وجهة نظر: قراءة مقاربة للواقع
محمد بركة
إذا كانت الأنظمة الاشتراكية والقومية في الوطن العربي، قد فشلت في تفعيل الصيرورة التاريخية في عملية التقدم السياسي والاجتماعي، ومن ثم الاقتصادي. فلأنها قد غيّبت الأسس التاريخيّة التي عادةً ما تسبق أية عمليّة تطوّر سياسي، بل تساهم في صنع أية عملية تطوّر حقيقي في أي مجتمع، وتضعه على سكة التاريخ … ألا وهي مرتكزات المجتمع المدني ومفاهيمه العصريّة، التي تقوم على واجبات وحقوق الإنسان، وتؤكد على جدليّة العلاقة بين المجتمع المدني والدولة الوطنيّة الديمقراطيّة .
إن مثل هذه الانقلابات العسكريّة، وما سمي بالثورات التقدميّة، اليساريّة منها والقوميّة، قد دمّرت ما تبقّى من البلاد والعباد، وأتت بالخراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما أثّر سلباً على نفسية الأفراد، وبالتالي على مسيرة المجتمع الثقافيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة، وساهم في نزع كل ما يتعلق في إنسانيّة الإنسان، من نزع السياسة، إلى نزع روح المسؤوليّة، وروح المبادرة الخلاقة، والإبداع المجتمعي، أفراداً ومؤسسات، ولم يبق من الفرد والمجتمع والمؤسسات إلا الأسماء فقط …! أسماء تدلّ على جمادات وليس على أحياء بالمعنى الدقيق للكلمة، تأدّلجت ثقافة الخوف إلى أن أصبحت ثقافة مقلوبة في وعيٍ مقلوب، وتأدلج الاستبداد إلى أن جعل من ثقافة الخوف ثقافة السلام والأمان ….! ثقافة (ابعد عن الشّر وغنّي له) ….!!!
إلى أن أصبح المستبد هو القائد الملهم الذي ينوب عن الجميع، ويقود الجميع، ويهب الجميع، هذا إلى أن وصل الاستبداد إلى قيمة إيجابيّة في نظر المجتمع المقهور، يعبّر من خلالها عن الوفاء للقائد الرمز، وشكل من أشكال رد الجميل، بالطاعة مقابل العطاءات والهبات والمكرمات لهذه القيادة الحكيمة، وبالتالي إلى أن أصبح المجتمع قطيع تقوده غريزة البقاء، يرعى في مناكب أرض الراعي، مالك البلاد والعباد، تلك هي سمات استبدادية مشتركة نجدها في المجتمع العربي بشكلٍ عام ، وكان ذالك نتيجة لأسبابٍ كثيرة.
ـ منها اجتماعية: وذلك بسبب العقل الاستبدادي الفردي والمجتمعي، الذي يعرقل عمليّة التغيير الوطني الديمقراطي بنفس الدرجة، ربما أكثر مما تعرقله السلطات الاستبداديّة الحاكمة .
ـ ومنها سياسيّة: تعبّر عنها سياسات الأنظمة الشموليّة، التي تسيطر من خلال الحزب القائد وأمينه العام إلى الأبد، كاستمرار المادة الثامنة من الدستور السوري، التي تنص على: إن حزب البعث هو القائد في المجتمع والدولة، إلى جانب استمرار حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة سيّئة الصيت إلى ما لا نهاية ……
إذن بعد هذه النتائج الكارثيّة التي أتت بها تلك الحركات الانقلابية، والثورات التأخراكيّة التي صنعت هذه السدود المنيعة في وجه التغيير، وأقامت الجدار الفاصل بين حياة وحياة، بين الحياة الساكنة التي أنتجت الإستنقاع التاريخي، والحياة الحيّة المتجددة التي يجب كسبها على الدوام .
في هذا الجو المتداخل بين استبداد السلطة واستبداد المجتمع، لم تعد الشعارات التقدمية العريضة، كافية لإقناع الناس وتحريكهم باتجاه التغيير والتقدم.
