صفحات سورية

خمس سنوات على الاحتلال الأميركي للعراق .. حسابات الأرباح والخسائر

null


خالد غزال

في التاسع من أبريل 2003 سقطت مدينة بغداد في يد الجيش الأميركي، معلنة هزيمة النظام العراقي بقيادة حزب البعث، وبالتالي احتلال العراق. وفي الأول من مايو من العام نفسه أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش انتهاء العمليات العسكرية كمؤشر الى أن المهمة الأميركية استكملت وتحقق النجاح المأمول منها. اليوم وبعد مرور خمس سنوات على الاحتلال تُظهر الوقائع اليومية أن الحرب لاتزال مستمرة
وبوتيرة أعنف من السنوات الأولى، وتحصد من الضحايا أكثر بكثير مما تسببت به أيام الاجتياح، ولا يبدو أن “نهر الدم” مقبل على التوقف أو الاستراحة.

وفي هذه الذكرى تعود الاسئلة عن مدى نجاح الخطة الأميركية من استهداف العراق أو فشلها، وما المقياس الذي يحكم على هذه الخطة، والأمر نفسه ينطبق على العراق كياناً ونظاماً وصراعاً أهلياً.

تسود في التحليلات العربية والغربية على السواء مقولة إصابة الخطة الأميركية بالفشل الذريع. وهي مسألة تحتاج إلى نقاش وتدقيق. فادعاءات الأميركيين في نقل العراق من الديكتاتورية الى الديمقراطية فشلت، وهي قضية مركزية في خطتهم. إذ لا يكفي إجراء انتخابات نيابية للتدليل على المسار الديمقراطي، فالقوى السياسية التي أفادت من إسقاط نظام صدام حسين لاتزال تتخبط في صراعاتها وتعجز عن الوصول الى صيغة في الحكم تضمن جمع مختلف مكونات العراق وتعيد توحيده. لا تبرأ السياسة الأميركية من هذا العجز، خصوصاً أن هناك شكوكا عميقة في ما إذا كانت هذه السياسة ترغب في إعادة بناء الدولة العراقية.

وعجز الأميركيون عن وقف الإرهاب الذي شكل حلقة مركزية في خطاب الإدارة الأميركية منذ هجمات 11 سبتمبر العام 2001 ، وهو شعار أساسي جرى استخدامه لتبرير الاجتياح. يقدم المشهد العراقي أدلة متزايدة على الانفلات الجنوني حاصدا الآلاف من الضحايا كل شهر، من دون أن تتمكن القوى المتحالفة من وضع حد له. لكن الخسارة الكبرى هي حجم الغرق الأميركي في الرمال العراقيةالحارقة وحجم الضحايا التي يتكبدها الجيش الأميركي والتي فاقت توقعات قيادته، وهو أمر جعل الأميركيين يستعيدون ذكريات حرب فيتنام وأوحالها، بعدما عانوا طويلا في إبعاد هذا الشبح عن تفكيرهم خصوصاً في السنوات الأولى على الاحتلال.

تؤكد هذه الوقائع وغيرها الكثير من فشل الخطة الأميركية، ويعزو أصحاب وجهة النظر هذه إلى استمرار المراوغة الأميركية والعجز عن الخروج من المأزق.

تبقى هذه القراءة أحادية الجانب، فقراءة ما يجري في العراق مرتبط أساسا بالخطط الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة العربية ومنها بشكل خاص العراق، وهي خطط حملتها تقارير مراكز الأبحاث الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة وإعلان الولايات المتحدة بلسان بوش الأب عن ولادة “النظام العالمي الجديد” بقيادة أميركية وحيدة.

ركزت الخطط الأميركية على أهداف استراتيجية وضعت في أولوياتها السيطرة على المنطقة العربية وعلى وضع مواردها النفطية تحت الحماية الأميركية المباشرة، إضافة الى حماية الحليف الإسرائيلي.

بدأ تنفيذُ هذه الخطة مع حرب الخليج العام 1990 عندما اجتاح النظام العراقي الكويت وحشدت الولايات المتحدة الجيوش لتحريرها. شكلت هذه الحرب المحطة الأولى في عودة الاستعمار الأميركي العسكري المباشر الى المنطقة العربية والتمركز فيها بعد انكفاء الاستعمار البريطاني والفرنسي منذ عقود. استكملت هذه العودة بمزيد من التوطد الأميركي من خلال احتلال العراق هذه المرة وتدمير كيانه. يشكل هذا الاحتلال نجاحاً أميركياً حقيقياً بالمقياس الأميركي. تؤكد المطالب العراقية أساسا ومعها بعض المطالب العربية الداعية الى استمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة ورفض السلطات الحاكمة في العراق أي انسحاب للجيوش الأميركية والحليفة تحت حجّة الانهيار البنيوي وعدم قدرة العراقيين على ضبط الأمن، تشكّل هذه النقطة تحولا عربياً حيث باتت الولايات المتحدة الأميركية “مطلوبة” لضمان استمرار الأنظمة العربية وتأمين الحماية لها.

لا ترى الخطة الأميركية في الحروب الأهلية العربية خطرا مباشرا على مصالحها. بل على العكس، تنظر الى هذه الحروب كوسيلة لإزالة اللحمة الوطنية والقومية، وانبعاث ولاءات وبنى ما قبل الدولة، بما يتيح لعناصر هذه البنى، سواء أكانت طائفية أم مذهبية أم عرقية، بناء دويلاتها الخاصة. تشكل الحالة العراقية السائدة اليوم منذ سنوات ما بعد الغزو أفضل دليل على نجاح هذا التوجه الأميركي، خصوصا وقد بات انهيار الدولة العراقية وتقسم الكيان أمرا واقعا.

