صفحات سورية

مرحلة جديدة في العراق؟

null


نهلة الشهال

بدا الرئيس جورج بوش مطمئناً في بداية الأمر: إنْ هم سوى حفنة من الأشقياء سيتم التعامل معهم وينتهي الأمر. قيل له إنهم «خارجون عن القانون»، يقتلون وينهبون، وحصنهم الحصين البصرة، ثاني مدن العراق… فهل هو على هذا القدر من السذاجة حقاً؟ مهما يكن، اضطر الرئيس الأميركي بعد أيام إلى إرسال الطائرات الأميركية لتشارك في قصف مواقع «الأشقياء».
وفي خطوة تضامن رمزية مع الحليف الأميركي، أجّلت القوات البريطانية موعد انسحاب نصف ما تبقى من قواتها، والذي كان مقرراً هذا الربيع، إلى «لاحقاً»، وخرجت هي الأخرى من انكفائها الكامل في قواعد، إلى الميدان. ورغم ذلك، ورغم أن السيد المالكي قد عين نفسه قائداً أعلى للقوات، وأشرف «شخصياً» على العمليات، وبعد سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى خلال أيام في البصرة وحدها، فإن جوزيف بيدن، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي وصاحب «قانون تقسيم العراق»، قد انتهى إلى التصريح بأن ما حدث في المواجهات مع التيار الصدري يقارن بوقائع حرب تموز 2006 في لبنان، حيث – والكلام له – خرجت إسرائيل بكل قوتها لتوجيه ضربة قاصمة لحزب الله، ولكن النتيجة كانت عكسية. أما ما لا ينبغي نسيانه في حساب حصيلة البيدر هذه، فهو أن القوات الأميركية كانت قد أجّلت العملية الكبرى التي حشدت لها قواتها وبدأت الاستعداد لشنها على مواقع القاعدة في محافظة نينوى – ومركزها الموصل – على أمل الانتهاء أولاً من المشكلة الجنوبية، ولكن هذه الأخيرة تكشفت عن صعوبات يقال عنها اليوم إنها لم تكن متوقعة، لعل أبرزها اتساع رقعة الحضور الفعال لـ»جيش المهدي»، التي غطت معظم مناطق الفرات الأوسط والجنوب وأحياء كثيرة من بغداد ومحيطها (بما يتجاوز تماماً كاريكاتور «صدر سيتي» الذي يهوى الإعلام الأميركي ترداده)، علاوة على القدرة القتالية التي برهن عليها. وقد انتهى أمر هذه الجولة، كما هو معروف، بوقف لإطلاق النار بعد مفاوضات مباشرة أجراها موفدون من الرئيس المالكي مع السيد مقتدى الصدر المقيم حالياً في مدينة قم الإيرانية، شارك فيها علاوة على ممثل لحزب الدعوة الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء، قائد قوات بدر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى الذي يترأسه السيد عبد العزيز الحكيم.

ماذا؟ يتفاوض «الشيعة» العراقيون فيما بينهم، وفي إيران، وبإشراف هذه الأخيرة! هل يعني ذلك فحسب أن طهران هي المنتصر الأكبر مما جرى، فهي باتت تمسك تماما برقاب كافة القوى السياسية الشيعية، وقد عززت علاقتها بالسيد مقتدى، وأثبتت للمالكي ولحزب الدعوة، المتآكل أصلاً، مقدار ضعف هامش قدرته على الارتكاز على الأميركان أو خراقة أمل يغذيه بتنظيم لعبة اللعب على حبلين، وتلوح للسيد الحكيم بأن لقوات بدر – وهي صناعة إيرانية بالأساس- بديلا فعليا يفوقها فعالية، ويحوز إضافة إلى ذلك على صدقية شعبية يفتقدها المجلس الأعلى، لأسباب عديدة بعضها قديم مرتبط بخيارات زعمائه من آل الحكيم، وبعضها الآخر يعود إلى وقائع سنوات الاحتلال الخمس. ثم ان طهران تكون بذلك قد أفشلت الهجوم العسكري الذي كان يعول عليه الأميركان لإعادة إحياء «خطة فرض القانون» التي مضى على إطلاقها عام، عاشته متعثرة، رغم إنشاء «الصحوات»، وما بدا من تقدم في تقليص وجود القاعدة. إلا أن الأمر أشبه بقربة مهترئة، لا تلبث تتمزق من نقطة أخرى غير تلك التي جرى رتقها مؤخراً

ولكن وقبل ذلك، فالسؤال يتعلق بمقدار تمكن السيد المالكي من الاستمرار في مفاوضات «معاهدة الصداقة والتعاون الأميركية – العراقية « (الموصوفة بالطويلة المدى)، التي أعلنت نواياها أثناء لقائه مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض في الخريف الفائت، وبوشر بإعداد تفاصيلها في بغداد منذ أسابيع على أمل التوقيع عليها في صيف 2008. وماذا سيحل باتفاقية النفط والغاز التي لم يقرها بعد البرلمان – لن؟- بينما وصفها المسؤولون الأميركان أكثر من مرة بأنها متعلقة بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة، هذا إذا لم نتطرق إلى تطبيق «قانون الفيدرالية» المُقرّ والذي بات، والحال تلك، ثانوياً. وماذا سيحل بالقوات الأمنية والعسكرية التي يدّعي السيد المالكي – على الأقل هذا – أن عهده قد تمكن من إعادة بنائها، وقد شهدت مواجهات الأسبوع الفائت مئات حالات رفض وحدات منها إطلاق النار على «جيش المهدي»، بل انضمام أفراد أو مجموعات منها إلى مقاتليه. هذا إذا تجاهلنا ما أسمي مسيرة «المصالحة الوطنية» التي افتتحت بمؤتمر في بغداد منذ بضعة أسابيع، وكان يفترض أنها تؤشر إلى الانتقال خطوة أخرى في ترسيخ «العملية السياسية»، أي الآلية المحلية التي يدير بواسطتها الاحتلال تفاصيل الحياة المدنية، من تنظيم إجراء الانتخابات العامة، إلى تشكيل الحكومات، إلى القرارات صغيرها وكبيرها.

ثمة شائعة قوية في بغداد عن قرب رحيل السيد المالكي الذي وصفه الرئيس بوش أكثر من مرة بأنه يتمتع بثقته. وعلى أية حال، فالرئيس الأميركي كان قد وصف عملية «صولة الفرسان» تلك، كما أسمتها الحكومة، بـ»الامتحان التاريخي للعراق الحر»! وليست وظيفة إيراد هذه الأقوال الشماتة، فالذي يدفع الثمن الباهظ في كل الحالات كان وسيبقى العراق وأهله. بل هي محاولة لرسم مدى المأزق القائم في العراق، الذي تفاقمه ولا شك عقلية الرئيس الأميركي وأسلوبه وقدراته.

وبالعودة إلى إيران، يمكن الجزم بأن ما جرى في تلك المواجهة الأخيرة يتجاوز مجرد إحكام إمساك طهران بالقوى الشيعية كافة، بل هو ينتمي إلى ترتيب عناصر ومستلزمات المعركة الأميركية – الإيرانية، وهي معركة قائمة وإنما مدارة سلمياً حتى الآن – وهنا أيضاً، فالعراق وأهله قد دفعوا فيها أبهظ الأثمان. فهل تتدخل نتائج المواجهات الأخيرة لتشجع الإدارة الأميركية على حسم خياراتها في الصراع مع إيران باتجاه المبادرة لشن ضربة عسكرية لها، مخافة ألا يكون عامل الوقت في مصلحة واشنطن؟ أو بتعبير أدق، هل يكون الفشل الأميركي الأخير محفزاً، من بين سواه بالطبع، على حسم خيار الانتقال إلى توسيع رقعة الحرب؟ سيما وأن التيار الصدري لم ينجح فحسب في إحباط «صولة الفرسان»، بالمعنى العسكري، بل أحاط المواجهة بشعارات ثلاثة: «لا للديكتاتورية الجديدة»، «لا للاحتلال الأميركي»، «نعم للعراق». كما هدد بالعصيان المدني، ولو أنه لم يتمكن من إطلاقه. وهذا كله جنين مقاربة ذات صفة سياسية ووطنية عامة، أي أنها تتجاوز البعد الحزبي أو الطائفي، أو ما يوصم بالصراع على السلطة. بل هي تتجاوز المعهود من التعامل الإيراني مع الملف العراقي. ومن شاهد المقابلة التي أجرتها مؤخراً قناة الجزيرة الفضائية مع السيد مقتدى الصدر، يمكنه قياس هذا البعد. فالرجل تكلم عن مساجلاته مع القيادة الإيرانية ودعوته لها لتغيير سياستها في العراق، واصفاً إيران بأنها مثلها في ذلك تماماً مثل سائر الدول الإقليمية، تبحث عن تأمين مصلحتها الخاصة في العراق، وأبرز وجهاً شديد العراقية، مؤكداً في الوقت نفسه على استعداده للتضامن مع أي جهة عربية أو إسلامية تتعرض لعدوان… وكان يشير بذلك إلى الطرف الأميركي الذي لم يتوقف عن مهاجمته. ومن المؤكد أن هذا المستوى من المقاربة ما زال بعيداً عن امتلاك خصائص التصور المكتمل والبرنامج، ومن المؤكد كذلك أن السيد الصدر قد واجه صعوبات هائلة في ضبط سلوك تياره، دفعته إلى إعلان العزلة، ومن المؤكد ثالثا مبلغ تحكم إيران وإيقاعها واعتبارات مصالحها في العراق… إلا أن المؤكد أخيراً أن في بلاد الرافدين ما يتبلور وإن بصعوبة هائلة.

الحياة – 06/04/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى