لماذا تقدّم الإسلام الهندي على الإسلام الباكستاني ؟
جهاد الزين
مع الاعتراف الباكستاني الرسمي مؤخرا بأن عمليات بومباي الارهابية التي أسفرت عن مقتل العشرات من المدنيين الهنود والاجانب، قد جرى ترتيبها على الاراضي الباكستانية وعلى يد الجماعة الاصولية السرية التي اتهمت بها… مع هذا الاعتراف يتقدم الى الواجهة نوع من التمييز بدأ يفرض نفسه على مستوى التأملات البعيدة المدى في معاني الحدث.
إنه التمييز بين “الاسلام الباكستاني” و”الاسلام الهندي”!
أول تأمل سينطلق طبعا من البعد التاريخي للاسلام الباكستاني باعتباره الاسلام الذي أنشأ الدولة – الأمة الخاصة به كخيار لتيار سياسي كبير في أوساط مسلمي الهند حقق الانفصال عن دولة الهند المستقلة كدولة ذات أكثرية هندوسية. في حين ان الاسلام الهندي تبلور بعد العام 1947 كجزء من دولة علمانية يشكل هو فيها الاقلية الكبرى التي تجعل مسلمي دولة الهند الكتلة الثانية الاكبر للمسلمين في العالم بعد أندونيسيا او حسب احصاءات أخرى الكتلة الثالثة بعد أندونيسيا وتليها باكستان.
ليس ما يصنع التمييز الضروري بين هذين الاسلامَيْن الباكستاني والهندي كون الاول بات المصدر الأخطر للارهاب العبثي الاصولي مع تراجع سيطرة الدولة الباكستانية على الامن العام في باكستان والمترافق مع مظاهر تفكك في بنية أجهزتها الامنية نفسها تجعلها عرضة لاختراقات ارهابية خطرة، رغم أن تماسك المؤسسة العسكرية الباكستانية ليس موضع نقاش حتى الآن… ليس هذا فقط بل ليس هذا أساسا، إنما هو النظرة الشاملة على مجمل ما آلت اليه أوضاع مسلمي الهند المتقدمة قياسا بأوضاع مسلمي باكستان. فبعد أكثر من ستين عاما على استقلال الدولتين، الهند وباكستان، تتطور الديموقراطية الهندية وتترسخ مؤسساتها مترافقة مع تحول الاقتصاد الهندي يوما بعد يوم الى قوة كبيرة في حين تبدو صورة باكستان أقرب الى “دولة فاشلة” رغم محاولات العديد من نخبها على مدى هذه العقود المنصرمة لترسيخ تجربة ديموقراطية تنتهي دائما إما بعودة العسكر الى السلطة وإما بتوتر مدني – عسكري متواصل كما يحصل حاليا، في حين أن الهند تتوارث ديموقراطيا الحكم المدني دون انقطاع… ومعه تنمو طبقة وسطى واسعة تبلغ بين 250 الى 300 مليون نسمة لتشكل أحد أكبر الاسواق الداخلية في العالم. هذا على الرغم من استمرار مئات الملايين الهنود تحت خط الفقر في بلد يتجاوز عدد سكانه المليار نسمة.
لا تعني هذه الصورة ان الاسلام الهندي حقق استرخاء كاملا… بل هو لا يزال – في اطار العلاقات الطائفية مع الهندوس – في حالة توتر في العديد من المناطق الريفية والمدينية. وبين الحين والآخر تندلع مواجهات في الشارع خطيرة جدا، لكن بالمقابل تتوسع الطبقة الوسطى بين المسلمين بالتوازي مع توسعها بين الهندوس والاقليات كالسيخ والمسيحيين حاملة معها المزيد من انتشار ثقافة الاعتدال لأن التطور الذي تشهده الهند هو تطور بنيوي بمعزل عن الفوارق القائمة بين المدن والارياف او بين الولايات نفسها في بلد شاسع جدا.
المسألة “التأملية” الرئيسية هنا هي أن “الاسلام الهندي” يتبلور في وجهة ديموقراطية تنموية كجزء من تجربة تعددية في مجتمع متعدد الاديان والاعراق بما فيه الاسلام نفسه بتشكيليه الكبيرين: الاكثري السني والاقلي الشيعي مع طائفة محدودة العدد وانما مهمة التأثير هي الطائفة الاسماعيلية، بينما الاسلام الباكستاني يحمل معه اليوم أسئلة تشكيكية حول مصير كل تجربة بناء الأمة – الدولة الباكستانية، وهذه الاسئلة لا تأتي فقط من المراقبين وبعض المسؤولين الغربيين القلقين أساسا من المخاطر الامنية الاستراتيجية التي يفتحها الوضع الباكستاني بمستوييه المتعلق بالارهاب الاصولي والقوة النووية للجيش الباكستاني.
الاسئلة التشكيكية، على الاقل السلبية، تأتي من بعض النخب الباكستانية نفسها التي تضع منذ التسعينات وعلى بساط البحث المشاكل الاقتصادية والامنية في باكستان ومدى دلالاتها على “فشل” التجربة، حتى أن بعض المثقفين الباكستانيين، كما بين مثقفي مسلمي الهند من يطرح السؤال التالي اليوم:
لو عادت عقارب الساعة الى الوراء كم من مسلمي شبه القارة الهندية او من قياداتهم ونخبهم كان سيختار الانفصال عن دولة الهند وتأسيس باكستان؟
يخفي السؤال طبعا جوابا يعتبر في الحد الادنى ان عدد الذين سيختارون الخيار الانفصالي اليوم أقل نوعيا مما كان العام 1947! هذا رغم كل الدماء التي لا تزال تسيل من الاضطرابات الطائفية بين المسلمين والهندوس ورغم كل الشحن الايديولوجي، بل ورغم استمرار وجود مشكلة “كشمير” كعنصر توتر في العلاقات الهندوسية – الاسلامية، كما في العلاقات الباكستانية الهندية.
في زمن تطرح فيه التحديات الايديولوجية للاسلام الاصولي، نموذج “الاسلام الصافي” أو نموذج “الحكم الاسلامي” ولو لمجتمع متعدد، يأتي تسليط الضوء الضروري على الاسلام الهندي كاسلام في إطار مجتمع تعددي ودولة علمانية. ولئن كانت دراسة هذا الاسلام الهندي ملحة، فإن دراسة التجربة الهندية الديموقراطية (مع “المليون تمرد الآن” كما يصفها في. إس. نايبول) ضرورة لكل محاولات تكريس التجارب الديموقراطية في العالم الثالث وليس في العالم المسلم فقط.
الاسلام التركي ذو المسار التحديثي الديموقراطي الخاص كدولة – أمة من اكثرية مسلمة ساحقة بطائفتيها السنية والعلوية، الاسلام الايراني كدولة دينية على مجتمع أكثري مسلم، ضمنه ايضا شيعة وسنة ومسيحيون وزرادشت، الاسلام الماليزي الاقل اضطرابا في مكوناته الاسلامية – الغربية – الصينية، كما يصفه – كإسلام – أنور ابراهيم، الإسلام الاندونيسي القلق جدا في دولة قلقة، الاسلام السعودي… الاسلام المصري… الخ… بين كل هذه الاسلامات المختلفة المسارات والمشتركة التقاطعات العديدة… يتقدم نموذج الاسلام الهندي… باعتباره إسلاماً يتطور في سياق أوسع منه!
النهار