الطبقي، كما لفتت الأنظار إلى أهمية دراسة تكوين الطبقات الاجتماعية في التاريخ.
هـ- أسهمت في تنمية النزوع لدى شعوب عالم الجنوب ضد التأويل الأوروبي لتاريخ بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
و- جددت الاهتمام بالمقوّمات النظرية للدراسات التاريخية، حين أكدت أنه لم يعد دور المؤرخين تسجيل الأحداث في تعاقبها الزمني، بل يتعين تفسيرها على هدى مجموعة مركبة من المفاهيم، مع التأكيد على أنّ لا شئ اسمه التاريخ في ذاته، بل الفاعلية للإنسان. وهكذا أبرزت الماركسية البعد الإنساني للتاريخ، وربطت بينه وبين الأنتربولوجيا وعلم الاجتماع.
لقد كان أهم إنجاز حققته الماركسية هو النفاذ إلى أعماق عالم النظرية السياسية والاجتماعية، استنادا إلى منهج التحليل المقارن والنقدي لمجموعة محدودة من التكوينات الاقتصادية – الاجتماعية، التي كانت تقع معظمها في أوروبا الغربية.
وهكذا، فإذا ما نظرنا إلى الماركسية باعتبارها لحظة، هامة وأساسية، في مسعى الإنسان للتقرب من الحقيقة، ورأينا فيها نتاجا لتطور فكري أنجزه الإنسان خلال تاريخ طويل، تجاوزته في نقاط معينة وتداخلت معه في نقاط كثيرة أخرى، وأعادت إنتاجه في كل الأحوال كي يناسب حاجات الإنسانية في الطور البورجوازي من التطور الإنساني، فإننا نكون على الطريق الصحيحة. أما الماركسية الرسمية، كما تجلت في النظرية والتجربة السوفياتية ذات البنية المغلقة، فلا تحتمل سوى التفكيك والانحلال.
إنّ الماركسية، قبل أي شئ آخر، منهج تحليلي ثاقب له القدرة على كشف التكيّف المتبادل بين البناءات التحتية والبناءات الفوقية. وبذلك تبدو على أنها إسهام يثري ميدانا من التجربة المتنوعة لشعوب العالم، إنها توفر إمكانية الحركة الذاتية، المستقلة والمرنة، التي تُعَدُّ أعظم بكثير مما تستطيع أن تقدمه أية فلسفة أخرى، ولكن يتعين نقد أفكارها دائما من خلال المنهج الماركسي نفسه. ويستطيع المرء أن ينظر إلى الماركسية من زاويتين: إما على أنها عقيدة جامدة، متجانسة، مغلقة على ذاتها. أو على أنها منهج لرؤية الواقع، بكل تنوعاته ومستوياته.
وفي هذا السياق، نؤكد أنّ كارل ماركس ” لم يضع نظرية لأساليب الإنتاج ولا هو قدم صورة عالمية، ولكنه درس تكوينا اقتصاديا – اجتماعيا واحدا (الرأسمالية الأوروبية)، إلى جانب التحول من الإقطاعية إلى الرأسمالية بأسلوب نموذجي “. ولكنّ الماركسية سمحت للذين يعيشون مشكلات أخرى، في عالم الجنوب ” أن يستمدوا منها طريقة ومنهجا للعمل، أو أن يضعوها وجها لوجه أمام واقع آخر”.
ففي مسألة العلاقة بين الماركسية والديمقراطية مثلا، ثمة عدة مؤشرات دالة على استقامة العلاقة بينهما:
1- موقف الكلاسيكيات الماركسية من النظام الديمقراطي، حيث يتبين أنّ كتابات كارل ماركس وفريدريك أنجلس كانت، في توجهها المركزي، ميالة إلى تثمين الديمقراطية الليبرالية، واعتبارها خطوة ثورية في مضمار السياسة والسلطة .
2- الإضافات النظرية التي قدمتها النظرية الماركسية لإثراء مفهوم الديمقراطية، والخروج به من معناه البورجوازي الضيق إلى رحاب المجال الاجتماعي الأوسع، على نحو لا يبقى فيه مجرد نظام سياسي للبورجوازية، بل نظاما عموميا يحمي ويكفل حقوق سائر طبقات المجتمع. إذ لم تعد الديمقراطية – في منظور الماركسية – هي كفالة الحقوق السياسية للمواطنين فحسب، بل كفالة حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية أيضا.
3- تراث الحركة الاشتراكية، في مرحلة ما بين الحربين، ضد النظم السياسية الفاشية والنازية في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، من أجل الحرية والديمقراطية. وقد تعزز هذا التراث بالتراكم النضالي للاشتراكيين ضد النظم الديكتاتورية والعسكرية في قلب أوروبا ( اليونان، إسبانيا، البرتغال).
