السياسة الكبرى والسياسة الصغرى
موفق نيربية
تحوّلت السياسة من فعلٍ لازم للنهوض بالجماعة البشرية في عين محمد عبده في مرحلة حياته الأولى، إلى شيءٍ مقيتٍ يتذمّر ساخراً منه وهو يستدعي الجذر اللغوي العربي (ساس، يسوس، سياسةً، فهو سائس!). وكان بذلك يستحضر مفهوم أرسطو لها، واستنتاجه أن كلّ حكومة يمكن أن تتغيّر، فتنحرف من ملكية إلى طغيان، ومن أرستقراطية إلى أوليغارشية، ومن دولة المواطنين إلى حكم الغوغاء.
وفعل المفكرون المسلمون القدامى مثل أرسطو في ربطه بين السياسة والأخلاق، وقوله إن الإنسان بطبيعته «حيوان سياسي»، فصاغ مسكويه كتابه عن الأخلاق مثلاً بما يدمجها بالسياسة، التي فصّل فيها وصنّف على أساس أخلاقي وثقافي وروحي.
وعلى عكسهم، اعتبر مكيافيلي القيم الأخلاقية التي قد تكون محترمة بشكلٍ تقليدي، كالكرم مثلاً، تصبح غير مرغوب فيها لدى الحاكم، لأنها يمكن أن تؤدي إلى خسارة السلطة. وكان مكيافيلي يتكلم في عصر انتقالي بين الركود والنهضة، فاعتبر «الاستقرار» الهدف الأكثر أهمية، ليصبح معلّماً ليس بشكلٍ عقلاني للدول المدنية المعاصرة فحسب، بل أيضاً لتلك الدول التي تعيش مرحلةً يتمسّك بها سلطانها بسلطانه بعد مكيافيلي ببضعة قرون. فلا تفرّق بذلك، أو هي تحاول الزوغان، من الفرق بين استقرار مدني حديث، واستقرار من النوع المملوكي المُحَدّث. إنها بسلوكها هذا تمارس «المكيافيلية» التي لا علاقة لها أبداً بمكيافيلي. بل يمكن هنا تخيله يقول «كل ما أعرفه أنني لست مكيافيلياً» كما قال ماركس عن نفسه في أواخر حياته. حديثاً عند العرب، لم يأخذ مفهوم السياسة وضوحه اللازم، وغرق في فوضى المصطلح، وأصبح النضال من أجل الاستقلال الوطني مختلطاً مع النضال ضد الإمبريالية والصهيونية في أي مكان، وأصبح العمل من أجل تحسين شروط الحياة الشخصية نضالاً سياسياً، ولم تتحدّد الحدود بين مفهوم السياسة، وتلك «السياسة القومية» أو «الوطنية» و«السياسة التعليمية» أو «الاقتصادية» وغيرها. الأخيرة كلّها قضايا تطبيقية يمكن أن تستعمل أحياناً بصيغة الجمع (سياسات)، وكان يمكن تسميتها بالسياسة الصغرى، أو بأيّ اسم آخر تساعد عليه اللغة.
السياسة تنطبق على السلوك المتعلّق بالحكومات المدنية وفي داخل الجماعة البشرية المعنية. إنها عملية تصنع بواسطتها الجماعات التي يتألف منها شعب ما، تلك القرارات المرتبطة بمسألة الحكم، ومَن يحكم الآن أو تالياً… أو هل يستمرّ الحكم الحالي على حاله أو ببعض التحسينات، أو يأتي غيره ببرنامج حكم ومشروع آخر. بطريقة أخرى تكون السياسة موالاة أو معارضة، في فضاء الشعب أو المجتمع المعنيّ نفسه.
مشكلة أخرى لغوية عربية في مفهوم السلطة ذاتها، فهو أيضاً يختزل مفهومين في العلوم السياسية، أحدهما يقصد القوة السياسية، والآخر تلك السلطة التي تستبطن الشرعية والقبول من قبل المحكومين. ولهذه الشرعية أنواع بالطيع، بعضها من الطرق التقليدية الموروثة وغيره بقوة الكاريزما إلى الأخير بقوة القانون والعقل والانتخاب الحر.
فشيء طبيعي إذن أن تلجأ الحكومات التسلطية إلى نزع السياسة من المجتمع، لأنها بذلك تمنع فعل المعارضة أو تلغيه، وجوداً واحتمالاً، وهي لذلك لا تلجأ إلى العنف في قمعها، بل أيضاً إلى تشويه أي فعل أو قولٍ معارض، ونقله قسرياً بالوسائل الإيديولوجية والدعاوية (بمعادِلات مختلفة للتكفير والتخوين) إلى حقلٍ آخر خارج الداخل، أو خارج مسألة الحكم أو الحكم الرشيد.
في حين أنه ليس طبيعياً أن تلجأ قوة أخرى خارج السلطة بشكل أو بآخر، إلى نزع السياسة من ذاتها أو تحريمه على غيرها، لكنه يحدث في بلادنا، وهذا يجعلنا نستذكر «أممية» ستالين، التي هي قلب الإيديولوجيا في حزبه، وكانت تطلب مباشرة رفعَ المصلحة الأممية- ومكونّها الرئيس تأييد الاتحاد السوفييتي «العظيم»- فوق المصلحة الوطنية الخاصة. وهذه الأخيرة مسألة داخلية بامتياز ينبغي الترفّع عنها حيث يلزم الأمر، الانخراط الشديد فيها، حيث يلزم أيضاً للمصلحة «الأممية».
مثل هذا تماماً يحدث لدينا بعناوين مختلفة، منها الوطنية والقومية والإسلامية. فالوطن من حيث هو تراب مقدس وحدود وهوية وليس دولة ومجتمعاً وإنساناً فرداً أو مواطناً يستعمل أداةً لتجريف السياسة من طريقه، تحت عنوان «سياسي» باستعمالات اللغة العربية المتراكمة، والأمة كذلك، وأيضاً الإيمان مع العصبية الدينية.
فالقومي العربي- في المشرق خصوصاً- يعتبر وهو في العراق أن المفاضلة بين المساهمة في قضية فلسطين أو في قضية تقدم العراق وديمقراطيته غير مقبولة، والقومي السوري يعتبر المكسب في لبنان عذراً كافياً لغضّ النظر عمّا يحدث سياسياً في سورية، والإسلامي السوري يعتبر حرب غزة سبباً لتعليق «أنشطته المعارضة» في بلده. هذا من باب السياسة الكبرى… على نسق «الجهاد الأكبر».
* كاتب سوري