في هذا الجو الساكن، أصبحت الشعارات مجرّد واجهات عريضة وجميلة تستعملها كل الأفرقاء.
فإذا كنّا نريد أن نستفيد من سمة الصّدق مع الذات والمجتمع والوطن، علينا امتلاك خطاباً جديداً شفّافاً وشجاعاً، يضع أهدافاً أوليّة، وأخرى مؤجّلة، بعقل ٍبارد،ٍ عقل هادئ وعلماني، يضع مقدمات ونتائج، فرض وطلب.
ليكون الفرض الأول: هو واقع الاستبداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، الذي أنتجته السلطات الاستبدادية، والتي تعيد إنتاجه بسهولة من خلال العناصر السلبيّة في موروثنا الاجتماعي، المعاند لقيم الديمقراطية والحريّة ….
والمطلـــوب: أن نقرأ هذا الواقع قراءة موضوعيّة كما هو، أن نقرأه بعقل ٍنقدي تحليلي، وليس بعقل ٍرغبوي حالم، يرى كل عورات المجتمع، وكل إمكانات التجاوز، ويرى من كل الجوانب، وكل الجوانب، ويرى أن عمليّة التغيير الوطني الديمقراطي، ليست عمليّة سياسية فحسب، بل هي عمل تاريخي طويل، ثقافي ( أدبي، فنّي، فكري، فلسفي ) يحتاج منّا إلى كل طاقات المجتمع بشكل ٍهادئ ٍونفس ٍطويل، إنها جزء من المشروع النهضوي الشامل.
الفـرض الثـاني: من خلال هذه القراءة الموضوعيّة لهذا الواقع المتأخر، نرى أن هناك عقلاً سلبياً سائداً يقول: إن الكل متّهم حتى يثبت العكس..الجميع يتّهم الجميع، فتذوب اللحمة المجتمعيّة، وتحل محلّها القطيعة والعدائيّة، حتى لا يستطيع أحد العمل مع أحد، وبذلك لا تتقدّم الأوطان والمجتمعات.
والمطلـوب: اعتماد العقل الاٍيجابي الذي يقول: إن كل الناس طيّبون وصادقون ووطنيون حتى يثبت العكس، فإذا انطلقنا من هذه الفرضيّة، الكل بريء حتى يثبت العكس، فإننا بذلك قد وصلنا إلى العمل مع الجميع، من أجل مصلحة الجميع، من خلال تفعيل كل طاقات الأفراد، والهيئات، والأحزاب، والمؤسسات الجادّة في عملية التغيير. والجدّيّة هنا تصبح في العمل وليس في الشعارات المرفوعة.
الفرض الثـّالث: انطلاقاً من هذا العقل الإيجابي الذي يحترم الإنسان وقدراته المذهلة في تغيير العالم، نفترض أن كل الناس في المجتمع جيدون، ولديهم طموح في التقدم والازدهار الإنساني، لكن الأغلبية الساحقة واقعة تحت سيطرة وتأثير الوعي المقلوب، الآتي من التأخّر التاريخي للمجتمع العربي, الذي لا يتلاءم مع وعي التغيير الوطني الديمقراطي، لا بل يعرقل العمل الديمقراطي المنشود.
ليصبح المطلـوب: العمل على امتلاك وعي مقارب لحاجات الواقع التغييري الديمقراطي، وبالتالي التركيز الفكري والثقافي، على قيم ومفاهيم المجتمع المدني الذي بدونه، وبدون قيمه، ومفاهيمه المنجزة فكرياً واجتماعياً وسياسياً، لا يمكن أن تتم عمليّة التغيير الوطني الديمقراطي، وذلك يحتاج إلى عمل ٍشاق ٍفي كل المجالات، وبنَفَسٍ طويل، على تحديث الوعي العام للمجتمع، حتى يكون التغيير الوطني الديمقراطي، بأدوات وطنية ديمقراطية، وبأفراد وطنيين ديمقراطيين، لأنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.
فالمطلـوب هنـا: العمل على تشجيع ودعم أحزاب معارضة موضوعيّة، تكون نقيضاً للاستبداد والفساد، وليس بديلاً عنه، أحزاب يكون هدفها التغيير الديمقراطي، لا إسقاط السلطة الاستبدادية فحسب، أحزاباً تمتلك أهدافاً واضحة وبرامج سياسية مقاربة لحاجات التغيير الوطني الديمقراطي، تنطلق أولاً وقبل أي شيء من الإصلاح السياسي الذي يؤسس للإصلاح الإداري والاقتصادي في البلاد، هذا إلى جانب دعم الهيئات والتجمعات والمؤسسات، الحقوقية والمدنية، التي تعمل من أجل الانتقال من المجتمع الأهلي إلى المجتمع المدني، المجتمع الديمقراطي.
لأنه بدون الأحزاب الحرة، وهيئات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، لن يتغيّر الفرد، ولن يتغيّر المجتمع، وبالتالي لن تتغيّر السلطة إلى سلطة الدولة الوطنيّة، دولة الحق والقانون، دولة الكل الاجتماعي، دولة كل المواطنين.
الفرضيّة الأخيرة: هي عدائية النظام في سوريا، إلى أية محاولة تطوّر في المجتمع وتحديث وعيه المفوّت، واستعداده لقمع كل الأفراد والتجمعات، التي تعمل من أجل التغيير الوطني الديمقراطي، والدليل إغلاقه للمنتديات الثقافية والفكريّة، وعلى رأسها إغلاق منتدى الأتاسي، إلى جانب الاعتقالات التي طالت كل قوى المعارضة، من مجلس إدارة منتدى الأتاسي إلى إعلان دمشق بيروت، إلى اعتقال الأمانة العامّة لمجلس إعلان دمشق، إلى المتابعات والملاحقات، ومنع ملتقى الحوار الوطني الديمقراطي في السويداء لأكثر من مرّة.
والمطلــوب: مقابل هذه العدائية المطلقة لهذه المحاولات الجادّة في عملية التجديد الفكري والاجتماعي والسياسي، مقابل هذه العدائية، الحوار، ثم الحوار، ثم الحوار، والعمل بكل الطرق السلمية المدنية الهادئة والمرنة والصادقة، وغير المستعجلة، على طريق التراكم التاريخي الذي يرتكز ويؤكّد على مفهوم حرّية الفرد المواطن الذي ينتج وطناً حرّاً ديمقراطياً، من خلال امتلاك هذه القيم العصريّة الحديثة، مثل احترام العمل، والوقت، وحقوق الإنسان، وبالتالي نشر هذه الثقافة الحقوقية، والتعرّف على القوانين العالمية والمحلية الضامنة لحقوق الأفراد والجماعات، وتبيئة هذه الثقافة عند النُخب كما عند العامة، وذلك من خلال ثقافة التسامح، ونبذ العنف والعنف المضاد، واحترام الرأي الآخر، وعدم الإقصاء والإنابة، وحق الاختلاف، ونشر واجبات وحقوق المواطن الحر، واحترام الدستور، من أجل إقامة الدولة الوطنية الديمقراطية، لتكون هذه الدولة مملكة القانون، وبالمقابل يكون المجتمع المدني الضامن الأكيد لاستمرار هذه الدولة والحريات الفردية والعامّة.
إن مثل هذا الخطاب الواضح، المنطقي والشجاع، السلمي والاقتحامي بآن، هو الكفيل أن نقدّم من خلاله الفرق الواضح بين ما هو، خطاب تضليلي كاذب، وبين ما هو خطاب موضوعي صادق، ينال ثقة المجتمع ودعمه، على مبدأ الامتلاك والتجاوز.
الموقف الديمقراطي العدد 111