4- الرصيد الهائل من المراجعات النظرية والسياسية التي قامت بها الأحزاب الشيوعية في أوروبا، وطالت الكثير من الموضوعات الماركسية التي كانت موضع بداهة وتقديس، خاصة ما يتعلق منها بالمسألة الديمقراطية. وقد أسبغت الأحزاب الشيوعية الأوروبية على مواقفها قدرا كبيرا من الفرادة والاستقلالية، عبرت عنه تسمية ” الشيوعية الأوروبية “، التي أُطلقت على خطها السياسي لتمييزه عن ” الشيوعية السوفياتية “.
وهكذا، تقدم المؤشرات الأربعة شواهد قوية على علاقة التجاور والمصالحة بين الماركسية والديمقراطية، وتضع في حوزتنا مادة هامة لدحض سائر أشكال الفهم التوتاليتاري والفاشي للماركسية.
ولعل أكبر خطأ ارتكبه الماركسيون، خاصة في عالم الجنوب، أنهم استهانوا بالإنجاز البورجوازي العظيم: سيادة الأمة كتعبير عملي عن القومية، ثم الديمقراطية كصيغة تتجلى/ وتفعل في إطارها هذه الإرادة القومية. فالماركسية هي الرافد الراديكالي لعصر التنوير، وهي موضع دراسة علمية ممكنة، إلا أنّ أولئك لجؤوا إلى البقاء في إطار النصوص، المنسلخة عن سياقاتها، وأحلّوها محل الواقع، وبالتالي ابتعدوا عن المنهج الماركسي نفسه.
وهكذا، أصبحت هذه الماركسية رؤية مفروضة على التاريخ، وليست رؤية مُستمدة من دراسة عينية للتاريخ، فتحولت النظرية الماركسية إلى نسق مغلق على مقولاتها الجامدة. فبالنسبة لعلاقة الماركسية بالديمقراطية مثلا، ناهض الماركسيون نظام الديمقراطية النيابية الليبرالي، وتبنّوا نظام ” الديمقراطية الشعبية ” أو ” سوفييتات العمال والفلاحين “. غير أنّ أضخم موقف سلبي من النظام الديمقراطي تجسد في أطروحة ” ديكتاتورية البروليتاريا “، أي تمكين المنتجين من ” حق ” حيازة السلطة بعد حيازة ” الثروة “.
وفي الواقع، لقد عجزت الماركسية عن بلورة نظرية متسقة ومتكاملة في الدولة وفي السياسة بوجه عام، فقد قلل ماركس من أهمية الفعالية الخاصة للبنى السياسية، وظلت علاقته ضعيفة جدا بنظرية وممارسة الديمقراطية، ونظر إلى الجمهورية البرلمانية باعتبارها شكلا سياسيا خاصا للسيطرة البورجوازية، واعتبر أنّ الانفصال بين الدولة والمجتمع المدني لن ينتهي إلا بعد انتصار الثورة البروليتارية. وعلى أساس هذا التمييز بين الدولة والمجتمع المدني، أقام ماركس حدا يفصل السياسة عن الاقتصاد. وهكذا ، تحوّل مشروع ماركس من مشروع لـ ” نقد السياسة ” إلى مشروع لـ ” نقد الاقتصاد السياسي “، وحملت الماركسية في طياتها خطر التحوّل إلى ” اقتصادوية “.
وقد تبنّى ماركس، والماركسيون من بعده عموما، تصورين للدولة ووظيفتها: أولهما، يرى فيها كيانا طفيليا يحجب المجتمع الواقعي، ووهما وأيديولوجيا وبنية فوقية. وثانيهما، يرى فيها ” أداة ” من أدوات الصراع الطبقي. ويمكن وصف التصور اللينيني للدولة بأنه تصور أدواتي، وذلك بسبب الربط الذي يقيمه بين الدولة وإرادة الطبقة المسيطرة في تحقيق الهيمنة من خلال القمع. فالنزعة الأدواتية في تصور الدولة تأتي من هذا التماهي الذي يقيمه لينين ” بين الطبقة وإرادتها ومصلحتها وبين الدولة “. ومكمن الخطأ في هذه الأطروحة – فضلا عن نزوعها الإرادوي – هو في ” عدم النظر إليها في سياق الحركة الاجتماعية العامة، بصفتها انعكاسا لتناقضات المجتمع، وتعبيرا عن توازنات القوى فيه “. ولم يكن خافيا أنّ التصور الأدواتي للدولة هو ما كان يدفع البلاشفة، ثم اشتراكيي وثوريي العالم، إلى ” رفض النضال الديمقراطي بحسبانه نضالا إصلاحيا، ولا يرقى إلى مرتبة النضال الجذري لعجزه عن طرح قضية سلطة الدولة “. إنّ مقتل هذا التصور كان ” رهانه على (سلطة) الدولة لا على المجتمع “.
إلا أنّ عدة محاولات لتطوير وإغناء النظرية الماركسية في الدولة ( أنطونيو غرامشي، لوي ألتوسير، نيكولاس بولانتزاس) قامت، إذ أنّ غرامشي لم يكتفِ بإعادة إنتاج التصنيف الماركسي التقليدي للبنية الاجتماعية إلى بنية فوقية وبنية تحتية، ولا بالنظر إلى العلاقات التي تنشأ بينهما، بل ذهب أبعد من ذلك، إلى التفكير في نظام تكوين ونظام اشتغال البنية الفوقية، موجّها – بذلك – ضربة للاقتصادوية، ومحدثا منعطفا نظريا نوعيا في وعي مسألة الأيديولوجيا واشتغالها السياسي، ومسألة السياسي ونظام فعاليته.
لقد ميز غرامشي بين مستويين أو صعيدين في البنية الفوقية: المستوى الأول، هو المجتمع المدني، أي مجموع المؤسسات التي نقول عنها أنها مؤسسات ” داخلية وخاصة “. والمستوى الثاني، هو المجتمع السياسي أو الدولة. والمستويان معا يقومان – في نظر غرامشي – بوظائف أيديولوجية وسياسية، هي من صميم اشتغال البنية الفوقية، لكنهما يختلفان على صعيد نتاج عملهما. ولا يمكن فهم ذلك إلا متى وقفنا على معنى مفهومين مركزيين في خطاب غرامشي هما: الهيمنة والسيطرة. إذ تعني السيطرة تملّك السلطة السياسية أدوات مادية، وهي وظيفة يعزوها إلى الدولة أو المجتمع السياسي. أما الهيمنة فتعني تحقيق تعميم نظام من الأفكار والقيم والتصورات في المجتمع، وهي وظيفة يقوم بها المجتمع المدني، والمثقفون بصورة خاصة. ويستفاد من ذلك أنه لا مجال لإقامة عازل بين الدولة والمجتمع المدني، أو لتصور المجتمع المدني خارج المجال نفسه الذي تشغل الدولة حيّزا منه.
لقد طور ألتوسير هذه الأطروحة في دراسته الشهيرة عن ” الأيديولوجيا والأجهزة الأيديولوجية للدولة ” حين أقام التمييز بين مستويين: بين مستوى السيطرة السياسية الذي يقوم به الجهاز الإداري (البيروقراطية) والجهاز الأمني (الجيش والشرطة …)، أي الأجهزة السياسية، وبين مستوى الهيمنة الذي تقوم به الأجهزة الأيديولوجية، التي أدخل في عدادها المدرسة والصحافة والحزب والنقابة والكنيسة والجمعيات … الخ . بل أنّ ألتوسير ذهب أبعد من ذلك بكثير حين اعتبر عمل هذه الأجهزة الأيديولوجية هي جزء من نظام السلطة، ذلك أنّ وظيفة هذه الممارسة الأيديولوجية هي إعادة إنتاج شروط السيطرة السياسية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى النظرية النقدية لمدرسة ” فرانكفورت “، فقد كان أنصار هذه المدرسة الماركسية روّاد فلسفة اجتماعية أو علم اجتماع نقدي، توحّدَ فيها التأمل الفلسفي النظري مع العلوم الاجتماعية، ونظروا إلى المجتمع بوصفه ” كلاً ضدياً ” حافلاً بالصراعات والتناقضات، كما درسوا حالة تشيؤ واغتراب الإنسان في ظل الدولة الرأسمالية. إذ ذهبوا إلى أنّ الرأسمالية، بصورتها الأولى التي أخضعها ماركس للتحليل، هي رأسمالية لم تعد قائمة. وقد ذهب ماركوز إلى أنه لم تعد الطبقة العاملة قادرة على قيادة عملية التغيير، وما دام النظام قد استوعبها في إطاره، فإنّ جماعات أخرى، لم تُستوعب، يمكن أن تكون الشرارة التي توقظ الآخرين: المثقفون، والطلاب، والأقليات.
وإذا كان المشروع الماركسي يفترض ضمور دور الدولة في المجتمع المدني حتى زوال معظم وظائفها، فإنّ الدولة السوفياتية تطورت باتجاه التوسع والتوطد والإمساك بكل وظائف المجتمع، وأقامت سلطة استبدادية شديدة التمركز والتركز.
وهكذا، فإنّ ثمة نزعتين ماركسيتين تركتا أثرا سلبيا عميقا على الحركة الشيوعية في العالم، بما فيها الأحزاب الشيوعية في العالم العربي: أولاهما، النزعة الاقتصادوية والطبقوية التي جعلتها مغالية في إيلاء العامل الاقتصادي والطبقي المكانة المركزية في تحليل الظواهر على حساب العوامل الأخرى الثقافية والحضارية والدينية … وثانيتهما، نزعتها المركزية الأوروبية التي دفعتها إلى عدم إيلاء المسألة القومية في عالم الجنوب الأهمية الكافية.
وقد أدت النزعة الاقتصادوية والطبقوية إلى عدم إدراك الأحزاب الشيوعية في العالم العربي لأهمية الأيديولوجيا التحديثية في مواجهة التحديات التي تطرحها المسألة القومية لأمة مُفوّتة، تعيش في غير عصرها. كما أدت إلى عدم قدرة هذه الأحزاب على صياغة مفاهيم أساسية صالحة لتحليل واقع التأخر والتبعية والتجزؤ في العالم العربي، لأنها لم توظّف المنهجية الماركسية توظيفاً نهضوياً تنويرياً. فضلا عن أنّ هذه الأحزاب ” اكتفت بالماركسية كما وصلت إليها، ولم تبذل الجهد الكافي للأخذ من كل النظريات ومن كل التجارب ما يمكن أن يسهم في إثراء فكرها وإنارة الطريق أمامها “.
كما كان من المُفترض أن لا تغفل عن العلاقة بين البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، إذ أنّ استخدام مقولة البنية في الفهم والتحليل كان يمكن أن يساعدها على تفهّم ضرورة تحديث العالم العربي من جهة، والتقليل من تأثير الرؤية الميكانيكية للعلاقة بين البنى التحتية والفوقية من جهة ثانية.
وقد تجلت النزعة الاقتصادوية والطبقوية، بشكل واضح، في نظرية ” العلماء ” والساسة السوفييت حول ” التطور اللارأسمالي “، التي انطوت على مضمون محدد هو: أنّ بلدان عالم الجنوب، ومن ضمنها البلدان العربية، لا يمكن أن تتطور تطوراً مستقلاً. إذ من المفترض، حسب مضمون النظرية، أن تتحرر دول الجنوب من التبعية للإمبريالية العالمية، وتنضوي تحت لواء المنظومة السوفياتية. ومن أجل ” إقناع ” دول الجنوب بذلك، فقد راحت أجهزة الإعلام السوفياتية تطرح نموذج ” منغوليا الشعبية ” بالصورة الكاريكاتورية التالية: إنّ جمهورية منغوليا الشعبية قد حققت الانتقال من المجتمع الرعوي إلى الاشتراكية من دون طبقة عاملة، من خلال الدعم السوفياتي.
إنّ ما لم تدركه الأحزاب الشيوعية العربية أنّ عالمنا السياسي كان، وما يزال، حكر على الطبقات البينية/الوسطى. وليس لدينا عالم سياسي خاص بالطبقة العاملة، أو بطبقة الفلاحين، أو البورجوازية، هذا هو الجوهر الحقيقي للأزمة الكبرى لمجتمعاتنا العربية. فالأوهام الأيديولوجية، لدى الأحزاب الشيوعية، لا يمكن أن تغطي هذه الحقيقة الاجتماعية والسياسية.
إنّ مشروع النهضة العربية، أي قضايا المسألة القومية العربية، كان ولا يزال في حاجة إلى فكر الأنوار والحداثة، وكذلك استيعاب التحولات والتغيّرات التي تطرأ على الساحتين العربية والدولية. مما يستوجب الاعتراف بالخصوصيات القطرية، في إطار التنوع ضمن أمة عربية واحدة، مع إمكانية تحويل التنوع القطري إلى عنصر غنى للثوابت القومية الضرورية لتطور كل حركة قومية. إنّ افتقار الحياة العربية الراهنة إلى مقوّمات حضارية، ليست العقلانية والديمقراطية سوى أبرزها، قد جعل العالم العربي صغيرا في حضوره، ضئيلا في تأثيره، مطعونا في كرامته في عصر لا يرحم، وفي عالم يتميز بالتغيير والحيوية.
ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فالقضية القومية تستدعي مقولات جديدة، مثل: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى