السوريون في شبهة الرعب أو نقض وضوء العسكر
محمد دريوس
نجزم، في عجالة الإنشاء هذه، أن رسوّ المركب الوطني على جزيرة العسكر، هو أفدح ما أصاب المنطقة، منذ أن أهدت إليها مواثيق عصبة الأمم، الاستقلال أو الجلاء كما تحلو التسمية لعسس المناهج الدراسية المصحوبة بتعاليم الأمم الخالدة ورسائلها التي توفّر لها سعاة بريد على غرار المغفور له صدام حسين وغيره. يتساوى في ذلك العراق وسوريا والجزائر ومصر وليبيا واليمن ولبنان حتى وإن جاءته الشبهة من مسرب مختلف. إذن في أروقة 1946 سيتنكّب السوريون استقلالاً وضعته على كواهلهم الحرب الثانية والملقبة بالكونية لشمولها معادن الأرض ونباتاتها وأسماكها الملونة، وسيكون الاستقلال من مجريات أنقاض أوروبا مصحوباً بشفاعة الجبابرة الذين استقرّوا جبابرة في النظم الجديدة (الولايات المتحدة الأميركية شفيعة العالم المتمّدن وحامية رفاهية السماء من بطش من لا يعترف (هكذا أشيع) بسطوة السماء، وهو الاتحاد السوفياتي الذي يرغب بتحويل العالم إلى معمل واحد يُنتج علب كبريت رديئة وكتيبات حمراء وأدباً متساوي الأضلاع).
فكأن العسكرة همٌّ خاص بأمّتنا بعدما تخلّت أغلب دول أميركا اللاتينية عن شبهة العسكرة باعتماد الديموقراطية البرلمانية ولو على جناح الرديف الأميركي الشمالي.
من الماء إلى الماء، نجوم ونسور على الأكتاف، ولو تحصّنت ببيير كاردان وأرماني، وكأن الجنرالات ملّوا ألاعيب السياسة وسئموا رطانة المثقفين وبلاغة النخب فآثروا الإمساك بناصية الحياة وإبدال كل بُزال فيها بضابط تُعرف إمكانياته التعبوية ومداه المجدي. ونجزم أن وصول العسكر إلى الحكم هو أول مسمار يدق في نعش الاستقلال نفسه في البلدان نفسها التي دفعت ثمناً للاستقلال كان باهظاً أحياناً وأحياناً أخرى كان تدبيراً إنشائياً فحسب، مكتوباً على طاولات السفراء والقائمين بالأعمال وسكرتيراتهم الحسناوات. فمثلاً احتار السوريون ماذا يفعلون بعد أن حصلوا على استقلالهم وهم لم يعتادوا الأمر نتيجة فقدانهم الأمر لعقود خلتْ وكان جلّ ما أرادوا هو الحصول على القليل من تبغهم والقليل من يقطينهم ومشاركة الدرك الفرنسي المطعّم بفصوص المستعمرات في إفريقيا في «التلصص» على «المحصنات»، احتار السوريون ماذا يفعلون بالاستقلال فسلّموه إلى العسكر وارتاحوا.
وشبهة العسكرة قديمة في ربوعنا، قدم ربوعنا فهي صرامة يتداخل فيها الاقتصاد بالاجتماع مرفوعا لأسّ السياسة. الشبهة عامّة إذن، أما التخصيص فجاء مدوّناً بالدواة الناصرية مرّة وبالمدية البعثية مرّة أخرى: توزيع الأخوة ورفاق الدرب والمسيرة على كل مناصب الدولة المدنية، إفراغاً للجيش أولاً ولضمان ولاء كل مسدس حربي عن طريق سد فوهته بالدولارات المسحوبة من ختل المنصب.
وهي وإن كتبت بالحبر السوري بادئ الأمر إلا أن الضباط السوريين يبهتون وتبدوا انقلاباتهم وممارساتهم «لعب عيال» أمام الريشة الناصرية في عهد المأسوف على كبريائها الجمهورية العربية المتحدة، حين شطحتْ ورسمتْ السرّاج حاكماً مطلقاً في متصرفية الإقليم الشمالي، وبالطبع تحت إمرة الكبيرين ناصر وعامر وهما ما هما عليه من خبرة عسكرية ومعرفة بشؤون الحرب، فأصابت من الأمة مقتلاً ما زالت تعاني سكراته حتى الآن ونعني به هزيمة 1967 المسماة «نكسة» بالأدبيات نفسها التي تسمي تدمير العقل العربي: إتباع خير السلف.
والعسكريون السوريون، بُعيد الاستقلال، كانوا ربيبي التقاليد العسكرية الأوروبية، التي لا تجد غضاضة في ترك بعض شؤون الحكم الأخرى للمدنيين (على غرار ما فعلوا مع تشرشل عندما قالوا: ربحت الحرب، جزاك الله خيراً، اجلس إذن ودعنا نبني سلمنا كما نريد) يفعلون به ما يظنونه صواباً أو خيراً وهذا ما سيأسفون عليه لاحقاً عندما أوصلوا للسدّة من جعل الأمر مستحيلاً أو بعض مستحيل معرفة منه وجزماً بأن السبيل إلى القبض على «جوزة حلق» الدولة هو عبر تثبيت دعائم العسكر في كل مفترق وتفويض الرتب بتسيير شؤون المعنى. فصرت ترى الكاتب العسكري والصحافي العسكري والمطرب العسكري والراقصة العسكرية وصار المجتمع يتنفس هواء مرقطاً ويتغوّط أوسمة ونياشين تُمنح في كل مَمْنَح. وسام لمن يملك أكبر عدد من السيارات والحرس في بيوتاته العديدة. نيشان لمن يستنطق أحجار الرصيف بأسماء موزعي المناشير الثورية، وهم من هذا كله حرباً لم يخوضوا، إلا حروب الأخوة والأصهار وأولاد العم.
ويحلو للمدافعين عن المجد الخاكي، إلقاء الشواهد على عواهن «الدولة» المدنية الحديثة من إنشاءات بيتونية أريد لها أن تكون فاتحة العهد الجديد وبانية المدنية الحديثة وهي ما هي من انتداب خرساني مسلح جديد، يجرّد الأمكنة من إرثها ومن أسمائها ويحل محلها كتلاً بلا ظلال، ولكن مباركة بسهولة الاقتحام وسهولة السيطرة حين يقع ما يقع. وانقلبت الوظيفة المأمولة لمن يريد إعادة القبض على المفاتيح المأمولة، إيذاناً بانفتاح يُراد منه، الإيهام بأن شيئاً ما يحصل حقاً، فصار الأمر للعسكري التاجر بعدما كان للتاجر العسكري والعسكري مذيع النشرة الجوية والعسكري المشرّع والعسكري سكرتير المدير العام.
المشهد ٍبرعتْ في تقديمه هوليوود عبر أيقوناتها الجاهزة للاستخدام: المختطف مختلٌّ وله مطالب تتعلّق «إلا نادراً» بالمال لإيفاء قسط المنزل وبالبيتزا (ترجمها عادل إمام كباباً، تسخيفاً أو على منبت الأمانة لماضٍ كان فيه الكباب عزيزاً، في فيلم « الإرهاب والكباب») والرهينة بلا حول ولا قوة، تنتظر رصاصة من هنا أو هناك، المجرم الآخر الذي يشكّل الضلع الثالث من التسطيحات الهوليوودية (الضلع الثاني هو المشاهد الأحمق)، هو الشرطي الخارق الذي يطلق رصاصتين، إحداهما في رأس الضحية. نكاد نلمح عناصر المشهد مكتملة في الشاشة المحلية، السلطة تقبض على ناصية المجتمع وتهدّد بتفجير رأسه ما لم تنصع القوى الأخرى الغربية أو الإقليمية (خشية انتقال الأذى إلى ربوعها المطمئنة) «حماس» ترهن غزة بأنفاق تهريب الجرعات السماوية والتبغ الأجنبي و»حزب الله» يرهن لبنان بصاروخ محلي الصنع والهدف والنتيجة أو إيراني النتيجة والهدف والصنع.
غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، أينما وُجد عسكر وُجدت أزمة بل أزمات، نجا من بعضها لبنان إلا أن فقهاء الرتب وأصحاب الرسائل العتيدة استطاعوا، عبر تحالف غير معلن مع دوائر الخراب، أينما وجدت، هنا أو هناك، من تحويل البلد الذي كان يوصف بدرة الشرق، إلى قبض هباء على الهباء، بإيلاء شؤون المحافظة الخامسة عشرة إلى ضباط/ نشرات يعيدون فيه تنظيم المجتمع الذي اعتاد أن يكون مدنياً، إلى ثكنة تلقى فيها الأوامر على وقع الصحف السياسية الحزبية، عند الأشقاء/ المتاريس.
الخطاب مبتذل وغبي لدرجة أن لا حاجة لمحاججته. الطنبور الإيراني يزيد من حدة نشازه بإنجازات تقنية يُراد منها دفع السطوة إلى مدارج الفضاء، والجار التركي يفتتح العهدة الإنسانية بالتوسّط لدى المتصارعين على خلفية إنكاره المجازر الأرمنية السابقة والمجازر الكردية اللاحقة واحتلال نصف نجمة المتوسط. وفي السطوة المتعاقبة، عسكر يقوّمون موازين السماء، لكنهم يبدون أسفاً ممهوراً بمواثيق علنية: مساعدات لدكاكين الجهاد، بضاعة ونصاعة لضمان نجاح الانقلاب وانسحاب مسرحي من منتدى اقتصادي، بينما المناورات العسكرية والاقتصادية على قدم وركبة وساق.
المستقبل