مـن بعيـد
ساطع نور الدين
ما زال من الصعب التقاط الفكرة الرئيسية من رفع الستار في لاهاي امس عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي لم يكن لها قوس او منصة للقضاة او زاوية للشهود او قفص للمتهمين. كانت الكاميرا هي اداة العدالة وكان الميكروفون هو سلاحها. بدا القاضي دانيال بيلمار مثل شاهد، اكثر من كونه صار مدعيا عاما.
كان الحفل اشبه بالاعلان عن انتقال التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم المتصلة بها الى لاهاي، اكثر مما كان ايذانا بانطلاق اعمال المحكمة الدولية. كان اشبه بتحذير جديد للجناة، وبتطمين اضافي للشهود، وبتهدئة جديدة لاصحاب القضية، الذين تعبوا من الانتظار الصعب طوال السنوات الاربع الماضية، وكانوا يلحون على معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة.
اختيار موعد الحفل محير بعض الشيء، ومتسرع قليلا. الكل يعرف ان اللافتة التي ظهرت خلف الستار حاملة اسم المحكمة وضعت على عجل، مثلها مثل الكثير من التحضيرات الاجرائية والعملية التي لم تكتمل، بل لم تبدأ بعد، في ذلك المبنى الذي قدم مؤخرا الى الاعلام، بطريقة مثيرة للتساؤل عما اذا كانت الامم المتحدة جدية فعلا في تحمل تلك المسؤولية الخاصة تجاه لبنان، ام انها تنظم عرضا مسرحيا مثيرا للاعلاميين.
لكن، يبدو ان ثمة جهة ما قررت المضي قدما في اجراء الحفل في موعده المضروب سلفا، غير آبهة بالحرج الذي يمكن ان يصيب المدعي العام عندما يضطر الى المثول الى الصحافيين والرد على اسئلتهم الصعبة بطريقة لا تسيء الى التحقيق، ولا تكشف ما لديه من ادلة وشهود، كما لا تخفي حاجته الى المزيد من الوقت كي يتوصل الى اصدار القرارات الاتهامية.
لم تكن الامم المتحدة هي التي اتخذت هذا القرار، لا الامين العام بان كي مون، ولا مجلس الامن طبعا. ولا يمكن ان يكون المدعي العام نفسه هو الذي عرض نفسه لمثل هذا الاختبار السابق لاوانه، حتى ولو ان ما يملكه من قرائن قوي جدا، ويسمح بالانتقال الى المرحلة الاخيرة من التحقيق والمرحـــلة الاولى من المــحكمة، بحسب ما اكد في لقاءاته الوداعية في بيروت الاسبوع الماضي.
الخروج من لبنان في هذا الوقت بالذات لم يكن عبثا. لعل الجهة التي شجعت تنظيم حفل لاهاي، شعرت بان الاقتراب من اللحظات الحرجة في التحقيق يفوق قدرة اللبنانيين على الاحتمال، او يتعدى رغبة بعضهم في استثمار تلك اللحظات في المعارك السياسية الداخلية. ولعلها ايضا ادركت ان افتتاح المحكمة ولو بشكل صوري، يعلن ان الأوان قد آن لبدء مرحلة جديدة من التفاوض حولها، تدخل في سياقات اخرى من التفاوض الذي فتح للتو على جبهات اخرى..
افضل ما يمكن ان يفعله اللبنانيون من الآن فصاعدا هو ان يتفرجوا، من بعيد قدر الامكان، على الشكل الذي سيختم فيه التحقيق ، والمدى الذي يمكن ان تصل اليه المحكمة.