من جانب آخر يتمثل نجاح الاحتلال الأميركي للعراق في ميادين

أخرى، فعلى رغم الخسائر البشرية التي يتكبدها والكلفة المالية التي يدفعها لاستمرار الاحتلال، وعلى رغم التذمر الشعبي الأميركي من دوام الحرب وهو تذمر لم يصل بعد الى مظاهرات شعبية على غرار ما عرفته حرب فيتنام، فمازال الاحتلال مربحا أميركيا.

إذ يتمثل الربح، أولا، في هيمنة الشركات الأميركية على النفط العراقي وضمان الإفادة منه لعقود مقبلة، وثانيا في احتكار الشركات الأميركية عقود إعادة إعمار العراق وتأهيل البنى التحتية فيه. ومن دلائل الربح أيضا نجاح الشركات الأميركية نهب مالية العراق مباشرة أو عبر تزوير التقارير الرسمية، وهو أمر كشفته وثائق وتقارير أميركية وأظهرت التواطؤ بين المؤسسة العسكرية وبين الشركات الأميركية ومعها قوى عراقية رسمية.

لكن الربح الأميركي المتواصل يتجلّى أيضا في أن الاحتلال يلعب دورا في الاقتصاد الأميركي حيث يؤمن مجالات عمل لكثير من الأميركيين، سواء داخل العراق أو داخل الولايات المتحدة، من خلال عمل الشركات لإنتاج حاجات الجيش من أسلحة ومعدات، وحاجات شركات الإعمار العاملة في العراق. ومعروف أن الولايات المتحدة تحتاج كل فترة زمنية الى اختلاق حروب تكون من ضمن أهدافها تجديد عمل المؤسسات والشركات الأميركية.

هذا في ميزان الفوز والخسارة الأميركية. أما في المدى العراقي فالخسارة تفوق أضعاف الأرباح. مما لاشك فيه أن النظام الديكتاتوري الذي قاده صدام حسين وحكم فيه العراق بالاستبداد والعنف والقهر، إضافة الى طموحاته الإقليمية، يتحمل المسؤولية الأساسية عما أصاب العراق في العقود الأخيرة. بعد أن تحول الاستبداد الى مؤسسة راسخة الجذور، وبعد الإمعان في تصفية القوى السياسية والاجتماعية الساعية الى حد أدنى من الحريات، بات إمكان تغيير هذا النظام من الداخل صعب المنال، وهو أمر شجع كثيرا من النخب العراقية لأن ترى في الاحتلال الأميركي وسيلة نجاة من هذه الديكتاتورية.

نجح الغزو في تخليص العراقيين، وهو بالأكيد مكسب لهم، ويعكس في الآن نفسه مأساة عربية ناجمة عن عجز القوى المحلية في تغيير الأنظمة الحاكمة، مما يجعلها متحمسة للتدخل الخارجي.

لم يأت الاحتلال يوما لخدمة شعب وتحريره بقدر ما يهدف الى تأمين مصالحه أولا ولو اضطر الى ممارسة دور النظام الذي أسقطه. وتثبت وقائع السنوات الخمس من الاحتلال الأميركي للعراق هذا القول.

من الخسائر العراقية الفادحة انكشاف المعضلة الكيانية العراقية. فلسنوات خلت كان المشهد العراقي يوحي بوحدة وطنية وعروبة يتوحد حولها الكيان. لم تكن هذه الوحدة نابعة من اندماج اجتماعي طوعي يؤمن تجاوز المجتمع العراقي مقومات ما قبل الدولة. كانت الديكتاتورية والاستبداد عنصري اللحمة والوحدة، لكنهما كانتا في الوقت نفسه عنصر تعميق الانقسام الأهلي بسبب سياسة التمييز الطائفي ضد الشيعة، والعرقي ضد الأكراد.

مع الاحتلال الأميركي وانهيار الديكتاتورية عاد العراق الى ما قبل تكوّن دولته ومجتمعه. انبعثت الطائفية والمذهبية والعرقية وتحولت حروباً أهلية شيعية- سنية، وشيعية – شيعية، وسنية –سنية، وكردية- كردية، مما لا يدعو الى أمل بوقف هذا التفتت مستقبلا.

بات العراق “حالة لبنانية”، تحولت فيه الهوية الوطنية الى هويات طائفية ومذهبية، فبات العراقي يتعرف على نفسه من خلال طائفته أو مذهبه. وهو أمر يدفع الى القول إن المشهد العراقي الراهن لا يبشر قريبا بالخروج من دوامة العنف، كما تبدو استعادة الدولة العراقية كيانا موحدا أشبه بسراب. لايؤهل هذا الوضع الولوج في خيار ديمقراطي يعيد للعراق وحدته وعروبته، بل تؤشر الوقائع الى حرب أهلية مفتوحة لا قعر مرئيا لها.

صحيح أن الاحتلال الاميركي يعاني مأزقاً راهناً في أكثر من مكان في المنطقة، ولكن هذا لا يعني مراوحة خطته عن هزيمتها، مما يعني أنها ما تزال تملك زخما يستمد أبرز مقوماته من الانهيار البنيوي عربيا وانفكاك لحمة التضامن العربي وبروز حاجة عربية في أكثر من مكان للحماية الأميركية المباشرة.

لا تبدو الأصوات المبشرة بقرب الهزيمة الأميركية في المنطقة تضرب في الميدان الصحيح، خصوصاً إذا ما أدركنا أن أصحاب هذه الأصوات لاهثة لعلاقة ما مع الولايات المتحدة الأميركية والانضواء تحت خيمتها، إنما بالشروط الأميركية المعتمدة مع غير نظام عربي في المنطقة.

كاتب من لبنان
الاثنين, 31 مارس 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى