السياسة والأخلاق وما نعيش
د.فيصل دراج
هل يستطيع رجل السياسة أن يكون سياسياً ناجحاً وإنساناً أخلاقياً معاً؟ وكيف يمكن التوفيق بين المصالح والمبادئ الأخلاقية؟ اقترح المهتمون بالفلسفة السياسية معايير مختلفة تضبط طرفيّ المعادلة الصعبة.. رفع البعض شعار : النزاهة،
على اعتبار أنّ السياسي الأخلاقي هو الذي لا يُخضع المبادئ للمصالح، رافضاً أن تكون الأخلاق مادة مطاطيّة تتسع وتنكمش حسب الطلب. وتحدّث بعض آخر عن النتائج المرجوّة، ذلك أنّ أخلاقية السياسي من طبيعة الأهداف التي يتطلع عليها، فهو أخلاقي إن دافع عن قضايا عادلة، وهو ضعيف الأخلاق إن تساهل مع الشر والأشرار. واكتفى بعض ثالث بتأكيد: الخير العام، الذي يُقنع السياسي بأنّه في خدمة المجموع، لا في خدمة مصالحه الضيّقة.
مهما تكن الإجابات المقترحة، وهي نظرية على أيّة حال، فهي تستدعي عنصرين غير متساويين: أولهما رجل السياسة الذي قد يتمتع بالكفاءة والقدرة أو لا يتمتع بهما، أو قد يجمع بين الصفتين معاً وتنقصه الصرامة الأخلاقية. أمّا ثاني العنصرين، كما هو متوقع، فهو السلطة السياسية التي ينتسب إليها هذا السياسي أو ذاك، ذلك أنّ شكل الوصول إلى السلطة هو الذي يحدّد أساليب ومعايير وغايات ممارساتها السياسية. فالسلطة التي تمّ الوصول إليها دون خرق للأعراف والقوانين لا تعبث بالأخلاق، على خلاف سلطة مغايرة تمّ الحصول عليها عن طريق التآمر والتزوير والخديعة.
ربما يكون في العالم العربي اليوم، أو لدى بعض السلطات السياسية فيه بشكل أدق، ما يلقي ضوءاً كاشفاً على علاقة السياسي بالأخلاق، أو على مآل الأخلاق في مجال سياسي يتطيّر من الوضوح، يتجلّى ذلك، على سبيل المثال، في مجالين: أولهما الانتخابات، حيث تؤكّد السلطات المتهمة بأنّها محايدة موضوعية نزيهة، لا تتدخّل ولا تزوّر ولا تمنع ولا تعوّق، وحيث المعارضة، أو المعارضات، تؤكّد غير ذلك بالبراهين، أو بما يشبه البراهين. أمّا المجال الثاني، الذي أصبح موضوعاً للكلام المسؤول أو الكلام المتأنّق الخفيف الكلمات، فيتمثّل بما يدعى: الفساد، سواء أخذ ذلك صيغة “فساد النظام”، الذي يعني أنّ شكلاً من الفساد تسرّب إلى بعض قطاعات الدولة، أو اطمأن إلى صيغة طريفة هي “نظام الفساد”، الذي يقرّر الفساد ضامناً لاستمراره وعنصراً أساسياً في توازنه ووحدة الأطراف المشرفة عليه. وسواء كان الفساد جزئياً، قابلاً للحصار والملاحقة، أم كان شاسعاً هائل البنية متماسك الأطراف، فالأساسي في الأمر طلاق أو فراق أو خصام بين السياسة والأخلاق، وبين السياسي والقوانين والأعراف. وواقع الأمر أنّ الفساد عبث بالمصلحة العامة واقتناص لحقوق المواطنين، وعبث بالقانون الذي عليه أن يحمي مصالحهم ، وهو عبث بالعقل ، لأنّ دور الدولة تطبيق القوانين لا تمزيقها.
وعلى الرغم من أنّ أطرافا عدّة، سياسية كانت أم صحافية أو ثقافية، تكتفي بالحديث عن “الفساد السلطوي”، معتبرة أنّ فساد السمكة يبدأ من رأسها، فإنّ تأمّل الأمور، بجديّة أكبر، يضيف إلى ذلك أطرافاً أخرى. فبعض المعارضات السياسية، التي تطالب ببديل سياسي لا فساد فيه، لم تعرف كثيراً بالنزاهة التي تدافع عنها، بل إنّ بعض المعارضات، الذي كان يندّد بالاستبداد واستباحة القوانين، كان يقيم علاقات “ودّ وصداقة” مع أنظمة تعبث بالقوانين كما تشاء.
وإذا كان الحديث عن السلب في بعض المجتمعات العربية يثير الأسف، فإنّ الحديث عن انتهاك مبادئ الأخلاق في الشأن الفلسطيني يثير الشجن. فبعد ألوف من الشهداء تتلوها ألوف مزج بعض الفلسطينيين بين “الكفاح الوطني” وتجارة الأعمال، محوّلاً “الكلام الثوري” إلى مهنة، ومؤسّساً المهنة على كلام واسع المردود. ولأنّ الكلام عمل والعمل كلام، فإنّ الثوري القديم ــ الجديد ثابت على مواقفه. والواضح كل الوضوح أنّ هذا النمط من السلوك لا يكترث بالسياسة ولا بالأخلاق. فلو كان عمل بعض الفلسطينيين نزيهاً لما وصلت القضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه. لا يقتصر هذا العبث اللاأخلاقي على بعض الفلسطينيين، فهناك آخرون غير فلسطينيين يتخذون من “الدفاع عن الحق الفلسطيني” مهنة تجلب الخير وصناعة مزدهرة. وأمرُ بعض الفلسطينيين وبعض غيرهم لا يختلف كثيراً عن أمر فريق من الصهاينة. فقد تعرّض الأميركي نورمن فنكلشتاين في كتابه “صناعة الهولوكوست” إلى سياسيين وصحافيين ومثقفين مشغولين ، بلا انقطاع ، بعذابات اليهود و”تفاصيل المحرقة”، بحثاً عن الربح والموارد والشهرة والجوائز، على اعتبار أنّ التذكير بـ “آلام اليهود” تجارة رابحة مضمونة. وما يقوم به غير العرب، في علاقتهم بالمحرقة، يقوم به بعض العرب، في علاقتهم بفلسطين. لا مكان، في الحالين، للسياسة، التي تتطلب احترام الحقيقة، ولا مكان للأخلاق، التي ترفض الأكاذيب والخديعة.
حين كان ميكيافيللي يتطلّع إلى دولة إيطالية حديثة موحّدة كتب الجملة التالية: “إنّ ما يجب أخذه بعين الاعتبار في العمل السياسي هو ليس المبادئ، بل الغايات الكبيرة”. والسؤال هو: ما هي المبادئ الرائجة اليوم في العالم العربي وما هي “الغايات الكبيرة” التي نتطلع إليها؟
كاتب من فلسطين
الثلاثاء, 1 أبريل 2008